تتراقص أشعة شمس الشتاء الساطعة فوق كهوف تقع ضمن جروف صخرية تملؤها الثقوب، أما المنظر المطل على البحر المتوسط فشاعري، ولكن عندما ينظر المرء عن كثب على ما يبدو منظراً أليفاً من الجهة التي تلتقي عندها الحدود الإسرائيلية مع اللبنانية عند البحر، يحس بالخطر المتربص، إذ لابد أن يرى المراكب البحرية وهي تتهادى أثناء تسيير دورياتها بالقرب من الشاطئ، أما بنادقها فهي على أهبة الاستعداد.
وهنالك مزار سياحي كان يعج بالناس عادة أصبح خالياً من زائريه، باستثناء العربات المصفحة، وعلى بعد مسافة قصيرة يقطعها المرء بالسيارة ليصل إلى سفح جبل تنتشر فيه الغابات يقع مباشرة جنوبي الجدار الحدودي، نكتشف وجود العشرات من خيام المعسكرات المموهة التي انتقل إليها المظليون الإسرائيليون منذ السابع من تشرين الأول، أي في اليوم الذي شنت فيه حماس هجومها المباغت على مستعمرات إسرائيلية وقواعد للجيش الإسرائيلي في الجنوب.
على الرغم من الهدوء والصفاء الذي يتخلل المشهد، تتزايد التهديدات بقيام حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله بشكل سريع، لا سيما منذ التفجير الذي وقع في الثاني من كانون الثاني بالضاحية الجنوبية القريبة من بيروت والتي تعتبر المعقل الرئيسي لحزب الله، إذ اغتيل في هذا التفجير الذي نفذته مسيرة إسرائيلية، صالح العاروري، القيادي البارز في حماس المقربة من إيران، بالإضافة إلى مقتل عدد من القادة الآخرين في حماس. ثم أتى رد حزب الله بأن عملية الاغتيال لن تمر بلا عقاب، وبأن الحزب مستعد لذلك. وحتى قبل وقوع هذه الهجمة، أعرب مسؤولون أوروبيون عن قلقهم إزاء تلك الجبهة التي يمكن أن تنفتح في غضون أيام أو أسابيع.
بالإضافة إلى التوتر والشكوك وقع تفجيران في الثالث من كانون الثاني بمدينة كرمان الإيرانية أسفرا عن مقتل مئة شخص بالقرب من ضريح قاسم سليماني، معظمهم أتوا ليندبوا مقتل قائد فيلق القدس، وهو الجناح الذي ينفذ عمليات خارج إيران تابع للحرس الثوري الإيراني، إذ اغتيل قاسم سليماني بغارة أميركية قبل أربعة أعوام، بيد أن إيران أنحت بلائمة التفجيرين الأخيرين على من وصفتهم بالإرهابيين، ثم أميركا وإسرائيل.
التزام بقواعد الاشتباك
ارتفعت حظوظ قيام حرب على الحدود اللبنانية منذ الساعات والأيام الأولى التي أعقبت هجوم حماس على إسرائيل، بما أن الأخيرة خشيت من شن حزب الله لهجوم مماثل عليها بما أنه حليف لحماس. ولذلك استدعت الآلاف من جنود الاحتياط وأرسلتهم في اليوم نفسه إلى الشمال، وبحلول الليل، نقلت قطاعات كاملة إلى منطقة الخط الأزرق القريبة من الحدود اللبنانية.
إلا أن أهم القادة العسكريين في مؤسسة الأمن الإسرائيلية، وعلى رأسهم وزير الدفاع يوآف غالانت، فضلوا تنفيذ هجمة استباقية على حزب الله، وبقيت تلك الحسبة في الميزان إلى أن انضم بيني غانتز للحكومة في الحادي عشر من تشرين الأول، بما أن هذا الجنرال يتسم ببراغماتية عملية أكبر كما أنه أصبح اليوم زعيم حزب الوسط. أما جو بايدن الذي حث إسرائيل على ضبط النفس، والذي نشر بارجتين حاملتين للطائرات قبالة سواحل لبنان، فقد لعب دوراً في إقناع الإسرائيليين بالتروي. وفي زيارة لإسرائيل جرت في الثامن عشر من تشرين الأول، هدد بايدن: "أي دولة أو أي عنصر فاعل معاد آخر يفكر بالهجوم على إسرائيل" وطلب منهم أن يخرجوا تلك الفكرة من رؤوسهم بشكل نهائي.
ما حدث عقب ذلك هو سلسلة مدمرة من الغارات التي تمت بطريقة العين بالعين مع حزب الله الذي صار يطلق صواريخ ومسيرات على إسرائيل وعلى أهداف عسكرية فيها كل يوم، كما أطلقت إسرائيل هجمات مضادة. وفي معظم الوقت، أصاب الطرفان أهدافاً قريبة من الحدود، وفقاً لقواعد الاشتباك الضمنية التي وضعت على مر السنين.
في إسرائيل ولبنان، نزح الآلاف من المدنيين هرباً من القتال، فتحولت مدن عديدة إلى مدن أشباح. وعلى مدار ثلاثة شهور، خسر حزب الله أكثر من 146 مقاتلاً، في حين قتل 15 إسرائيلياً بالهجمات الصاروخية، إلى جانب مقتل ثلاثة صحفيين في لبنان.
ثمة سابقة ظهرت مع هذه الحالة، إذ في عام 2006، شن حزب الله غارة عبر الحدود، وهاجم دورية إسرائيلية وقتل خمسة جنود واختطف اثنين، وسرعان ما تحول النزاع إلى حرب امتدت لأربعة وثلاثين يوماً قصف خلالها كلا الطرفين الآخر. كما شن الجيش الإسرائيلي عملية برية واسعة في العمق اللبناني، إلا أن حزب الله بقي يحاربه إلى أن اضطرت إسرائيل لوقف القتال بصورة محرجة، لكن لبنان عانى أكثر بكثير من إسرائيل، إذ قتل ألف مدني خلال هذه الحرب، ناهيك عن الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبنية التحتية.
يصر حزب الله على أن يعرف بنفسه على أنه حركة مقاومة، ولهذا أنشأ ترسانة هائلة تضم 150 ألف صاروخ، بينها بضعة مئات تتمتع بالمدى والدقة التي تسمح لها بأن تصيب أي هدف داخل إسرائيل، ويتباهى هذا الحزب بوجود مئة ألف مقاتل لديه، معظمهم لديهم خبرة في القتال بالمعارك حصلوا عليها من سوريا، بما أن حزب الله دعم نظام بشار الأسد خلال الحرب السورية التي امتدت لأكثر من عقد من الزمان.
مرحلة التريث
كل تلك أسباب وجيهة تدفع إسرائيل لتجنب أي حرب شاملة، ولكن عقب الهجوم المباغت الذي شنته حماس، صار المسؤولون الأمنيون في إسرائيل يرون أنه لا يمكن لدولتهم أن تسمح ببقاء تهديدات كتلك على حدودها، أي أن على إسرائيل أن تأخذ زمام المبادرة، خاصة بعد تدريب قوات ميليشيا الرضوان التابعة لحزب الله على مهاجمة إسرائيل بالأساليب نفسها التي لجأت إليها حماس عند تنفيذ هجومها على المستعمرات الإسرائيلية والقواعد العسكرية.
أعلن الناطق العسكري باسم الجيش الإسرائيلي بأن الجيش يخوض حرباً من الأساس على الرغم من أنهم ما يزالون في مرحلة الدفاع حتى هذه اللحظة على حد قوله، في حين يتحدث القادة العسكريون عن المدن والمستعمرات القريبة من الحدود اللبنانية والتي أصبحت خاوية، ويرون بأن مهمتهم لم تكتمل طالما لم يعد المدنيون إلى بيوتهم بسلام، وطالما بقي حزب الله هناك على الحدود على حد وصفهم. وفي هذه الأثناء يستعد الجنود الإسرائيليون لمرحلة الهجوم، بيد أن ما يشغل بالهم في الوقت الراهن هو تحديد الفرق المسؤولة عن إطلاق الصواريخ لدى حزب الله وتدميرها.
يرى المسؤولون الغربيون بأن الجيش الإسرائيلي يتمتع بإمكانيات عسكرية تخوله فتح جبهة ثانية، حتى خلال مواصلته للحرب على غزة، كما بوسعه وبشكل سريع تطويق مواقع حزب الله القريبة من الحدود في غضون ساعات. وعلى الرغم من أن اندلاع حرب أوسع قد تأكل الأخضر واليابس يبدو في بعض الأحيان أمراً لا مفر منه، إلا أن الجهود الساعية لنزع فتيل الوضع ما تزال مستمرة، فقد سحب حزب الله مقاتليه من المواقع التي أقيمت عند الجدار لمسافة تتراوح ما بين 2-3 كيلومترات بعيداً عن الحدود، وقد يكون ذلك مجرد انسحاب تكتيكي، إلا أنه يعتبر مؤشراً أيضاً على رغبة حزب الله بتجنب الحرب وذلك من وجهة نظر الإسرائيليين والأميركيين.
في هذه الأثناء، قلص الجيش الإسرائيلي من تعداد قواته، إلا أن العدد ما يزال أعلى بكثير مما كان عليه قبل السابع من تشرين الأول، أي أن الإسرائيليين على استعداد لشن الهجوم في أي لحظة.
لدى كلا الطرفين أسباب مقنعة لتجنب التصعيد، فإسرائيل تورطت في حملة دموية على أرض غزة. وحزب الله، من جانبه، يدرك بأن شعبيته لن ترتفع إن سمح لإسرائيل بأن تنتقم من لبنان، بما أن معظم اللبنانيين يتذكرون الدمار الذي ألحقته الحرب بالبلد في عام 2006 وهم يشاهدون الخراب الذي لحق بغزة اليوم والتي خسرت أكثر من 22 ألف فلسطيني، معظمهم مدنيون. أما إيران التي شاهدت كيف دمرت إسرائيل جزءاً كبيراً من الإمكانيات العسكرية الموجودة لدى حماس، فباتت تكره اليوم أن تضيع استثماراتها في حزب الله، بما أنه يعمل عمل قوة ردع أمام أي قصف إسرائيلي يستهدف المرافق النووية الإيرانية.
على الرّغم من كل ذلك، استعانت إيران بأذرعها بكل حرية في أماكن أخرى من المنطقة وذلك حتى تبقي إسرائيل في حالة قلق، ولذلك أطلقت الميليشيات المدعومة إيرانياً صواريخ على إسرائيل من سوريا واليمن، في حين شنت هجماتها على القوات الأميركية في العراق. أما الحوثيون الذي يسيطرون على مساحات شاسعة في اليمن، فقد عطلوا التجارة العالمية من خلال هجماتهم التي استهدفت سفن الشحن في البحر الأحمر. هذا ولقد حاولت فرقة عمل بحرية دولية ترأسها أميركا حراسة طرق الملاحة البحرية التي تمر عبر مضيق باب المندب، بما أن هذا الطريق يعتبر أحد الطرق الرئيسية التي تمر باليمن خلال توجهها إلى قناة السويس، إلا أن طرق الملاحة الأساسية أصبحت تمر حول جنوبي أفريقيا فتقطع رحلات أطول وأعلى كلفة. يذكر أن سفناً غربية أسقطت عدداً من صواريخ الحوثيين كما أغرقت بعضاً من قواربهم الصغيرة.
ومع ذلك، ما تزال أميركا تجد صعوبة في الاحتفاظ بالانتشار الكبير لقواتها في المنطقة، والتي ساعدت على إخماد الأعمال العدائية، إذ في الأول من كانون الثاني، أعلنت عن نيتها إعادة بارجة حربية حاملة للطائرات إلى قواعدها، على الرغم من أن البارجة الثانية ما تزال في المنطقة، إلى جانب قوات البحرية الأميركية التي يصل تعداد جنودها إلى ألفين. ومع ذلك، ما تزال إسرائيل قلقة من احتمال تراجع قدرتها في ردع إيران أو حزب الله ومنعهما من استهدافها في حال سحب أميركا لجنودها.
يتمثل رد إسرائيل بمحاولتها تفكيك أذرع إيران من دون إثارة أي رد فعل عنيف على نطاق أوسع، إذ في الخامس والعشرين من كانون الأول، نفذت إسرائيل غارة جوية بالقرب من دمشق اغتالت فيها رضى موسوي، وهو عميد في فيلق القدس الإيراني خدم لسنوات طويلة كعنصر ارتباط بين الحرس الثوري وحزب الله وغيره من الميليشيات المسلحة التابعة لإيران في المنطقة.
تحاول أطراف خارجية تهدئة الوضع على الحدود اللبنانية، إذ أجرى مستشار مقرب من الرئيس بايدن زيارات متكررة للبنان وإسرائيل في محاولة التوسط لعقد اتفاق يفضي إلى نزع فتيل الوضع المتوتر، والأساس الذي يمكن لهذه الاتفاقية أن تقوم عليه هو قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي صدر بنهاية حرب 2006، إذ من المفترض بموجبه إبقاء قوات حزب الله شمالي نهر الليطاني الذي يمتد بشكل مواز للحدود على مسافة 29 كيلومتراً نحو الشمال، غير أن الجيش اللبناني وقوات حفظ السلام الأممية في لبنان، أي اليونيفيل، والتي كلفت جميعها بتنفيذ القرار، فشلت في تحقيق ذلك.
لا شيء سوى الكف عن حفر الأنفاق
تدعي إسرائيل بأن حزب الله منذ عام 2006 نصب المئات من راجمات الصواريخ فوق أبنية سكنية مدنية متفرقة في الجنوب اللبناني في تحد سافر لقرار مجلس الأمن. وفي كانون الأول من عام 2018، كشف الجيش الإسرائيلي عن وجود ستة أنفاق تمتد عبر الحدود حفرها حزب الله استعداداً لأي هجمات في المستقبل. كما أقام حزب الله مواقع للمراقبة على طول الحدود بحجة إنشاء شركة واجهة متخصصة بالبيئة تحت اسم: "أخضر بلا حدود"، ومعظم تلك المراقب قصفتها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول الماضي.
بيد أن السياسة التي اختل ميزانها في لبنان لم تساعد على قيام أي حوار بشأن ذلك، إذ لا يوجد رئيس في البلد منذ تشرين الأول من عام 2022، أي أن من يدير لبنان حالياً هي حكومة تصريف الأعمال، غير أن التوصل إلى صيغة اتفاق بأي شكل من الأشكال ليس بالأمر المستحيل، إذ في تشرين الأول من عام 2022، اتفق لبنان مع إسرائيل على ترسيم الحدود البحرية بينهما وذلك للسماح بعمليات التنقيب عن حقول الغاز في البحر مع العمل على استخراجه واستغلاله في تلك المنطقة بما أن كلا الطرفين يزعمان أن حقول الغاز تلك تقع ضمن المنطقة الاقتصادية التابعة له.
على الرغم من أن قادة كلا الطرفين معتادون على التصريحات الرنانة، أثبت كل منهما عملياً التزامه بالحذر الشديد، فقد تدرب بنيامين نتنياهو منذ أمد بعيد على ضبط النفس رداً على أي هجمات تستهدف إسرائيل عبر الحدود، بما أنه رئيس الوزراء الأطول مدة في هذا المنصب. أما حسن نصر الله الذي مايزال يتزعم هذا الحزب منذ ثلاثة عقود، والتي صار خلالها أقوى حليف لإيران في المنطقة، فيبدو أنه لا يرغب بإثارة أي حرب بعدما تسبب خطأ جسيم في الحسابات بقيام حرب 2006 إذ اعتقد الحزب وقتئذ بأن إسرائيل لن ترد بعنف على المداهمة التي شنها الحزب.
من جانبها، تراهن إسرائيل على التزام نصر الله بالحذر، حتى في الوقت الذي تشن فيه هجمات على قادة حماس في لبنان، كما تراهن على إمكانية سحبه لقواته إلى حدود نهر الليطاني بدلاً من المغامرة بخسارتهم في هجوم إسرائيلي، وهذا ما عبر عنه مسؤول عسكري إسرائيلي بقوله: "بوسع نصر الله احتواء ذلك، أي أن الخيار ما يزال بيده".
المصدر: The Economist