خلال مواجهته لثورة الحرية والكرامة، استنفذ بشار الأسد طاقة جيناته الإجرامية ومؤهلاته المرضية وما يتطلبه الدفاع عن مغانم سلطة استبدادية فاسدة ومنقوصة الشرعية، جاءته نتيجة استغفال والده للمجتمع السوري المسالم بعد أن أعمل فيه أساليب التنكيل والقتل والتدمير في صراع الثمانينيات، وبدا له أنه أخضعه ودجّنه فانكفأت نخبه السياسية، تاركة له الحرية في إدارة شؤون البلاد وتهيئة المناح لتوريث ابنه بشار في سياق تطلعه إلى تأبيد سلالته في حكم البلاد، لتغدو سوريا الأسد قولاً وفعلاً. وحين أدرك اقتراب ساعته أوكل مهمة التوريث لرؤوس نظامه الذين لم يكن أي منهم مؤهلاً ولا يجرؤ أصلا على الإمساك بدفة القيادة لمرحلة انتقالية تنتهي بانتخاب رئيس جديد. لذا سارع هؤلاء إلى تعديل الدستور وحازوا على ترشيح القيادة القطرية ثمّ أعلنوا بشار رئيساً بمباركات الجهات الرسمية والشعبية فراح الوارث يدير إقطاعية الوالد وأمامه مهمتان أساسيتان: أن يحافظ على السلطة ويسلمها لورثته كما جاءته، وأن يثبت حضوره الشخصي كي لا يكون مجرد ظل للأب الغائب، وكان عليه متابعته لعبة العصا والجزرة تحت غطاء التحديث والتطوير، قبل أن يتضح للجميع أن التطوير والتحديث، لا يعني سوى الهيمنة على مداخيل البلاد المادية موزعة على أقاربه ومحازبيه كرامي مخلوف وأسماء الأسد التي أخذت تصعّد دورها في ظروف الصراع ما بعد 2011 حتى باتت رأس شبكة الصفقات والاحتكار والفساد كلها.
لم يدرك السوريون أن سكوتهم عن سجن النائب مأمون الحمصي (المشاغب) الذي عارض تغيير الدستور وتوريث السلطة في مجلس الشعب، يعني أنهم صبوا في خانة المستبد دفعة استبداد إضافية، حتى إذ قام بسجن عشرة ناشطين في (ربيع دمشق) بينهم الأكاديمي المعروف عارف دليلة لفضحه (الفساد والاستبداد) ورجل الأعمال رياض سيف الذي فضح صفقة الخليوي وآخرون، ومن هنا تابع مساره بسجنه كوادر وقياديين من إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي الذي أعلن في بيان مجلسه الوطني الختامي الذي انعقد في دمشق 2007/12/01 القطع مع الاستبداد، ودعا إلى التغيير الديمقراطي السلمي وحمّل النظام مسؤولية المخاطر التي تتهدد سوريا من جهة الغزو الأميركي للعراق نتيجة دفع النظام بإسلاميين سلفيين من سجونه لمحاربة الوجود الأميركي، واللذين سرعان ما أسهموا بتعزيز سعار الحرب الطائفية في العراق وبادروا مع غيرهم إلى إنشاء خلايا تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام وتولّى بعضهم مواقع قيادية فيه.
اعتقل الأسد الموقعين على إعلان دمشق بيروت 2006 وعلى رأسهم المرحوم ميشيل كيلو وأنور البني ومحمود عيسى وآخرون، فارتفعت الاحتجاجات على قمع الحريات والفساد السياسي والإداري
كان الحراك السياسي قد تحرر من خوفه وتهيبه وبدأت الاعتصامات والمنتديات وثقل وزن المعارضة النسبي، بعد اتهام أذناب النظام بقتل الحريري 2005 وحيث انطلقت ثورة الأرز العارمة والتي أدت لإخراج جيش النظام من لبنان، واعتقل الأسد الموقعين على إعلان دمشق بيروت 2006 وعلى رأسهم المرحوم ميشيل كيلو وأنور البني ومحمود عيسى وآخرون، فارتفعت الاحتجاجات على قمع الحريات والفساد السياسي والإداري، ولم تعد تجدي مقولة الحرس القديم والحرس الجديد، لأن كلا الحرسين غرق في الفساد والإفساد حتى أذنيه. وفي ظل غياب أي مشروع تنموي حقيقي وتفشي الفساد العام وبلوغ هيمنة أقارب بشار وزبانيته على نسبة 60% من مقدرات البلاد سواء عبر المقاولات والتوكيلات والنشاطات التجارية والاقتصادية، أو كـ رشاً وفقاً لدرجة القربى من الرئيس والولاء له ومقدار ما يقدمونه له من عوائد استثماراتهم وشركاته معهم، وهو الذي اعتاد الحصول على عائدات التهريب المحمي قبل موت والده، عبر الخط العسكري لبنان/ سوريا والذي بات معروفاً لعمال التحميل السوريين السائبين في المصنع اللبناني وشتورا وكل خطوط التهريب المحمية.
لم يكن أيّ من نواب الرئيس ولا رئيس مجلس الشعب أو رئيس الوزراء، يجرؤ على تسلم سلطات الرئاسة لمرحلة انتقالية، ريثما تجري انتخابات دستورية لاختيار رئيس البلاد، لأنه لم يكن واردا ولا ممكنا التجاوز على ترتيبات حافظ الأسد الذي استلبهم وأرهبهم (حياً وميتاً) فتوافقوا على رئيس الضرورة الوحيد ليكون (الولد سر أبيه) والمخوّل بالحفاظ على نهج الأب وتأبيد سيطرة البيت الرئاسي. ومن فكرة هذا التأبيد وثقافته، استولد نظام الأسد المقولة الشمشونية (الأسد أو نحرق البلد) لمواجهة ثورة الحرية والكرامة 2011 باعتبارها تشكل له معركة وجودية مصيرية، أثمانها الدم والدمار والتهجير وكل أنواع الانتهاكات وتابع تقسّم السوريين إلى جماعات تبعاً لانتماءاتهم الدينية والإثنية والمناطقية محولاً الصراع إلى شكله الديني، معتقداً هو وطاقمه الأمني والعسكري أنه بالعنف وحده يحقق الانتصار على مجتمعه السوري الثائر.
من هنا يمكن أن نعيد عنف النظام إلى فراغ يده من أية حلول غير عنفية ولأزمة نفسية استحكمت بالرئيس ودائرته المقربة فذهب مسعوراً إلى الرد الأخطر الذي دمر المجتمع السوري بجرائمه المتنوعة، وقوّض هويته الوطنية وكل ركائز العيش الأولية وسبب بالنزوح وهجرة نحو نصف الأهالي ثمّ هلل للمجتمع المتجانس الذي افترض أنه الطريق الآمن لاستمرار سلطته، ولكن الزمن لم يطل لتعود التظاهرات المؤشرة على رفض الأسدية والدفع بها نحو المحاسبة وإجراء التغيير الوطني السياسي الرافض لكل احتلال أو نفوذ خارجي، ولاسيما دولة الملالي وروسيا البوتينية اللتين حمتا الأسد الشخص ودمرتا البلاد وهيمنتا جيوستراتجياً واقتصادياً ودفع السوريين أبلغ التكاليف.
لم يتعظ بشار بأن لا شيء يحمي السلطة سوى حفاظها على السلم الأهلي واحترام كرامة المواطن وأمنه والمشاركة في الشأن العام وتحقيق العدالة وتنفيذ مشاريع التنمية
لقد حددت رصاصات الأسد الغادرة نهايته منذ 18 /3/ 2011 وكان طبيعياً أن تكون الأكثرية السنية المعروفة تاريخياً باعتدالها هي محور ثورة الحرية والكرامة ووقودها، ليس لما مورس عليها من ظلم وتهميش ولا لاعتقادها أن حكم البعث والأسد من بعده جردها من موقعها في إدارة شؤون البلاد فحسب، بل لأنها إضافة إلى كل ذلك وغيره، هي القاعدة الأوسع والأكثر حاجة إلى التغيير السياسي نحو الحرية والكرامة لأنها قاعدة الشرائح المتوسطة الحافظة للتوازن الاجتماعي، والتي قوّضها حافظ الأسد في صراع الثمانينات دافعا بتحالف البرجوازيتين الطفيلية والبيروقراطية إلى واجهة الاقتصاد والاجتماع السوري، فعمم نهب لقمة الشعب والفساد وقضى على فضلة الحريات السياسية والنقابية وغدت النزاهة مثيرة للسخرية، وبسببها دفع كثيرون من رجال السلطة حياتهم منتحرين برصاصات عديدة ثم ليضيعوا بين أرجل الحيتان الكبار.
لم يتعظ بشار بأن لا شيء يحمي السلطة سوى حفاظها على السلم الأهلي واحترام كرامة المواطن وأمنه والمشاركة في الشأن العام وتحقيق العدالة وتنفيذ مشاريع التنمية وغير ذلك، لذا وضع نفسه منذ رصاصاته الأولى على سكة التغيير والسقوط طال الزمن أو قصر. واليوم وقد جرى فُضح فساد أجهزته الأمنية في جريمة الكلية الحربية وحيث أعصاب العالم مشدودة خوفاً من تمدد الحرب الإسرائيلية المجرمة على غزة إلى كامل المنطقة، نفتش عن ذلك المقاوم الشرس المختفي بلا حس ولا صوت، فلا نجده سوى منظر في المؤتمر الإسلامي الأخير ويطالب بوقف المقتلة في غزة على حين طائراته وطائرات حليفه الروسي تتابع قتلها للأطفال والمدنيين الأبرياء في إدلب وأنحاء سورية أخرى.