حسب البيانات الأخيرة الصادرة عن وزارة التعليم التركية، فإن عدد الأطفال السوريين في تركيا في سن التعليم الابتدائي حتى الثانوي هو (1,124) مليون طفل سوري؛ 65 في المئة منهم مسجلون في المدارس التركية، أي ما يعادل (730,000)، بينما نسبة (35) في المئة منهم، أي ما يعادل (393,547)، فهم متسربون وغير مسجلين في المدارس، لأسباب مختلفة، لكن أهمها العامل الاقتصادي، وحالات التنمر والمواقف العنصرية التي يتلقونها في مدارسهم.
في بداية تشرين الأول 2016، أوقفت وزارة التربية والتعليم التركي العمل في المدارس السورية المؤقتة، حيث كان الطلاب يتلقون تعليمهم باللغة العربية إلى جانب تعلم اللغة التركية كمادة أساسية، ووزعتهم على المدارس التركية في خطوة نحو إدماج هؤلاء الطلبة مع زملائهم أولاً، ومع المجتمع التركي ثانياً. ورغم معاناة كثير من الطلبة في البداية، وترك بعضهم للمدرسة نتيجة لذلك، استمرت العملية. والخطوة الثانية كانت توزيع المعلمين السوريين على تلك المدارس كوسطاء -وليس كمدرسين- بين الإدارة والطلبة وأهاليهم، وفي مرحلة لاحقة، إنهاء عقودهم ثم إعادة قسم منهم إلى تلك المدارس.
منذ العام الدراسي 2016 - 2017، يتلقى الطلبة السوريون المنهاج التركي، مثلهم مثل الطلبة الأتراك، فهم يدرسون تاريخ وجغرافية تركيا، ويتعلمون عن المناسبات والرموز الوطنية التركية (عيد الاستقلال، الجمهورية، الخ)، لكنهم لا يتلقون أي معلومة عن تاريخ بلدهم ولا لغتهم، وهو الأمر الذي ولّد مشكلة كبرى سنرى نتائجها لاحقاً، سواء عاد هؤلاء الطلبة أم لا إلى بلدهم في يوم ما، فقد أتقنوا اللغة التركية كتابة وقراءة، لكنهم نسوا العربية، سوى ما يتحدثون به في البيت مع أهاليهم، فأحد الطلبة الذي أمضى أكثر من خمسة أعوام في المدارس التركية يسأل أهله هل هذا البلد مفتوح، وقصده منفتح؟ والأمر الثاني، وهو نتيجة لتلك الخطوة التي أبعدت لغتهم وثقافتهم، وللموجة الحالية المطالبة بإعادة السوريين وما يرافقها من مظاهر عنصرية، صار هؤلاء الطلبة، وأحيانا بتشجيع من أهاليهم، لا يتحدثون سوى اللغة التركية خوفاً من أي مشاكل واتهامات يمكن أن تواجههم، أقلها "سوريالي".
منذ العام الدراسي 2016 - 2017، يتلقى الطلبة السوريون المنهاج التركي، مثلهم مثل الطلبة الأتراك، فهم يدرسون تاريخ وجغرافية تركيا، ويتعلمون عن المناسبات والرموز الوطنية التركية
لن يكتمل المشهد من دون الحديث عن التعليم في سوريا كلها، ففي مناطق سيطرة النظام هناك المنهاج المعروف، الذي يكرس عبادة الأسد ويحطم أي إرادة حرّة لدى الطلبة، وفي المناطق الخارجة عن سيطرته، سواء في إدلب، أو في الشمال، فهناك منهاج مختلط، من بقايا منهاج النظام مع حذف كل ما يتعلق بعائلة الأسد، مع التركيز على مواد التربية الإسلامية إضافة للمنهاج التركي، وفي منطقة الجزيرة، منهاج مختلط بين (قسد) ومنهاج النظام. يخلق هذا التعدد في المناهج، إضافة للغات التي يتعلمها الطالب حسب المنطقة التي يسكنها (الروسية في مناطق سيطرة النظام، والتركية في الشمال، والكردية في الجزيرة)، إضافة لاختلاف الرموز "الوطنية" والمناسبات، فضلاً عما تختزنه كل لغة من تعبيرات ثقافية مختلفة، انتماءات عدة تنحصر في منطقته الجغرافية وما يسود فيها بحكم الأمر الواقع من ثقافة وقيم.
يكرس هذا الواقع التعليمي عوامل تجزئة وتفتيت بين السوريين، فتبدو دعوات الهوية الوطنية السورية الجامعة أو غيرها -رغم نيات أصحابها الطيبة- دعوات جوفاء لسبب بسيط، أن تلك الدعوات لا تعدو كونها أصوات سوريين مغتربين، ولأنها لا ترى مثل تلك التغيرات العميقة التي تخلف آثاراً بعيدة المدى. وأهم تلك الآثار، ما تخلقها العملية التربوية والتعليمية لدى الأطفال، حيث اضطروا أن يدخلوا في صراعات وتجاذبات لا ضرورة لها، وأن يتربوا وفق قيم مختلفة، وأكثر هذه الأمور خطورة، هو فقدانهم لانتمائهم، فكثير منهم هنا في تركيا، يعرفون أسماء الولايات التركية، والتواريخ المهمة في حياة الدولة التركية منذ تأسيسها، لكنهم لا يعرفون أسماء المحافظات السورية. وحتى الذين يعيشون في سوريا، فهم أسرى مناطقهم الجغرافية، لدرجة أنها تشكل لهم الفضاء الوحيد في العالم، فالتنقل بين منطقة وأخرى أصعب بكثير من تجاوز حدود الدول، غير كلفته المرهقة وخطورته.
إن تعدد مناهج التعليم في سوريا، وتركيزها على مواد دون غيرها، يفقدها كثيرا من مصداقيتها وحيادتها، ويجعل من الطلبة عرضة لخلخلة انتمائهم الوطني -إن لم يكن قد تخلخل فعلا- وهم الفئة التي سيترتب عليها شاءت أم لا أن تقوم بمهام بناء سوريا مستقبلاً، فكيف لجيل تكرست حدود ثقافية فيما بينه، عدا الحدود الجغرافية، أن يساهم في بناء وطن دمرته سياسات الأسد، وكيف لجيل تعلم لغة أجنبية أخرى، ونسي لغته كثمن مقابل "اندماجه" أن يخرج من هذا الشرخ النفسي والهوياتي، فبدلاً من أن تكون اللغة الجديدة مفتاحاً للدخول إلى عالم آخر، غدت جداراً يحجب انتماءه الأصلي، ويمحي ثقافته، وبالتالي يغدو من الضروري إعادة تعليم اللغة العربية في المدارس التركية كلغة أجنبية اختيارية للطالب التركي، ولغة أصلية للسوري، وهو ما يحافظ على خيط يربط الطالب ببلده وثقافته، ويفتح الباب للتثاقف، للاندماج لا الإدماج.
تكرست لدى الأطفال في سوريا عدّة سوريات، فالذين يدرسون في مناطق سيطرة النظام لا يعرفون شيئا عن غيرها، بل يتهمونها بأنها مناطق للإرهاب والمشاكل، وينطبق الأمر نفسه على الطلبة في بقية المناطق، ومن هنا تغدو حيادية التعليم وزرع التفكير الحر والقيم الإنسانية لدى الطلبة هي المفتاح نحو بناء جيل يمكنه البناء، بعيداً عن الاستقطابات المؤقتة والمصالح الآنية. وخطورة هذه الحال تستدعي من المهتمين بمستقبل سوريا -وخاصة المعارضة- الاهتمام بهذه المشكلة التي سيدفع الجميع ثمنها.