ينبغي قبل أن نبدأ بمقاربة رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للكاتب الليبي محمد النَّعاس أن نتحدَّث عن أسلوب السرد الذي ميَّز الرواية عن الكثير من الروايات، فالبطل أو الشخصية الرئيسة في الرواية هو السارد نفسه الذي يسرد أحداث الرواية على متلقٍ متخيلٍ يخاطبه بشكل مباشر يجالسه ويبادله الحديث، ومن الممتع أنَّ المتلقي ليس أحداً سوى (أنت)، لذلك فإنَّ القارئ يجالس السارد ويعايش معه التجربة؛ لأنَّه هو المقصود في الخطاب لوحده، فيشعر أنَّه معنيٌّ بإيجاد الحلول للمشكلات التي يغوص فيها البطل تباعاً، ويمكن للقارئ بناء على ذلك أن يحظى من السارد بدعوة لشرب فنجان قهوة، أو تناول كعكة من صنع يديه أو الذهاب في جولة في أرجاء بيته بينما تتصارع الأحداث التي تعتمد على ذكريات مسترجعة من الماضي، تتقاطع وتتشابك إلى أن تصل إلى ذروتها في نهاية الرواية، أو إلى نهاية اللقاء بينك وبين شخصية الرواية الرئيسة (ميلاد).
وإذا تعمَّقنا في الرواية أكثر سنجد أنَّ الخبز (دقيق، ماء، خميرة، ملح) هو البطل الحقيقي لرواية النعَّاس، إذ لا يغيب الخبز عن تفاصيل الرواية بكلِّ تجلياته، وبما يحمله من دلالات تحيل على الحياة البشرية وتفاوت طبقات البشر الذين عرفوا كيف يتقوَّتوا عندم اكتشفوا كيف يصنع الخبز، وكما يشير الحاج مختار وهو يعلِّم ميلاد صناعة الخبز فإنَّ سر نجاح الخبز متعلِّق بثالوث محدَّد هو (القلب والعقل واليدان) ويأتي القلب في قمَّة هرم هذا الثالوث، وكأنَّ الكاتب يغمز إلى أنَّ البشر مثل الخبز يتفاوتون فيما بينهم في الطباع والأمزجة والأخلاق والمواهب والطبقات كما يتفاوت الخبز في أنواعه وأشكاله، ويبدو أنَّ سر الخبز الذي نجح ميلاد في استحضاره أثناء تحضيره للخبز (الحب) خذله هو شخصياً في الحياة، إذ عانى ميلاد من نقص وتناقض وضعف في شخصيته جعلنا نقف أمام شخصية إشكالية تعارك الحياة طيلة أحداث الرواية.
يعتمد الكاتب على المقولات المفاتيح التي تعدُّ علامات يستدلُّ بها القارئ، مثل (عيلة وخالها ميلاد) وهي مقولة شعبية ليبية تدل على الرجل الذي لا سلطة له على النساء من عائلته، (تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة) كناية عن أفضلية الرجولة على الأنوثة، (الفرس من راكبها) بمعنى أنَّ المرأة تتخلَّق بأخلاق زوجها أو ربِّ أسرتها، (اضرب القطُّوسة تتربَّى العروسة) وهو يشابه مثل عندنا في بلاد الشام الذي يقول (اقطع راس القط من أول ليلة) وذلك لفرض فحولة الرجل منذ أول ليلة في زواجه، إنَّ تلك المقولات هي الصُّوى التي وضعها الكاتب لربط الدلالات التي يستهدفها الكاتب من الأحداث، وللتعمق أكثر في شخصية ميلاد غير المتوازنة.
المجتمع الذي يمتلك بنية ذهنية ذات نظام أبوي بطريركي يمنح الحق للرجل ويحاسب المرأة على أخطائها
يتلقى ميلاد الصفعة الأقوى في حياته من قِبَل أبيه، هذه الصفعة التي ستبدأ معها مشكلات ميلاد تطفو على السطح، فقد كان الصبي ميَّالاً للحياة الناعمة بين أخواته البنات؛ ذلك لأنَّه الذكر الوحيد بينهنَّ، وقد أراد له والده أن يكون خشناً في تعامله معهنَّ اعتماداً على ما هو شائع في البيئة الشعبية في ليبية، فيقول له: "لا يجوز للرجل أن يجالس النساء، إنَّهما كالملح والخميرة" اللذين يفسد الخبز باختلاطهما المباشر مع بعضهما البعض، وتبدأ معاناة ميلاد حينما لم يستطع تجاوز ذلك النقص في هويته على الرغم من استماتته ليكون ضمن المضمار الذكوري والدليل على ذلك إعجابه بأبيه وبابن عمه، حيث يفرض عليه المجتمع طريقة خاصة في التعامل مع النساء، على اعتبار أنَّ الذكر هو مالك السلطة العليا انطلاقاً من مفاهيم المجتمع الأبوي الذي يقدِّس الرجل، ويجعل سائر نساء أسرته تابعات له، ينفِّذن أوامره دون نقاش أو جدال، وأيُّ خروج عن أوامره يعدُّ عصياناً تستحق مَنْ تخالفها الضرب والشتم والإهانة، بل يعدُّ ذلك حقاً مشرَّعاً للرجل.
وتتضاعف معاناة ميلاد حين يلتحق بالجيش تنفيذاً لوصية أبيه قبل موته، ليجد نفسه رغماً عنه صورة مشوَّهة عن رجال مجتمعه، لذلك كان لقبه هناك (ميلاد العجينة)، فتتعمَّق داخله مشاعر التناقض والصراع مع العالم حين يتعرَّض لسخرية رفاقه وسخرية الضابط المسؤول عن تدريب العساكر الجدد (المادونَّا) في الجيش، لتكون أول محاولة انتحار له بعد فشله من التسلل خارج معسكر الجيش هرباً من الواقع الذي ما استطاع ميلاد مجاراته والتعامل معه، فيخرج من هذه التجربة يجرُّ أذيال الفشل والخيبة، وتلاحقه ذكريات الجيش كأنَّها الكابوس طيلة حياته.
وتتضخَّم مشكلة ميلاد مع هويته الناقصة حين يتزوَّج زينب الفتاة الحالمة والطامحة للانفتاح والتحرُّر والتي تتناقض معه في كثير من الصفات، وتتأزَّم علاقته معها من منحيين؛ الأول هو تبدُّل الأدوار الاجتماعية بين الزوجين، فبينما تخرج زينب كلَّ صباح إلى عملها في مؤسسة حكومية، يبقى ميلاد عاطلاً عن العمل يخبز ويطهي الطعام وينظف البيت ويغسل الثياب، يكويها ويطويها، أمَّا الثاني فيتمركز في عدم قدرته على كبح جموح طموح زينب غير المحدودة؛ لأنَّه كان يشعر دائماً بالخوف من فقدانها، لذلك كان يسايرها وإن تجاوزت الخطوط الحمراء التي لا تسمح بها العادات والتقاليد أو حتى الأخلاق، مبرِّراً أفعالها في كلِّ مرة، ويعمِّق من مآساته عدم قدرته على إنجاب الأطفال، وفشله في أن يكون أباً، ممَّا جعله في علاقته مع زوجته دائماً في الطرف الأضعف، لذلك فهو يحاول الانتحار مرتين عندما يدخل معها في شجار، إذ يرى أنَّ الهروب من العالم أو من فقد زينب هو الحلُّ الأنجع حين تكون كلُّ الحلول غير مجدية، ومع ذلك تفشل محاولاته بالانتحار.
أمَّا علاقته مع أسرته وبالتحديد أخواته البنات فقد كانت تتأرجح فلا تستقر على حال، وذلك تبعاً للعوامل الخارجية، ونقصد بتلك العوامل الكلام الذي كان العبسي ابن عمه يستفزُّ رجولته به، فكان ينقل لميلاد ما يتقوَّله الناس على سمعته، وعلى عدم رجولته، لذلك فقد كان ليناً معهم إلى درجة غير مقبولة، فكان مثلاً ينزع لهنَّ الشعر عن سيقانهنَّ، وفي مرات أخرى كان يؤنبهنَّ ويزجرهنَّ مسايراً العبسي الذي يمثِّل نموذج الرجل الشرقي المثالي في المجتمع الليبي، ففي حين كان العبسي يثرثر على نساء عائلته، ويتحدَّث على نساء قريته بالسوء، فيهتك أعراضهنَّ، كان لا يوفر فرصة لمتعة جسده، انطلاقاً من أنَّ الرجل لا يعيبه شيء.
يختم الكاتب الرواية بانتصار ميلاد لمنظومته الاجتماعية، وذلك حين قتل زوجته التي كانت قد خانته مع رئيسها في العمل، وذلك غسلاً للعار وتمكيناً لذكوريته التي كان يجاهد لكي يثبتها في كلِّ مرة، وذلك على الرغم من أنَّه كان في الوقت نفسه يخونها مع صديقتها، فالمجتمع الذي يمتلك بنية ذهنية ذات نظام أبوي بطريركي يمنح الحق للرجل ويحاسب المرأة على أخطائها، وهو ما أراد محمد النَّعاس أن يشير إليه من خلال الرواية التي نقلت صورة المجتمعات العربية ذات النظام الأبوي من دون أيِّ تزييف أو تجميل ليضعنا وجهاً لوجه أمام حقيقة المنظومة الاجتماعية التي آن الآوان لتتغير بمفاهيمها وتصوراتها.