احتجاج صامت

2024.06.19 | 07:04 دمشق

5777777777777777
+A
حجم الخط
-A

تتالت الفيديوهات المصورة القادمة من العاصمة السورية دمشق، لتصدم الجمهور السوري، ثلاثة فيديوهات متتالية تصور مواطنين يسيرون عراة في الشارع، وفي متابعة سريعة للتعليقات يقرأ المراقب كلمات الحسرة والعجز واليأس على مآل الشباب السوري، الذي لا يجد أي متنفس يفرغ طاقته فيه.

مع الفيديو الأول الذي يصوره شاب يقود دراجة هوائية سوداء، نتابع رجلاً عارياً يسير بغضب متجهاً إلى ساحة الأمويين، تتابعه الكاميرا من الخلف، بينما هو يسير ساخطاً مشيحاً بيده تجاه الجمهور الذي يتابعه بصدمة ويفسح له الطريق بذهول.

تبدو عمارات ساحة الأمويين بارزة واضحة، مبنى التلفزيون والسيف الدمشقي وجبل قاسيون. مؤكدة بثبات الفيديو وحصوله، لتفند تعليقات البعض من الداخل التي تبرر هذا الحال مدعية أنه مركب وغير صحيح، أو أنه صنع بواسطة الذكاء الصناعي الذي يمكن عن طريقه فبركة أي صورة أو صوت.

لكن أغلب تعليقات المتابعين جاءت متحسرة على واقع الشعب السوري الذي دفع شاباً لا يبدو أنه تجاوز الأربعين من عمره على السير عارياً في مدينته، متحدياً كل الأعراف والتقاليد، وحتى القوانين التي ستتهمه بخدش الحياء الاجتماعي.

تتابعت الفيديوهات التي شكك البعض أيضاً بنسبتها للأرض السورية، لكن تحليل الصور فيها أكد أن أحدها في حديقة في العاصمة يصور فتاة تستحم والآخر يتابع فتى "أقل من عشرين عاماً" يعبر الشارع في حالة سلبية تجاه المارة والسيارات.

وكما هو متوقع أوقفت قوى الأمن الشابين وادعت أنهما سيخضعان لعلاج نفسي وأنهما يعيشان حالة اضطراب اجتماعي، ولكن التعليقات كانت حادة جداً وعكست الانقسام العمودي في الآراء بين مبرر ومنتقد، أو حزين على واقع الشباب السوري. متهمين الحكومة بأنها أحبطت الجيل الشاب ودفعته إلى حافة الجنون فعلياً، حيث بلغت نسبة البطالة في مناطق النظام ما تجاوز التسعين في المئة مع ارتفاع في التضخم وانهيار العملة السورية والقدرة الشرائية، حيث لا أفق نهائياً للعيش في داخل البلاد وسط تلك المؤشرات، البعض علل ما يحصل بالارتفاع المذهل في درجات الحرارة التي بلغت 46 درجة مئوية، وبأن الناس حرفياً خرجت من ملابسها بسبب الحرارة وانقطاع الكهرباء الدائم.

بينما يرى البعض الآخر أن ازدياد حالات التعري في المجتمع السوري لا يعود للانحلال الخلقي كما فنده بعض مؤيدي النظام بل إنه شكل من أشكال الانتحار النفسي، والإلغاء الاجتماعي، فحينما يقوم رجل أو امرأة يعيش حياة طبيعية في بلاده بكسر كل قواعد الحياة الاجتماعية السورية فإنه بهذا الفعل يقدم صرخة صامتة كبيرة في وجه المجتمع والحكومة على حد سواء، تشبه إلى حد كبير إحراق أحد لنفسه وسط الجموع، أو رمي نفسه أمام السيارات، فهو لا يقوم فقط بتدمير سمعته أمام التاريخ المسجل في كاميرات الهواتف المنتشرة، بل هو يقوم بتشويه سمعة عائلته وحيّه، وهذا بالطبع لا يهم لأن من يقوم بالفعل يود توجيه رسالة غاضبة إلى الجميع بمن فيهم الحكومة والنظام بأن مايجري فاق كل قدراته على التحمل، وهو حرفياً قد خرج عن كل القواعد ومستعد للخطوة التالية وهي الفناء بسبب اليأس.

أتت تعليقات السوريين متضامنة بشكل كبير مع ما جرى، على عكس المتوقع، حيث يدرك الجميع بأن الواقع في الداخل السوري وصل إلى حدود غير مسبوقة من الإحباط والقنوط، ولا سبيل لدى الناس نهائياً سوى الصمت كما فعلوا طيلة سنوات عجاف، أو الموت. حيث تمنع بشكل واضح ودموي أية مظاهر احتجاجية في الشارع، ويقف ممثلو الشعب في البرلمان في جانب مواجه ومعاد للناس لأنهم أساساً غير منتخبين بشكل ديمقراطي يعكس تطلعات الشعب وإحباطاته ويسعى لتطوير الواقع السوري. وعجز الإعلام المدوي في تقديم حال الناس إلا ما تسمح به القيادات الأمنية.

أدى إلى وصول البعض إلى حائط مسدود، مفاده أنه لا شيء سيفيد المواطن سوى الهجرة منها، وهذا ما فعله ويفعله عشرات الآلاف من الشبان والفتيات بشكل سنوي، حيث تتحدث التقارير عن أن طلاب الطب في الجامعات السورية على سبيل المثال يقومون بعد انتهاء دوامهم اليومي بالذهاب إلى دورات اللغة الألمانية من أجل تحسين فرصهم في الحصول على تأشيرات دخول إلى أوروبا بعد تخرجهم وبالتالي فإن الطلاب يفكرون بمغادرة البلاد قبل أن تنتهي دراستهم الفعلية.

وهذا أمر كارثي وغير مبشر على الإطلاق حيث إن نزيف الخبرات السورية في جميع المجالات سيؤدي إلى انهيار القطاع الصحي والهندسي والتعليمي تماماً خلال سنوات.

هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدد الأطباء السوريين في ألمانيا وحدها بلغ سبعة آلاف طبيب. دون أن ننسى ارتفاع نسب العنوسة وانفضاض الشباب عن الزواج بسبب الضائقة المالية المرعبة، ومستويات الجباية والضرائب المرتفعة جداً في البلاد.

لم يقف الأمر عند البطالة وحدها بل تعداه إلى مستويات أخطر وهي الصحة النفسية للجيل الشاب الذي بدأت عوارض خطيرة جداً ترشح عنه، فالتعري الذي حصل في الأسبوع الماضي هو مؤشر خطير عن احتجاج صامت يقوم به هؤلاء الشباب بسبب عدم قدرتهم على تحمل الضغوطات وعجزهم الكامل أمام التحديات الحياة العصرية. فالشاب الذي كان يبلغ من العمر العاشرة من عمره في سنة 2011، قد بلغ اليوم منتصف العقد الثاني من عمره في ظل هذه الكارثة التي حاقت بالشعب السوري، الذي يجد نفسه منفياً في بلاده وغير مرغوب به في بلدان الجوار، ومطارداً في أوروبا، بعد نجاح اليمين الأوروبي في الانتخابات البرلمانية الأوروبية.

وهذا حال لم يسبق أن عاشه شعب عربي على الإطلاق، شعب منبوذ ومتهم سلفاً بكل الاتهامات التي من الممكن أن ترمى على أمة، دون أن يكون بإمكانه أن يمارس حقه في الاحتجاج أو رفض واقعه أو إنكاره أو حتى عيش يومه بهدوء واعتيادية.

وسط هذه الصورة القاتمة التي يعيشها السوريون في الداخل والخارج يبدو أنه على أبناء الشعب السوري احتضان هؤلاء الذين خانتهم قدراتهم على الصبر والتحمل وانتظار الفرج.