ويل ديورانت في دمشق

2024.11.18 | 06:48 دمشق

قصة الحضارة
+A
حجم الخط
-A

في عام 1912 زار دمشق كاتب أميركي مبتدئ اسمه ويل ديورانت. كان ديورانت مهتماً بالفلسفة والتاريخ وكانت الحماسة تغمره في رحلته الأولى إلى بلاد الشرق العتيقة. لكنه ولسبب مجهول أصيب بالزحار، وهو مرض خطير في ذلك الزمن يصيب الأمعاء والجهاز الهضمي. وهكذا مكث ديورانت في الفراش أياماً غير قادرٍ على مغادرة الفندق. ويبدو أن الوهن قد أضعف معنوياته فقد راح يفكر بمصيره وهو بعيدٌ عن وطنه وأثقل على روحه طيف المؤرخ البريطاني هنري توماس باكل الذي أصيب بالمرض نفسه، وفي دمشق أيضاً إلى أن مات فيها عام 1862. لقد كان ديورانت على درايةٍ واسعة بأعمال باكل وخصوصاً كتابه عن تاريخ الحضارة الإنسانية، وهو مشروع كان باكل قد بدأه ثم مات على نحوٍ مفجع في دمشق قبل إتمامه. وهكذا خطر لديورانت خاطر. فقد نذر على نفسه – إن أنجاه الله من مرض الزحار – أن يكمل مشروع باكل، فقد شعر بنوعٍ من التوحد الروحي معه وهو على سرير المرض في دمشق. من قال إن الأرواح لا تتخاطب؟

هكذا إذاً ولدت فكرة أعظم كتاب في تاريخ الحضارة من دمشق. فمع أن ديورانت تأخر في الوفاء بنذره حتى عام 1927 إلا أنه أمضي فعلياً باقي عمره يعمل على موسوعة (قصة الحضارة) التي وضعها في أحد عشر مجلداً من القياس الكبير ولم يكملها حتى عام 1975 قبل ستّ سنواتٍ فقط من وفاته. عاش ديورانت إذاً 96 سنة بتمامها وبقي ينشط بالتفكير والكتابة حتى آخر يومٍ في حياته. وقد وفّى بنذره القديم في دمشق، فوفت له الحياة أيضاً وأعطته عمراً مديداً مثمراً ومكللاً بالنجاح بالإضافة إلى زوجةٍ محبة شاركته العمل على موسوعته ورافقته العمر كله، ثم لما مات لحقت به بعد خمسة أسابيع فقط.  

اللافت في (قصة الحضارة) إنصاف المؤلف للحضارات الشرقية القديمة والحضارة العربية الإسلامية وإسهامات العرب في التاريخ، والإنصاف أصبح عملة نادرة جداً في كتابات المؤرخين الغربيين، وخصوصاً في الأجيال التي تلت جيل ديورانت

كانت موسوعة (قصة الحضارة) من الأهمية لدرجة أن جامعة الدول العربية – وفي حالةٍ نادرة من النشاط المفيد – تكفلت بترجمتها وطباعتها للجمهور العربي أول بأول بينما كان ديورانت ما يزال يعمل عليها. وعندما اكتملت الموسوعة كانت قد صدرت بطبعةٍ عربية ممتازة من 42 جزءاً بترجمة احترافية بديعة قام بها كل من محمد بدران وزكي نجيب محمود. واليوم لا تكاد تخلو مكتبة عامة في البلدان العربية من (قصة الحضارة) ولا يوجد مثقف عربي لم يسمع بها ويقرأ فيها.

تميز أسلوب ديورانت في موسوعته بالبساطة والوضوح واستخدام لغة أدبية شاعرة في سرد أحداث الماضي وخصوصاً ما يتعلق منها بالتاريخ الثقافي للشعوب ومصائر الأقوام والأفراد والدول والحضارات. أخذ بعض النقاد على الموسوعة الاعتماد على مصادر ثانوية أو غير كافية، وعدم الدقة في سرد بعض التفاصيل السياسية، لكن ديورانت لم يضع كتابه للمتخصصين، بل للقارئ العادي وهو لم يكن ينظر للتاريخ كعلم يشبه العلوم البحتة في ضبطها ودقتها، بل كنوع من الفلسفة التي يكثر منها وهو يأخذ بيد القارئ من أرضٍ إلى أرض ومن عصر إلى عصر بينما يدلي بتعليقاته الساحرة وحكمته العميقة التي تأتّت له عبر رحلاته وعبر اطلاعه الكبير على سيرة الحضارة منذ العصور الحجرية حتى العصر الحديث، ويقال إن ديورانت قرأ 5000 كتاب كل مرة كتب فيها جزءاً واحداً من موسوعته.

واللافت في (قصة الحضارة) إنصاف المؤلف للحضارات الشرقية القديمة والحضارة العربية الإسلامية وإسهامات العرب في التاريخ، والإنصاف أصبح عملة نادرة جداً في كتابات المؤرخين الغربيين، وخصوصاً في الأجيال التي تلت جيل ديورانت في العقود الأخيرة. فنحن نرى أن القصة - قصة الحضارة التي يحكيها لنا ديورانت - تبدأ فصلها الأول من الشرق الذي يقول ديورانت بلا لبس إنه منطلق التمدن الإنساني، ولعل هذا هو السبب أن موسوعة ديورانت لقيت من العناية في الأوساط العربية ما لم تلقه في الأوساط الغربية. ومع ذلك، فقد حصل ديورانت على جائزة بولتزر المرموقة عام 1968 عن الجزء العاشر من الموسوعة الذي تناول الثورة الفرنسية وعصر النهضة في فرنسا.

كثيرةٌ هي التعليقات العميقة التي ترسخ في ذهن القارئ كل مرةٍ يسترسل فيها في قراءة (قصة الحضارة). أذكر مثلاً أن ديورانت بعد أن أطنب في الحديث عن الحضارة الفرعونية العظيمة في مصر، ذكر زيارته لهذا البلد ووقوفه أمام الأهرامات في الجيزة. فقد هاله ضخامة الأهرامات وعظم بنيانها، ثم ما لبث على ما يبدو أن تذكر جبروت حكام مصر الأقدمين وطغيانهم إذ استخدموا عشرات آلاف البشر في أعمال السخرة لبناء صروحٍ غير ذات نفعٍ عام، فسارع ديورانت إلى إدانة الأهرامات على أنها ليست إلا "غروراً باطلاً،" معتبراً أن منظر غياب الشمس في الجيزة أعظم وقعاً في النفس من رؤية الأهرامات.