الإسلاموفوبيا إذ تتوكّأ على العلم

2022.04.02 | 06:18 دمشق

69467965709479567979.jpg
+A
حجم الخط
-A

القادمون إلى أوروبا من البلدان الإسلامية يلاحظون أن المدن الأوروبية ممتلئة بالكنائس، تماماً كما تمتلئ المدن الإسلامية بالمساجد. لكن بينما تكون المساجد شرايين حياة نابضة في المدن الإسلامية وعامرة بالناس على مدار اليوم والليلة، فإن الكنائس في أوروبا خاوية ومغلقة، بعضها مهيب وكبير لكنه مخيف كجثّة قتيلٍ في وسط الطريق.

وبينما يُعتبر منظر الأطفال وهم يتمشون برفقة والديهم مشهداً مألوفاً في المدن الإسلامية، فإن المشهد المقابل في الغرب هو لرجلٍ يمشي لوحده (أو امرأة لوحدها) وبرفقته كلب، وأحياناً أكثر من كلب. الأطفال في أوروبا عملةٌ نادرة. لقد حلّ الكلب محلّ الطفل في مجتمعاتٍ لا تدافع عن زواج المثليّين فحسب، بل تشجّع عليه وتروّج للمثلية الجنسية التي تنسف مفهوم الأسرة من جذوره. فالزواج لم يعد له ثمرة، والأسرة لم تعد قيمةً إيجابية، وإنجاب طفل لم يعد مدعاة سكينة وراحة لأحد. ولهذا السبب طالما يرحل الناس عن الحياة في أوروبا وحيدين معزولين ليس لهم ولدٌ ولا تلد.

اليمين المتطرف الأوروبي ينساق للقفز فوق الأسئلة الكبرى ويتجاهل الأسباب الذاتية لهذا التآكل البطيء بإلقاء التهم على الإسلام والمسلمين

وهكذا فرغم التقدم الحضاري الهائل في كثيرٍ من أوجه الحياة في أوروبا مقارنةً بالعالم الإسلامي فإن المرء لا يفوته أن يلاحظ أن هناك أشياء لا تسير على ما يرام، وهو شعور غامر ومقلق يضرب في أعماق الكثير من المفكرين والعلماء ورجال الدولة وحتى المواطنين العاديّين في أوروبا نفسها. ولكنّ اليمين المتطرف الأوروبي ينساق للقفز فوق الأسئلة الكبرى ويتجاهل الأسباب الذاتية لهذا التآكل البطيء بإلقاء التهم على الإسلام والمسلمين ويحمّل الجاليات الإسلامية في أوروبا مسؤولية تلويث الهويّة الأوروبية والسمات المميّزة للفرد الأوروبي بما يهدّد بزوال أوروبا نفسها في المئة أو المئتي سنة القادمة. والبعض من أنصار اليمين من الكتّاب والمفكرين صار يحاول الاتكاء على العلم لتبرير عنصريته وكراهيته.

وفقاً للأكاديمي البريطاني إدوارد دوتون في كتابه: الإسلام من منظور دارويني

 

(Islam: An Evolutionary Perspective, Edward Dutton, Washington Summit Publishers, USA, 2021.)

فإن الدين الإسلامي يتسبب بانخفاض ذكاء الفرد وبالتالي تدهور ذكاء المجتمع ككل. وهكذا فبحسب هذا اليميني المتطرف والذي يوصف عادةً بأنه معاد للإسلام ومؤيّد للنازيّين الجدد، فإن المسلمين الذين يعيشون ويتكاثرون بسرعة في أوروبا سوف يحطّون من نسبة ذكاء المجتمعات الأوروبية في نهاية المطاف.

يطرح الكتاب الافتراضات التالية: لقد طورت أوروبا بعد الثورة الصناعية أنماطاً حضارية سامية جعلت الأوروبيين أقلّ تديناً وأكثر ذكاءً. لذلك فهم أقلّ غرائزية، وأكثر انفتاحاً ولا تحدوهم أي رغبة للقتال من أجل المجموع. فالأفكار الليبرالية والتحررية نسفت ثنائيات من قبيل "نحن وهم" كما أن التمرد على الدين ألغى كل معنى للنضال من أجل أهدافٍ "ما ورائية" وبسبب كلّ ذلك ترحّب الدول الأوروبية بالمهاجرين واللاجئين المسلمين على أراضيها من دون أن تعير بالاً لخطورة الهجرة.

أما المسلمون فهم بالمقابل باقون على انغلاقهم وتكتّلهم عندما ينتقلون للعيش في أوروبا، بل وعلى عدائهم للمجتمعات المضيفة. ولأن معدّل الولادات عند المسلمين أعلى بكثيرٍ مما لدى الأوروبيين، فإن الإسلام سيسود في أوروبا في نهاية المطاف. سوف يُزيح الأغبياءُ الأذكياءَ سواء بتكاثر الأغبياء أنفسهم أو بتزاوجهم مع الأذكياء، والنتيجة في الحالتين واحدة.

ودوتون المختصّ بعلم النفس التطوري يستند في التحليل إلى فكرة معروفة في علم التطور الدارويني، وهي الانتخاب الطبيعي بين الجماعات. فالمسلمون "ناجحون" في معركة الانتقاء الطبيعي لأنهم -رغم قلّة ذكائهم- متكاتفون كجماعةٍ مؤمنة، وكثيرو الأولاد يرغبون بالإنجاب دائماً ما دام الإسلام يمدّهم بالمعنى في الحياة، عكس الأوروبيين الذين تخاصموا مع الدين من فترةٍ طويلة وضربهم مزاجٌ مقلق من العدمية وغياب المعنى كما لو أن "القصة وصلت إلى نهايتها" حسب الكاتب، الذي يمضي ليزعم أن الإسلام وهو يقلّل من ذكاء أتباعه، فإنه يجعلهم أقرب إلى غرائزهم، وهذا أمر جيد للنجاح في التطور الدارويني. فالمسلمون عندهم مشاعر "قبليّة" عالية كجماعة وهم مستعدون أكثر من الأوروبيين للقتال من أجل جماعتهم.

ويمضي إدوارد دوتون في إضفاء الطابع العلمي على نظراته العنصرية المفضوحة ليشرح لماذا المسلمون أغبياء ولا يدانون الأوروبيين بذكائهم؟ فيزعم أن الأطفال المسلمين في أوروبا يحصلون على درجات أقل في اختبار معدّل الذكاء IQ مما يحصل عليه الأطفال الأوروبيون. وهو يردّ ذلك إلى الإسلام نفسه، فهو يسلب الطفل القدرة على التفكير العقلاني من خلال فرض الإيمان قسراً من قبل الوالدين. كما أن الطفل المسلم ينمو في بيئةٍ من الأفكار الغيبية الجاهزة التي لا تساعد في تحريض فكره ومحاكمته العقلية. يتناسى الكاتب أن الإيمان ظاهرة كونية موجودة في كلّ الأديان ولا تقتصر على الإسلام، وهو يجهل ربما أن الإسلام يحرّض أتباعه على التفكّر وإعمال العقل ويضع العلماء في مرتبةٍ قريبةٍ من مرتبة الأنبياء.

لكنّ دوتون يصرّ على الاتكاء على علمٍ زائفٍ ليشرح لنا لماذا تسهم أركان الإسلام كالصلاة والصيام والزكاة في تخلّف المسلمين عن الأوروبيين.

فصلاة الفجر مثلاً لا تساعد في أن يحظى المسلمون بنومٍ جيّد، والصلوات الأخرى خلال النهار تجعلهم يقطعون أعمالهم ويضيّعون أوقاتهم. هل نشكر الكاتب على حرصه على أن ينام المسلمون بهناءة؟!

ويصول إدوارد دوتون ويجول حتى يعطينا الاستنتاج التالي: بسبب تقليلها لذكاء الفرد، فقد نجحت الحضارة الإسلامية بالإبقاء على حالةٍ من التوازن بين "ذكاء المجموع" والمشاعر العصبية القبليّة التي تجعل المسلمين حريصين على الانتصار والسيطرة على الجماعات المنافسة. وهكذا ففي معركة البقاء الدارويني بين الحضارات اليوم فإن أوروبا تتراجع والإسلام يتقدم.

ويتساءل دوتون إن كانت أوروبا قد أخطأت عندما طوّرت ثقافة تقوم على الروح الفردية والذكاء المفرِط، وهو ما أدّى في النهاية إلى خفوت الروح القبلية عند الأوروبيين. وهو ينتقد ذلك التطور الذي طرأ على المسيحية في الغرب عندما بدأ الناس ينظرون إلى الإيمان على أنه محبة الغير وإلى الإله على أنه مجرد شعور عميق بالرهبة. ثم يقترح أن العلاج لأوروبا هو تبني سلاح من يهدّد زوالها، أي المسلمين. على أوروبا برأيه أن تصبح أكثر تمركزاً على ذاتها وأكثر غرائزيّة وقبليّة. وكي تحقق ذلك لا بدّ من إيجاد بديل للعدمية الدينية والعبقرية الفردية وإعادة إنتاج شروط النجاح في التطور الدارويني بين الجماعات، بحيث يصير الأوروبيون أكثر غرائزية وتديناً وقبليّة، وأكثر استعداداً للتضحية والقتال من أجل المجموع.

مشكلة أوروبا ومشكلته شخصياً ليست الإسلام كدين، وإنما الإسلاموفوبيا كظاهرة مَرَضية تسلب الكثيرين في أوروبا، ومن ضمنهم الكاتب، القدرة على التفكير العقلاني في المشكلات والتحدّيات

عند هذه النقطة تتهاوى الدعاوى العلمية للكاتب ويناقض نفسه بنفسه فنراه يقترح على أوروبا اعتناق المسيحية الأرثوذكسية كسلاحٍ للدفع ضد الإسلام. فهو يعتقد أن هذه النسخة الشرقية من المسيحية أبدت مقاومةً ناجحة للإيديولوجيات العلمانية وذلك بسبب تركيبتها التي تقوم على الطقوس أكثر من العقيدة. ولسوف تروق الأرثوذكسية للعقل الأوروبي لكونها تشبه ماضي أوروبا الوثني، ثم هي إلى ذلك شرقية، مثل الإسلام، وممتلئة بالأسرار الصوفية. ولذلك فهي قادرة على منافسة الإسلام والتخلّص من تهديداته في أوروبا.

بالمحصّلة لقد فشل إدوارد دوتون في استجرار العلم إلى ميادين العنصرية والكراهية عندما دعا لاستبدال دينٍ بدين مفنّداً نفسه بنفسه وكاشفاً أن مشكلة أوروبا ومشكلته شخصياً ليست الإسلام كدين، وإنما الإسلاموفوبيا كظاهرة مَرَضية تسلب الكثيرين في أوروبا، ومن ضمنهم الكاتب، القدرةَ على التفكير العقلاني في المشكلات والتحدّيات التي تواجهها القارّة العجوز.