قد تعيش زمناً طويلاً من حياتك في بلد عربي جار أو شقيق وأنت تشعر أنك مجرد عابر أو زائر، أو بالأكثر سوف يطلق عليك لقب (مقيم)، تاركين لك خيارا واحدا فقط هو الاحتفاظ بجواز سفرك الأصلي، أيا كان السبب الذي يكمن خلف مجيئك إلى هذه الدولة أو تلك، سواء أكان سياسيا أو بحثا عن الرزق أو لأي سبب آخر. سوف تبقى مقيما، ما يعني أنه يمكن ترحيلك في أي وقت تقرره الحكومة أو صاحب العمل، إن كنت قادما من أجل العمل، وستبقى طيلة مدة وجودك تخشى من التصريح بأي كلمة أو موقف فيه انتقاد لما يمكن أن تعتبره مناهضا لحقوقك التي كفلتها لك الشرائع الدولية، وطبعا، سوف يكون من قبيل الانتحار أن تحاول التعبير عن رأيك بالمسار والسلوك السياسي العام لهذا النظام الذي تعيش تحت حمايته أو ذاك، فانتقاده سوف يعني أنك تعرض نفسك للشتائم والتنمر من قبيل مواطني البلد المضيف، وللترحيل أو السجن من قبل النظام الذي تنتقده، وإن مدحته فأنت أيضا سوف تتعرض للتنمر والشتائم من قبل معارضي هذا النظام أو ذاك، وسوف يقال عنك: متملق أو انتهازي.. إلخ. ما عليك فعله هو الصمت والتجاهل والاكتفاء بالتلميح أو التورية عن كل آرائك السياسية أو الاقتصادية أو حتى الاجتماعية. ذلك أنه في بلادنا العربية ثمة دائما من يتربص بك ويتابع ما تقول وتكتب، خصوصا مع وسائل التواصل الاجتماعي، وهو جاهز دائما للانقضاض.
في بعض بلادنا العربية أنت ممنوع عليك أن تحمل جنسية أمك: يعني قد تولد في سوريا مثلا لأم سورية وأب من جنسية أخرى، لن تسمح لك القوانين السورية بحمل جنسيتها
لن تتمتع في البلاد العربية الجارة والشقيقة بأية حقوق، مهما طالت مدة بقائك فيها، حتى لو عشت حياتك منذ لحظة ولادتك، لا حق لك إن لم يكن أحد أبويك مواطنا أصيلا في هذا البلد أو ذاك. وفي بعض بلادنا العربية أنت ممنوع عليك أن تحمل جنسية أمك: يعني قد تولد في سوريا مثلا لأم سورية وأب من جنسية أخرى، لن تسمح لك القوانين السورية بحمل جنسيتها، حتى لو ولدت وتعلمت وكبرت وعملت وعشت حياتك كلها فيها، لن يسمح لك بأي حق من حقوق مواطنيها. سوريا ليست استثناء طبعا، بل الاستثناء هو الدول القليلة التي سمحت بمنح جنسية الأم لأولادها. وهي تونس ومصر فقط. وبعض الدول الأخرى تعطي امتيازات اجتماعية واقتصادية، كالكويت والإمارات. ما يعني أن مبادئ حقوق الإنسان العالمية وحق اللاجئ والمقيم والعامل، هي مبادئ لا تخص البلاد العربية وليست مشمولة بها. وعلى أحدنا، من أبناء هذه البلاد، مواطنين ومقيمين، أن نكتفي بانتقاد أو مدح السياسات والقوانين الغربية في الدول التي تعلي من شأن حقوق الإنسان وتمنح لمن يقيم في أرضها سواء أكان من أبنائها الأصليين أو مجنسا نفس الحقوق غير المنقوصة في كل مناحي الحياة والعمل والسياسة، وعليه نفس الواجبات التي على الجميع.
من هنا ربما يمكننا أن نفهم الاهتمام العربي على وسائل التواصل الاجتماعي بما يحدث في بريطانيا هذه الأيام، حيث وصل وزير المالية السابق ريشي سوناك إلى رئاسة حزب المحافظين وبالتالي إلى رئاسة الوزراء خلفا لليز تراس التي استقالت من المنصب بعد أقل من شهرين على تعيينها (ظاهرة لا نعرفها مطلقا في بلادنا العربية). يبلغ سوناك من العمر ٤٢ عاما، أي (في هذا الزمن) هو شاب يتمتع بكامل طاقته، وينحدر من عائلة هندية بالكامل، فهو يمتلك في مواصفاته الشكلانية جينات هندية من حيث لون البشرة والشعر والعينين وشكل الجمجمة.. إلخ. متزوج من أكشاتا مورثي وهي ابنة واحد من أشهر أغنياء الهند، ويقال إن ثروتها كانت تفوق ثروة الملكة نفسها، وحين تزوجت سوناك كانت تحمل الجنسية الهندية فقط. وسوناك يتبع الديانة الهندوسية، وهو أول رئيس وزراء غير مسيحي في دولة كبرى تتبع التعاليم البروتستانتية، ورئيس وزرائها سيكون حاضرا في الكنيسة في كل المناسبات المتعلقة بالعائلة الملكية البريطانية.
وللحقيقة فإن هذا الحدث هو محط اهتمام العالم بأسره، وليس فقط لدى العرب، فالاهتمام العالمي يبارك هذه الخطوة ويعتبرها أساسية نحو التحرر الكامل من كل القيود الدينية والعرقية التي تؤدي إلى العنصرية والتفوق والاستعلاء الوطني والعرقي، والذي بدوره لن ينتج سوى مزيد من الأمراض المجتمعية المتضمنة أنواعا جديدة من العبودية. بينما يمدح العرب المهتمون الحدث البريطاني في يومياتهم على وسائل التواصل من دون أن يسألوا أنفسهم السؤال الآتي: ماذا لو اقترح أحدهم شخصية مسيحية لرئاسة هذه الدولة العربية أو تلك (في دستور لبنان على الرئيس أن يكون مسيحيا ومارونيا تحديدا ولا يجوز الإخلال بهذه الصيغة التي تعتبر نوعا من التوزان الطائفي)، وماذا لو اقترح أحدهم امرأة لنفس المنصب؟ ماهي ردة الفعل المتوقعة لمن يمتدحون ما يحدث في بريطانيا؟ طبعا الحديث عن مسؤول كبير من أصول أخرى في بلد عربي هو كالحديث عن العنقاء (مجرد خرافة). أو ماذا لو اقترح أحدهم دستورا علمانيا لهذه الدولة العربية أو تلك؟! طبعا علينا أن نتساءل هل يعرف العرب المعجبون بالحدث البريطاني أن شيئا كهذا ما كان ليحدث لو أن الكنيسة بقيت مسيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية في بريطانيا، وأن النظام المدني بدستور علماني هو النظام الوحيد الكفيل بإلغاء كل الفروقات بين البشر هنا وهناك. معلوم أن الحديث عن العلمانية في البلاد العربية هو بمنزلة الزندقة والكفر، والمفارقة أن كثيرين من العرب ممن يعيشون حاليا في العالم الغربي ويتمتعون بحقوق المواطنة التي منحتها لهم نظم علمانية يشتمون كل من يتحدث عن العلمانية ويطالب بها في بلاد العرب.
هذا التسلسل في المناصب لا يمكن أن يحدث لولا اعتماد الديمقراطية كمنهج رئيسي في السياسة والحكم
من جهة أخرى فإن لريشي سوناك سابقة في العمل السياسي وتدرج في سلم المناصب عبر حزب المحافظين (أكبر وأعرق الأحزاب البريطانية)، كما حصل مع باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة السابق في الحزب الديمقراطي الأميركي، هذا التسلسل في المناصب لا يمكن أن يحدث لولا اعتماد الديمقراطية كمنهج رئيسي في السياسة والحكم، الديمقراطية التي تلعن في بلادنا ليل نهار، وتدمر بسببها مدن، ويهجر الملايين من البشر عدا عن القتلى والمعتقلين. هذه الديمقراطية التي نحلم بأجزاء بسيطة منها كي نقول إننا في طريقنا نحو أن نكون دولا تقف على أبواب الحداثة، يرفضها معجبون عرب بالحدث البريطاني لأسباب متعلقة بالدين والمعتقدات أحيانا، وبالمصلحة أو الخوف من التغيير أحيانا أخرى. ولكي نكون منصفين فإن الآليات الديمقراطية الغربية ليست ناصعة ونقية، ولا يمكن وضعها في خانة اليوتوبيا مثلما لا يمكن وضعها في خانة الديستوبيا، فهي، وإن كانت تجبر الحكومات على احترام قوانين الإنسان فإنها أيضا تستخدم أقذر الأساليب في معارك الأحزاب والحكومات، ودائما سيكون المال هو المحرك لكل هده المعارك، وبالتالي هل يمكن بحال من الأحوال التغاضي عن ثروة عائلة ريشي سوناك وزوجته في وصوله إلى سدة الحكم في دولة عظمى كبريطانيا؟!
الحال أننا كعرب نعيش في البلاد العربية ونؤمن بالديمقراطية والمدنية والعلمانية بوصفها الحل الوحيد لكل مشكلاتنا السياسية، لم يعد أمامنا سوى الرحيل عن هذه البلاد لمن لا يزال في مقتبل شبابه ويتمكن من ذلك، أو الحسرة والاكتفاء بأحلام عن مستقبل أفضل لأجيال قادمة، طالما محاولات التغيير كلها منيت بهزائم بالغة وبنتائج أقل ما يقال عنها إنها كارثية.