على مدار مدة تجاوزت العقد من الزمان، والتي بدأها جو بايدن عندما كان نائباً للرئيس، ثم صار الرئيس اليوم، بقي هذا الرجل يقول للصينيين إن ثاني أسوأ شيء بعد النزاع المقصود هو النزاع غير المقصود، ولعل الواقعة التي كان يخشى وقوعها أصبحت في طور التحقق اليوم. فلقد أثارت زيارة نانسي بيلوسي الناطقة باسم مجلس النواب الأميركي لجزيرة تايوان التي تتمتع بحكم ذاتي، غضب حكام الصين التي تعتبر البر الرئيسي، والذين يزعمون أن تلك الجزيرة تعود لهم، وأن تلك الزيارة كانت ضربة غير موفقة من قبل إدارة بايدن. لدرجة دفعت البعض للحديث عن: "أزمة رابعة حول مضيق تايوان" والتي قد تكون أسوأ من المواجهة الثالثة التي قامت خلال الفترة الواقعة ما بين 1995-1996.
في الوقت الذي حطت فيه طائرة بيلوسي في تايوان في ساعة متأخرة من ليلة الثاني من آب، وذلك بعدما حلقت ضمن مسار ملتو بدأ بماليزيا ثم دارت حول الفلبين لتجنب المرور فوق بحر الصين الجنوبي، الذي تنتشر فيه القواعد العسكرية الصينية، أعلن القادة العسكريون في بكين عن مجموعة من "العمليات الاستهدافية"، والتي تشمل بصورة لا تنذر إلا بالشؤم، تدريبات تعتمد على إطلاق النيران بشكل حي حول تايوان. وهكذا انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم مع ترجيح تصعيد الموقف ليصل إلى فرض حصار على الجزيرة.
أما القوات المسلحة الصينية فقد أعلنت أن التدريبات ستبدأ يوم 4 آب، أي بعد رحيل بيلوسي، وستستمر لأربعة أيام. في حين ذكر الإعلام الصيني أنه لا بد من النأي بحركة الملاحة الجوية والبحرية عن المواقع الستة المحددة لتلك التدريبات والتي تحيط بتلك الجزيرة، بل وتدخل ضمن مياهها الإقليمية في بعض الحالات. إن مجرد إقامة مجال لإطلاق النيران الحية من الصين على الطرف البعيد من تايوان يوحي بأن الصين يمكن أن تطلق صواريخ باليستية فوق تلك الجزيرة، ولذلك قامت بعض شركات الطيران بإلغاء رحلاتها.
وعلى غير العادة، شددت الطائرات الصينية على "خط الوسط" في مضيق تايوان، والذي يمثل حدوداً غير رسمية بين المياه الإقليمية الصينية والتايوانية وكذلك بين المجال الجوي المحدد لكل منهما. وبحسب العرف، قامت تلك الطائرات أيضاً بسبر منطقة تحديد الدفاع الجوية التايوانية في أقصى الجنوب. إلا أن البعض عبروا عن قلقهم من احتمال محاولة الصين تحويل مزاعمها إلى حقيقة بطريقة أو بأخرى خاصة بعدما بقيت تبث تلك المزاعم طوال الأشهر الماضية، والتي ترى بأن مضيق تايوان لا يمثل ممراً مائياً دولياً. وفي سياق منفصل، أعلن البر الرئيسي في الصين عن حظر الواردات من السلع الزراعية والأسماك وغيرها من المنتجات القادمة من تايوان، ثم ظهر رئيس خارجية الصين، وانغ يي، ليكرر التحذيرات السابقة التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ، بقوله: "من يلعبون بالنار لن تكون خاتمتهم طيبة، ومن يهِن الصين سينال عقابه لا محالة".
إلا أن رئيس تايوان المتواضع، تساي إنغ ون، حاول خلق حالة توازن عبر الترحيب ببيلوسي بحرارة مع إبداء الهدوء والتصميم، خاصة عندما قال: "بالرغم من تعرض تايوان لتهديدات عسكرية يتم تصعيدها بشكل متعمد، إلا أنها لن تتراجع، وذلك لأننا سنتمسك بسيادة دولتنا وسنبقى على التزامنا بالدفاع عن الديمقراطية".
لقد طالب أكثر الشوفينيين الصينيين تشدداً _ممن علقوا على ذلك الخبر_ بإسقاط طائرة بيلوسي، إلا أن الصين بدت كمن يحاول أن يتفادى أي نوع من أنواع المواجهة العسكرية المباشرة مع أميركا. ولكن على أية حال، لم تتعرض حاملة الطائرات الأميركية وغيرها من السفن التابعة للبحرية الأميركية التي تبحر شرقي تايوان لأي تهديد. غير أن ذهاب بيلوسي إلى كوريا الجنوبية من غير المرجح له أن ينهي هذه الأزمة، لأنها قد بدأت للتو ربما. إذ في تعليق نشرته بالإنكليزية صحيفة غلوبال تايمز الصينية المشاكسة المقربة من الدولة، كانت التوقعات بأن: "التدابير المضادة التي اتخذتها الصين لن تتم لمرة واحدة فحسب، بل ستجمع بين عمليات طويلة الأمد، وأخرى حازمة تتقدم بثبات"، في حين يعتقد مراقبون للشأن الصيني بأن العلاقات بالنسبة للمضيق وصلت إلى: نقطة التحول، وبأن الصين ستواصل التصعيد والضغط.
بايدن في مأزق
تبدو حكومة بايدن كمن استسلم للوقوع في دوامة تلك العلاقات التي أخذت تسوء أكثر فأكثر، إذ يقول المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي: "لقد وضعت الصين نفسها في موقف من يتخذ المزيد من الخطوات، ولهذا نتوقع أن يواصلوا الرد على المدى الأبعد"، وأصر هذا الرجل على أن زيارة بيلوسي، التي تحتل المنصب الثاني مباشرة بعد الرئيس والمتحدث الأول باسم مجلس النواب، لتلك الجزيرة بعد مرور 25 عاما على آخر زيارة أميركية رسمية لتلك البلاد، لا تمثل تغيراً في سياسة "الصين الواحدة" التي تنتهجها أميركا. بيد أن أميركا لن تشارك في قرع طبول الحرب، حسبما ذكر كيربي، كما لن يرعبها ما يحدث.
وعلى الرغم من ذلك، ثمة حالة عدم ارتياح كبيرة داخل إدارة بايدن، ولذلك وجهت تحذيرات لبيلوسي التي تنتمي للحزب الديمقراطي كبايدن، من تلك الزيارة، إلا أن خصوم بيلوسي الجمهوريين في الكونغرس، أخذوا يثنون عليها، حيث أعلن النائب الجمهوري روي بلانت من ولاية ميسوري: "أوشك على استخدام أربع مفردات في جملة واحدة لم يسبق لي أن استخدمتها بهذا الشكل من قبل، وتلك المفردات هي: المتحدثة بيلوسي كانت محقة".
إن ساور بيلوسي أي ندم على الضجة التي سببتها، فإنها لن تظهر ذلك البتة، لأنها قالت في اجتماعها مع السيدة تساي: "أصبح التضامن الأميركي مع تايوان حاسماً أكثر من أي وقت مضى، وتلك هي الرسالة التي نحملها إلى هنا اليوم... إذ على العالم أن يختار بين الديمقراطية والاستبداد، ولهذا فإن تصميم أميركا على الحفاظ على الديمقراطية هنا في تايوان وفي مختلف بقاع العالم ما يزال راسخاً".
أعلنت بيلوسي أن سن قانون جديد يشجع على صناعة الرقاقات في أميركا لا بد أن يخلق فرصاً اقتصادية لصالح تايوان، كما ألمحت إلى احتمال قيام صفقة تجارية معها مستقبلاً. وهنا قلدت السيدة تساي بيلوسي وسام الدولة مع الوشاح الأكبر الذي يمنح لمن يقدمون إسهامات متميزة لتايوان. كما أخذ من يتمنون الخير للبلاد يهتفون لبيلوسي في شوارع تايبيه عند توجهها للقاء السياسيين، وزيارتها للمتحف الوطني لحقوق الإنسان، حيث كان من المقرر لها أن تشارك في لقاءات خاصة تجمعها بمعارضين صينيين وشخصيات تايوانية حاربت من أجل إرساء أسس الديمقراطية. هذا وقد أضيء برج تايبيه 101 الذي يعتبر أطول مبنى في الجزيرة بعبارات ترحيبية مثل: "شكراً لك يا صديقة الديمقراطية"، و"تايوان [قلب] الولايات المتحدة الأميركية". إلا أن هنالك من انتقد تلك الزيارة، لدرجة وصف بيلوسي بأنها شخصية تتعمد إضرام الحرائق.
وأمام كل هذا التضامن الذي حاولت بيلوسي أن تعبر عنه، بدا الموقف التايواني أكثر تقلقلاً بعد زيارتها، وذلك لأن تلك الجزيرة بقيت عالقة لفترة طويلة من الزمن داخل منطقة رمادية خطيرة في خضم المنافسة بين أميركا والصين. فهذه الدولة دولة ديمقراطية، يبلغ تعداد سكانها 24 مليوناً، وتعد تاريخياً تابعة للصين، لكن لا شيء يربطها بذلك النظام الشيوعي الذي يحكم أكثر من مليار و400 مليون صيني ويزعم بأن تايوان ملك له. إذ بالرغم من أن تايوان تعتبر أكبر مصدر لأشباه الموصلات المتقدمة، إلا أنها كدولة لم تحظ باعتراف رسمي إلا من قبل عدد من الدول الصغيرة لا يتجاوز العشر، فقد حاولت الصين الحد من علاقاتها، وذلك لأن عملية التوحيد بالنسبة للرئيس الصيني أصبحت قضية مركزية خلال سعيه لتحقيق حالة "التجديد الوطني" التي لا بد أن تحدث بحلول منتصف القرن الحالي، بطريقة سلمية إن أمكن، وباستخدام القوة عند الضرورة.
إلا أن أميركا، من خلال الصيغة الدبلوماسية الملتوية التي تنتهجها، تقبلت فكرة وجود صين واحدة فقط، دون أن تصرح بما يعنيه ذلك على المستوى العملي، ولذلك لم تقم أية علاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان، بالرغم من احتفاظها بعلاقات وثيقة معها تحت مسميات أخرى. وهذا ما يجعل أميركا تؤكد بأن وضع تايوان لا يمكن أن يحسم إلا بوسائل سلمية، ثم إن تشريعاتها الوطنية تفرض عليها: "مد تايوان بسلاح ذي طبيعة دفاعية"وباستبقاء إمكانياتها العسكرية للدفاع عن تلك الجزيرة، غير أن أميركا تتبع في الوقت ذاته سياسة: "الغموض الاستراتيجي" والذي تمتنع من خلاله عن التصريح بوضوح حول إمكانية تدخلها في حال نشوب حرب بين الصين وتايوان، وكيف سيكون شكل ذلك التدخل.
الغرض من زيارة بيلوسي
قامت بيلوسي بتلك الزيارة لأسباب عديدة، منها الشخصي ومنها السياسي، إذ من المعروف عنها انتقادها اللاذع للصين وانتهاكاتها لحقوق الإنسان التي مارستها على الأقل منذ عام 1991، وقد تجلى انتقاد بيلوسي للصين عبر رفعها للافتة في ساحة تيانانمين احتجاجاً على قتل متظاهرين هناك قبل عامين. كما أنها خططت لزيارة تايوان في نيسان الماضي، لكن تلك الزيارة تأجلت بعد إصابتها بكوفيد-19. وبما أنها بلغت عامها 82، لذا فمن المؤكد أن تكون هذه آخر مدة لها في منصبها كمتحدثة باسم مجلس النواب (إذ من المتوقع للديمقراطيين أن يخسروا الانتخابات النصفية في مجلس النواب خلال شهر تشرين الثاني القادم)، ولذلك ربما أصبحت بيلوسي تعتبر تلك الزيارة جزءاً من الوديعة التي ستتركها لمن سيخلفها.
عند تسرب خبر زيارة بيلوسي خلال الشهر الماضي، أعلن بايدن أن قادة الجيش يرون بأن تلك الزيارة "ليست فكرة جيدة"، ولكن عندما استنكرت الصين تلك الزيارة بشكل أوضح، وقع كبار المسؤولين في واشنطن في حيرة من أمرهم، وذلك لأن إلغاء الزيارة يعني الرضوخ للصين وتنمرها، وبما أن بايدن كان سيناتوراً في السابق، لذا لم يقف في وجه صلاحيات الكونغرس، الذي يعتبر صنواً للحكومة في أميركا.
بيد أن تلك الزيارة الأميركية التي قامت بها مسؤولة رفيعة لتايوان لم تحظ على الأرجح بلحظة مريحة، إذ ترى بوني غلاسر من صندوق مارشال الألماني، وهو مركز أبحاث موجود في واشنطن، بأن التوقيت لم يكن صائباً أبداً، لأن الزيارة تزامنت مع الذكرى السنوية لتأسيس جيش التحرير الشعبي، تلك الذكرى التي تعتبر الفترة المناسبة دوماً للتعبير عن التطرف في الشوفينية الصينية(حيث يُرفع ملصق كبير كتب عليه: استعدوا للحرب). والأهم من ذلك أن الرئيس الصيني لم يعد يفصله عن المؤتمر الحاسم لحزبه سوى بضعة أشهر، وفي ذلك المؤتمر سيحاول أن يضمن لنفسه ولاية ثالثة، مخالفاً بذلك الأعراف التي تم إقرارها مؤخراً، لذا تصف غلاسر ما جرى بقولها: "لا يمكن أن نرى شي جين بينغ وهو يخفف من حدة نبرته عند الحديث عن الولايات المتحدة، بل عليه أن يظهر عزمه على الدفاع عن سيادة الصين ووحدة أراضيها"، ومما زاد الطين بلة انتماء بيلوسي للحزب ذاته الذي ينتمي إليه بايدن، وذلك لأن بايدن برأي الصينيين إما ضعيف أو عميل.
تشتكي الصين من تجزئة أميركا لسياسة الصين الواحدة، إذ على الرغم من أن زيارة بيلوسي لم تتعارض مع أي التزام محدد قطعته أميركا على نفسها، إلا أن بايدن هو من زرع بذور الشك عندما أعلن وكرر أنه سيدافع عن تايوان، ليتراجع مسؤولو البيت الأبيض عن تصريحاته فيما بعد، كما سبق أن طالب كل من وزير الخارجية مايك بومبيو ووزير الدفاع مارك إسبير في إدارة دونالد ترامب، الإدارة الأميركية بالتخلي عن غموضها الاستراتيجي، بل حتى إنهاء سياسة الصين الواحدة عبر التعامل مع تايوان كأي دولة مستقلة أخرى.
يرى جود بلانشيت من مركز أبحاث الدراسات الدولية والاستراتيجية أن تصعيد الحساسية يعني خوف كل الأطراف من نفاد الوقت، وهذا ما يقلق القادة الأميركيين الذين يخشون من أن تشن الصين أي عملية غزو خلال السنين القليلة القادمة. كما يخشى حكام الصين من أن تنسل تايوان من قبضتهم لكونها ميالة للاستقلال. فيما يبدي قادة تايوان قلقهم من انشغال أميركا بالحرب في أوكرانيا إلى جانب انصرافها لحل مشكلاتها الداخلية.
التقى بايدن بالرئيس الصيني شي عدة مرات عبر الفيديو وليس بشكل شخصي، وطالب الصين بالموافقة على إقامة سياج حاجز على طريقة الحرب الباردة، وذلك لإدارة حالة التنافس والصراع بين البلدين. وهذا من الممكن أن يسهم في تجنب أي عمل عسكري مباشر خلال زيارة بيلوسي، إلا أنه لن يتمكن من احتواء أي مواجهة تمتد على المدى البعيد. إذ يقول وانغ هوياو رئيس مركز من أجل الصين والعولمة في بكين: "كسرت زيارة بيلوسي الأعراف والأنماط التي اعتمدت خلال السنوات الخمس وعشرين الأخيرة وما قبلها، إلا أن التدريبات التي نفذتها الصين لم تكن مسبوقة هي أيضاً، وهي ترمز إلى الابتعاد عن الوضع الراهن بالنسبة لكلا الجانبين، بيد أن هذا الوضع ليس بصحي".
إن تحولت تدريبات الصين إلى حصار لتايوان بحكم الأمر الواقع، عندها يصبح من واجب بايدن أن يقرر إرسال القوات الأميركية لتقف كسد حاجز هناك، كما فعل بيل كلينتون عندما أرسل السفن الحربية لتعبر مضيق تايوان في عام 1996 ، إلا أن ذلك لابد أن يخلق عبئاً عسكرياً كبيراً ستتحمله أميركا أكثر من الصين، بحسب رأي وانغ. وذلك لأن مجموعة الدول الصناعية السبع أخبرت الصين أنه: "ليس هناك من مبرر لاستغلال زيارة كذريعة للقيام بنشاط عسكري عدائي في مضيق تايوان"، وطالبت جميع الأطراف "بالتحلي بالهدوء، وممارسة ضبط النفس، والتصرف بشفافية، مع إبقاء خطوط التواصل مفتوحة منعاً لأي سوء فهم".
خلال ربع قرن انقضى منذ آخر أزمة كبيرة، أصبحت الصين أشد ثراء وقوة، كما زاد ولعها بالحرب والقتال بشكل عدواني تحت حكم الرئيس شي. لذا فإن بقاء تايوان برأي بلانشيت يعتمد على إبقاء الوضع الراهن كما هو، وهذا ما سيشجع الصين على التعامل مع مصير الجزيرة على اعتبار أنه مشكلة من الأفضل تأجيلها ليوم آخر. ولعل بيلوسي عندما توجهت إلى تايوان كانت ترغب بالتخلص من التعتيم الدبلوماسي مع خلق لحظة من الوضوح الأخلاقي بخصوص الدعم الأميركي لتايوان، إلا أنها خلقت بزيارتها تلك لحظة تهديد وخطر أيضاً.
المصدر: إيكونوميست