امتلأت الساحات والشواطئ العامة في بيروت بنازحين قدموا من جنوبي لبنان وتحديداً من الضاحية الجنوبية، والمحظوظون بينهم حملوا معهم مراتب وبطانيات ليناموا عليها. إذ منذ مساء 27 أيلول، وعقب الغارة الإسرائيلية التي قتلت زعيم حزب الله حسن نصر الله، احتشد آلاف الأهالي الذين صدمهم الخبر في العراء، بما أن الجيش الإسرائيلي حذر من احتمال شن مزيد من الغارات على بيروت، فخلت الضاحية الجنوبية من أهلها في غضون ساعات، بما أنها تُعرف بأنها معقل الطائفة الشيعية في البلد، وهكذا توجه الناس نحو أجزاء أخرى من العاصمة وغيرها طلباً للأمان.
في عام 2019، تحولت ساحة الشهداء ببيروت إلى مركز للاحتجاجات الشعبية التي قامت ضد الطبقة السياسية الفاسدة بلبنان والتي كان حزب الله يعتبر حامياً لها، أما اليوم، فقد تحولت تلك الساحة إلى مأوى للفارين من الضاحية، معقل حزب الله حيث قتل نصر الله، بما إنها إحدى المناطق التي تركز عليها إسرائيل في غاراتها الجوية الحالية. وبينما نام أنصار حزب الله في الشوارع، وفي الوقت الذي يشهد لبنان أكبر أزمة نزوح في تاريخه، لم يعد لحزب الله أي ظهور في أي مكان، وبذلك أصبح أنصاره يعتمدون على حكومة تصريف الأعمال التي يسودها الفوضى والاضطراب وعلى أبناء جلدتهم من المواطنين اللبنانيين في مد يد العون لهم، أما حزب الله نفسه فلم يقدم سوى قدر ضئيل من المساعدة للنازحين.
في الثامن والعشرين من شهر أيلول، ومع انتشار خبر تأكيد الحزب لمقتل زعيمه نصر الله، خيمت الكآبة على أجواء ساحة الشهداء، وتعالت صيحات الألم والنحيب والدموع، وأخذت نساء متوشحات ببراقع سود ورجال ملتحون يبكون رحيل رجل الدين الذي يؤيدونه والذي يتمتع بكاريزما وجاذبية كبيرة، أما على التلفاز، فقد انفجر المذيعون الذين أذاعوا الخبر بالبكاء على الهواء مباشرة، وفي شوارع بيروت الغربية، أطلق بعض الناس النار من أسلحتهم في الهواء للتعبير عن يأسهم من كل ما يجري.
منذ مقتل نصر الله وإسرائيل تواصل استهدافها لقيادات حزب الله، إذ في 29 من أيلول، أكد الحزب مقتل نبيل قاووق وهو أحد كبار المسؤولين في الحزب، في حين تواصلت غارات جوية متقطعة ضربها للضاحية وعموم الجنوب اللبناني، بعضها وصل صدى تفجيرها إلى ساحة الشهداء، ما أثار موجة من الرعب ودفع ألسنة بعض الناس لأن تلهج بالدعاء. وفي موقع الغارة التي قتلت نصر الله، بقيت فرق الإنقاذ تحفر طوال يومي السبت والأحد بحثاً عن جثث أخرى لتنتشلها. لينتشر في 29 أيلول، خبر انتشال جثة حزب الله من موقع الاستهداف، ويبدو أن جثته بقيت سليمة حسبما قيل.
صدمة اغتيال نصر الله
صدم اغتيال إسرائيل لزعيم حزب الله البلد برمتها، وكذلك الأمر بالنسبة للدمار الذي طال قيادات الحزب بين ليلة وضحاها، وهذا ما أثار صدمة ووجوماً لدى أتباعه وأنصاره، وذلك لأن كثيرين يعتبرون هيمنة حزب الله على الدولة اللبنانية أمراً لا يمكن لأحد تغييره، وهذا ما جعله يتعرض لانتقادات حادة من مختلف شخصيات الطيف السياسي والطائفي خلال العقدين الماضيين، على الرغم من التبعات القاتلة التي تترتب على هذا الانتقاد، إذ ذكر جنرال مسيحي متقاعد من الجيش اللبناني أنه شرب نخب مقتل نصر الله ابتهاجاً وفرحاً.
ولكن هذا الرجل يمثل الاستثناء، وبكل تأكيد لم يعلن عن فرحته العارمة أمام الناس، فالمذيعة اللبنانية ديما صادق التي وصلت إليها تهديدات بالقتل خلال السنوات الماضية بسبب انتقادها لنصر الله علناً، كرهت هي الأخرى الإعلان عن فرحتها على الملأ، فكتبت لمتابعيها البالغ عددهم 800 ألف على منصة إكس: "رأيت في نومي بأننا سننتصر عليكم عبر جبهة وطنية في معركة الحرية والدولة، ولكن ليس بهذه الطريقة، فقد حلمنا باليوم الذي تنتصر فيه الحرية، وليس بلحظة انتصار السفاح".
كما أن هنالك كثيرا من اللبنانيين الذين ينتقدون حزب الله بشدة، إلا أنهم أبدَوا معارضتهم الأشد لإسرائيل، فقد قال كريم بيطار وهو أستاذ بجامعة القديس يوسف ببيروت: "لا يستهينن أحد بصدمة الشعب اللبناني، فهنالك جيل بكامله استفاق على السياسة، وها هي إسرائيل تزرع بذور حروب المستقبل".
طرحت أسئلة كثيرة حول استراتيجية حزب الله خلال السنة الماضية، وكان من بين من طرحوها موالون مخلصون للحزب، إذ تساءل بعضهم عن سبب تحملهم اليوم للمعاناة بالنيابة عن غيرهم، فقد قال فواز محمد الذي نزح مع النازحين مساء يوم 27 أيلول: "قلبي مع غزة، والفلسطينيين، ولكني لبناني بالدرجة الأولى، وسنصبح أقوى بعد استشهاد السيد، ولكني أود أن أسأل لماذا يجب علي وعلى أهلي أن ننام في الشارع؟".
الاغتيالات السياسية في لبنان
احتلت الاغتيالات مكانة مهمة في تاريخ لبنان المعاصر، فقد ترك اغتيال بشير الجميل الذي احتل منصب الرئيس لفترة قصيرة بعد انتخابه في عام 1982 الطائفة المارونية التي ينتمي إليها يتيمة بلا زعيم، وأتى اغتياله كلحظة حاسمة في الحرب الأهلية التي عاشتها البلد لمدة 15 عاماً. وكذلك الأمر عند اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، في عام 2005، ودفع لإنهاء عقود من سيطرة النظام السوري على لبنان. وخلال الأسابيع والشهور المقبلة، سيشهد البلد كيف سيؤثر مقتل نصر الله على الطائفة، في حال لم يتمكن حزب الله من القيام من بين الرماد بطريقة أو بأخرى، ولكن في كلتا الحالتين، ستترتب عواقب كارثية على الحروب بالوكالة التي تخوضها إسرائيل وإيران.
يعيش لبنان اليوم مرحلة حداد وحزن تمتد لثلاثة أيام، ولكن الحرب مستمرة فيه، وأشد ما يخيف هذا البلد الذي يعاني من صدمة كبيرة هو ما الذي سيحل به بعد كل ذلك.
المصدر: The Economist