منذ التصعيد الإسرائيلي في جنوبي لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت وبداية العمليات العسكرية البرية، لوحظ غياب تام للصور والفيديوهات التي توثق الضحايا وعمليات انتشال الجثث من تحت الأنقاض وتشييعها عن فضاءات السوشال ميديا، في حين كان التوثيق في حرب غزة على أشده وأسهم في إثارة الرأي العام ضد إسرائيل.
يعتبر التوثيق مهماً في الحروب، كونه يسهم في إثبات الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها مجرم الحرب، كما يلعب دوراً أساسياً في تحريك الرأي العام الدولي وتوجيه السياسات، إضافة إلى توثيق معاناة المدنيين ما قد يدفع المجتمع الدولي إلى التدخل لإيقاف الحرب.
في سوريا، كانت مشاهد القصف والدمار وانتشال الضحايا حاضرة في كل لحظة، موثقةً من قبل ناشطين ومدنيين أدت إلى كشف جرائم نظام الأسد، أما في غزة فأسهمت مشاهد القصف الإسرائيلي على المدنيين في إثارة الرأي العام العالمي، وأصبحت هذه الفيديوهات والصور أدلة على الانتهاكات الإسرائيلية، وصلت إلى محكمة الجنايات الدولية.
لكن في السياق اللبناني والتصعيد الإسرائيلي المستمر، يطرح غياب الفيديوهات وصور توثيق معاناة المدنيين تساؤلات حول الاستراتيجية الإعلامية التي يعتمدها حزب الله، وفي حين يرى محللون أن السبب الرئيسي يتعلق بالحفاظ على الروح المعنوية لحاضنته الشعبية، يعتبر آخرون أنه مرتبط بـ"التعمية على العدد الحقيقي لقتلاه وهوياتهم".
نصر الله آخرهم
منذ إعلان حزب الله عن مشاركته في حرب غزة " في 8 أكتوبر 2023 عبر ما أسماه "جبهة إسناد، اعتمد أسلوباً خاصاً في نعي قتلاه، عبر نشر صورهم مرفقة بعبارة "شهيد على طريق القدس"، وتضمنت هذه الأسماء عناصر وقيادين كان أبرزهم القادة العسكريين فؤاد شكر، وأحمد وهبة، وإبراهيم عقيل، الذين قتلوا في قصف إسرائيلي الشهر الماضي.
لكن الشخصية الأخيرة التي نعاها الحزب واعترف بمقتلها كانت شخصية الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في 28 أيلول الماضي، إلى جانب قيادين كبار من الحزب وإيران بعد استهداف إسرائيلي لاجتماعهم، وعقب ذلك توقفت إعلانات الحزب تماما عن نعي أي شخص.
ورغم التقارير الإسرائيلية التي تتحدث بشكل شبه يومي عن استهداف واغتيال قيادات بارزة في الحزب، مثل خليفة نصر الله والرجل الثاني في الحزب هاشم صفي الدين إلى جانب قيادين عسكريين مسؤولين عن إنتاج وإطلاق الصواريخ، إلا أن الحزب اختار الصمت وتوقف عن إصدار أي بيانات حول حالة قتلاه.
تواصل موقع تلفزيون سوريا مع أربعة إعلاميين في لبنان، طلبوا عدم الكشف عن أسمائهم، وأكدوا أن حزب الله بدأ يتبع استراتيجية إعلامية بعد الخسائر التي تكبدها، وترتكز الخطة على تسليط الضوء على استهداف إسرائيل للمدنيين إلى جانب الحديث عن إنجازات الحزب.
كما أكد الإعلاميون فرض الحزب رقابة صارمة على الإعلام والتصوير داخل مناطقه وخاصة الضاحية الجنوبية، ومنع نشر أي محتوى من دون موافقته أو دخول أي وسيلة إعلامية إلا تحت إشرافه.
وأفاد أحد الإعلاميين أن "حزب الله منع بشكل صارم أي شخص من التصوير، وفي إحدى الحوادث، أطلق عناصر الحزب النار على شخص كان يحمل كاميرا ويحاول التصوير، كما تم منع دخول أي شخص وصحفي يحمل كاميرا إلى مراكز إيواء النازحين".
في المقابل تولى قسم ما يسمى "العلاقات الإعلامية في حزب الله" زمام التحكم في التغطية الإعلامية، عبر تنظيم جولات إعلامية محددة لوسائل إعلام عربية وأجنبية داخل الضاحية والتي تقتصر على أماكن هو يختارها ويحددها.أعلى النموذج
آخر هذه الجولات كان في الثاني من الشهر الجاري، عندما نظم الحزب جول إعلامية ضمت أكثر من 400 مصور وصحفي من مختلف الوكالات، وحسب وسائل إعلام لبنانية فإن الحزب سمح للصحفيين بزيارة ثلاثة مواقع فقط في الضاحية الجنوبية والتقاط الصور والفيديوهات، وهي "المبنى الذي يضم قناة الصراط الثقافية"، و"المبنى السكني الذي يحمل اسم حطيط بالقرب من مجمع سيد الشهداء" في حارة حريك، والثالث المبنى السكنيّ في منطقة الشياح.
وحسب صحيفة "المدن" اللبنانية والتي كانت ضمن الوسائل التي دخلت إلى الضاحية، فإن الهدف الأساسي للحزب من الجولة الإعلامية هو "دحض رواية إسرائيل، والتأكيد أن المباني المستهدفة هي مبانٍ سكنية فقط، ولا وجود لأي صواريخ لحزب الله تحت المباني".
وكان مسؤول العلاقات الإعلامية في الحزب محمد عفيف، قد هاجم وسائل الإعلام اللبنانية في مؤتمر صحفي، قبل أيام، وقال إن "بعض وسائل الإعلام عندنا تنقل الخبر الإسرائيلي دون تفكيك وتصدق الرواية الإسرائيلية دون تمحيص وتتبنى قراءة العدو وسرديته عن الوقائع الميدانية".
واعتبر عفيف أن "هناك تحريض من قبل وسائل إعلام لبنانية على المقاومة وعلى أبنائها، ولا تحرك من قبل الحكومة"، متسائلاً "هل من الحرية الإعلامية أن يتم التحريض على المستشفيات وعلى بعض القرى في لبنان؟ أين وزير العدل والقضاة المختصون؟ ـ
معنويات البيئة الحاضنة
حسب آخر إحصائيات لوزارة الصحة اللبنانية فإن عدد القتلى منذ بدء القصف الإسرائيلي في 8 من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى يوم الجمعة الفائت، بلغ 2255 شخصاً وإصابة أكثر من عشرة آلاف شخص، إلا أن الوزارة لا توضح هوية القتلى بدقة، سواء كانوا مقاتلين أم مدنيين.
ويرجع غياب الصور والفيديوهات عن الضحايا إلى الحفاظ على "معنويات البيئة الحاضنة"، حسب ما قاله الناشط السياسي هادي مراد لموقع تلفزيون سوريا، معتبراً أن "نشر صور الضحايا أو فيديوهات قد يؤثر بشكل سلبي على معنويات البيئة الحاضنة، ويؤثر نفسيا ويجلب نوع من الكآبة المعنوية أو القلق الشديد في بيئة الحزب في خضم المعركة".
من جانبه اعتبر الكاتب الصحفي رامي نعيم أن نشر الصور والإعلان الفوري والمباشر عن مقتل عناصر الحزب يزيد من إحباط بيئته الداعمة، بسبب العدد الكبير والمتزايد من القتلى الذي يسقط يوميا، ما يؤثر بشكل كبير على الروح المعنوية للبيئة الحاضنة، خاصة عندما يُقارن بعدد قليل من الجرحى أو القتلى في إسرائيل، فالفارق بين الأعداد كبير جدا.
وقال نعيم لموقع تلفزيون سوريا: "الحزب لا يمكنه استراتيجيا إنكار هذه الأعداد في المستقبل إذا أراد مواجهة تصريحات إسرائيل، فعندما تعلن إسرائيل عن مقتل فلان وتحدد عدد الضحايا، ويقوم الحزب بتأكيد هذه الأخبار مرة ومرتين، يصبح الإعلام اللبناني والدولي على يقين بمصداقية ما تعلنه إسرائيل في كل مرة يصرحون فيها عن عدد القتلى".
وأضاف: "من هذا المنطلق، قرر الحزب تبني استراتيجية جديدة تهدف إلى إخراج إسرائيل من الساحة الإعلامية وتقليل مصداقيتها فيما يتعلق بعدد الضحايا وهويتهم".
أما حسب الصحافية اللبنانية نهاد طوباليان فأكدت لموقع تلفزيون سوريا منع حزب الله المدنيين من التقاط الصور والفيديوهات للقتلى والقرى المدمرة، بقرار عممه بمراحل سابقة خلال حرب إسناد غزة على بيئته.
وأشارت طوباليان إلى أن الحزب منع الإعلام المعارض له من التواجد بمناطق وجوده، مستثنياً إعلام محور الممانعة، واعتماده على توزيع بيانات وصور وفيديوهات يحددها إعلامه الخاص، وتقتصر على مشاهد القصف وليس على سقوط قتلى من صفوفه أو من المدنيين.
واعتبرت طوباليان، أن "حزب الله يعتمد التعمية في إعلان أسماء قتلاه وعددهم الفعلي خوفاً (وهو يظهر العكس) من بيئته الحاضنة التي فقدت كل شيء في حربه هذه، لمعرفته ضمناً أنها ناقمة بقوة عليه، وتخشى إظهار نقمتها للعلن خوفاً من السحسوح".
وتعبر ظاهرة "السحسوح" في لبنان عن العقاب السريع والمفاجئ الذي يتعرض له شخص نتيجة لتصرف معين، سواء كان ذلك عبر مواقف اجتماعية أو سياسية.
وأكدت أن "أهم ما يمنع حزب الله من توثيق ونشر صور الضحايا خوفه من بيئته التي تكتم نقمتها في قلبها من جهة، ومن جهة أخرى محاولة لحفظ ما تبقى من معنويات لدى هذه البيئة الحاضنة والشعبية التي فقدت بيوتها وأرزاقها ونزحت وتشردت على الطرقات".
ولا يكترث حزب الله كثيراً لعدد القتلى في صفوفه، حسب قول طوباليان، لأنهم "بالنسبة لهم سقطوا من أجل المشروع الذي يؤمنون به، أما بالنسبة للقتلى المدنيين، فإن العائلات وأصدقاء القتلى ينعونهم على وسائل التواصل الاجتماعي، مرفقة بصور لهم، علماً أن حزب الله يعتبر القتلى من المدنيين مجرد أرقام في حربه".
غياب صور وفيديوهات التشييع
وبالإضافة إلى غياب الصور والفيديوهات، اختفت أيضاً مشاهد التشييع للقتلى، ولم يعد معروفاً من سقط في القصف الإسرائيلي باستثناء ما تنشره بعض العائلات وأصدقاء الضحايا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يشاركون صورهم وينعونهم بشكل فردي.
سابقاً كان حزب الله ينظم مراسم تشييع علنية لقتلاه الذين يسقطون سواء في سوريا أو نتيجة للغارات الإسرائيلية خلال العام الماضي، وهو الأمر الي منح إسرائيل فرصة للتعرف على هويات القادة الحاضرين وعناصره ومكنتها من جمع معلومات استخباراتية كما ذكرت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية.
وقالت الصحيفة إن الجنازات التي كان يقيمها الحزب لقتلاه كشفت كثيرا من المعلومات، إذ أخرجت في بعض الأحيان كبار القادة من الظل ولو لمدة وجيزة.
وحسب الصحفية طوباليان فإن الحزب أعلى النموذج كان يتباهى ويبالغ في مراسم تشييع قتلاه وضحاياه، وبحضور جماهيري ضخم، أما اليوم فإن مراسم الدفن اختفت كلياً وتتم بسرية وسرعة مطلقة، لسببن الأول يرتبط بـ"أسباب أمنية خاصة بالحزب".
أما السبب الثاني لأن معظم القتلى ينحدرون من قرى وبلدات جنوبية وبقاعية تتعرض للقصف الإسرائيلي، وهي أصلاً قرى شبه مدمرة، وأمست مناطق عسكرية للحزب، إذ يمنع الأهالي من إقامة مراسم تشييع في القرى، في حين تحصل عائلات الضحايا على إذن من الجيش اللبناني للتوجه للقرية لدفن ضحاياها ضمن مهلة زمنية قصيرة جداً، لا تتعدى النصف ساعة، ويمنح الإذن لشخصين فقط، وبمرافقة أمنية.
من جانبه أرجع الناشط هادي مراد اختفاء مظاهر التشييع إلى طبيعة "الأحداث الأمنية والحروب والغارات الكثيفة في المناطق التي يتم فيها اغتيال الأشخاص، لذلك تغيب مراسم الدفن والتشييع".
من جانبه قال الصحفي رامي نعيم إن إسرائيل نجحت في استغلال جنازات عناصر الحزب للحصول على مزيد من التفاصيل عن البيئة الحاضنة وبعض المشاركين في تلك الجنازات، كما أن تفجير اللاسلكي الذي حصل في إحدى الجنازات كشف عن خطورة تجمعات التشييع، مما قد يمنح إسرائيل فرصة لاستهداف مسؤولين كبار في الحزب، وبالتالي يؤدي إلى كارثة أكبر وخسائر معنوية أعظم.
واعتبر نعيم أن "حزب الله يدرك أن حرب الاستنزاف مع إسرائيل قد بدأت، لذلك أصبح عليه أن ينظّم صفوفه ويغير استراتيجيته الإعلامية والعسكرية والتكتيكية".
الاستراتيجية الإعلامية التي يفرضها حزب الله في لبنان أمنية بحتة، تراعي عدم الكشف عن مواقع عسكرية للحزب قد تستفيد منها إسرائيل، وتحاول الحفاظ على الروح المعنوية لحاضنته ومقاتليه، لكن هذه الاستراتجية تكون على حساب الجانب الآخر المفيد من التوثيق للدمار والضحايا وانتشال الجثث كما حدث في غزة وسوريا من قبلها، وهو الجانب الذي يثير الرأي العام ويسهم في الضغط على إسرائيل لإيقاف حربها الدموية على لبنان.