خرج قادة الائتلاف الحكومي في ألمانيا والشحوب والقلق باد على وجوههم صبيحة يوم الأحد الواقع في 4 أيلول فبدوا كمن شارك في حفل امتدّ لليلة كاملة، بعدما أمضوا 22 ساعة وهم يتناقشون للتوصل إلى اتفاق حول حزمة تخفيف فواتير الطاقة، إذ ستكلف تلك الحزمة 65 مليار يورو على الأقل (أي ما يعادل 64.7 مليار دولار)، ما يعادل 1.8% من الناتج القومي الإجمالي للبلاد. إلا أن ذلك من المفترض أن يحفظ السلم الاجتماعي خلال شتاء قد يرهق الألمان بأسعار باهظة للغاز الطبيعي ولكل شيء غيره. إلا أن المستشار الألماني، أولاف شولتز، وعد الشعب الألماني بأنه: "لن يسير بمفرده أبداً" بما أنه بات مولعاً بالاقتباس من أغنية جيري آند ذا بيسميكرز خلال الأشهر القليلة الماضية.
إلى جانب ألمانيا، كشفت السويد وجمهورية التشيك خلال هذا الأسبوع عن إجراءات جديدة لمساعدة المواطنين والمشاريع التجارية على التعايش مع أسعار الطاقة التي ارتفعت كثيراً، وذلك لأن الفواتير في أوروبا ارتفعت منذ شهر شباط الماضي، بعدما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، فردت روسيا عبر قطع توريد الطاقة. وقد أتت آخر قفزة في الأسعار عقب القرار الذي صدر في الثاني من أيلول من قبل مجموعة السبع التي تضم كبار الدول الغربية من حيث الاقتصاد، والذي يقضي بتحديد سقف لأسعار النفط الروسي. فما كان من روسيا إلا أن قطعت واردات الغاز عبر خط نوردستريم 1 في اليوم التالي، والذي يعتبر خط التوريد الرئيسي لألمانيا، وتعللت بأن ذلك حدث لأسباب تقنية. وفي صبيحة يوم الخامس من أيلول، قفز مؤشر التجارة الافتراضي للغاز الطبيعي المعروف باسم Amsterdam’s TTF exchange بنسبة 30%، فأصبح سعره الآن يعادل عشرة أضعاف متوسط سعره في أيلول 2021.
الغاز كسلاح ومؤتمر بروكسل
إن استخدام روسيا لصادراتها من الغاز كسلاح تحول إلى اختبار للموارد المالية في أوروبا، وذلك لأن الحكومات باتت تعاني وهي تحاول أن تخلق حالة توازن بين التخفيف على المواطنين والشركات والحاجة لرفع أسعار الطاقة لمنع الإفراط في استخدامها، كما يجب على الحكومات أن تتجنب الخوض في حروب من المزايدات فيما بينها. إذ في التاسع من شهر أيلول، سيلتقي وزراء الطاقة الأوروبيون في بروكسل ليناقشوا الإجراءات الجماعية التي سيتم اتخاذها مثل تحديد سقف موحد لأسعار الغاز والكهرباء، ولحل مشكلات لا يمكنهم معالجتها بشكل فردي، فإن فشلوا في ذلك، عندئذ قد يطلب الناخب الأوروبي من حكومة بلده رفع العقوبات عن روسيا على أمل الحصول على واردات الطاقة بسعر أرخص، أو إفساح المجال لقادة جدد حتى يفعلوا ذلك.
ألمانيا: دعم وتضخم
يذكر أن ألمانيا التي تمثل أكبر اقتصاد في تلك القارة قد طبقت أكبر حزمات لتخفيف أسعار فواتير الطاقة، آخرها كانت الثالثة والأكبر (بما أن الحزمتين السابقتين بلغت قيمتهما مجتمعتين 30 مليار يورو)، إذ تشمل تلك الحزمة إعفاءات ضريبية لصالح الصناعات التي تستهلك الكثير من الطاقة، ودفعات تقدم لمرة واحدة وتعادل 200 يورو بالنسبة للطلاب و300 يورو بالنسبة للمتقاعدين، وبطاقات مدعومة من أجل النقل العام، ورواتب شهرية أعلى مخصصة للأطفال. أما مكابح ضبط أسعار الكهرباء فتحدد سقف الحد الأدنى للاستهلاك الأساسي للعائلات وللمشاريع الصغيرة، كما سترتفع مخصصات الرفاهية الأساسية ورواتب الأطفال، وكذلك إعانات الإيجار لصالح المحتاجين.
لا بد أن يرحب المواطنون الذين يعانون من ضائقة مالية بهذا الدعم، لكن ذلك سيزيد من حالة التضخم، التي وصلت إلى 8.8% سنة بعد سنة في شهر آب الماضي. ولذلك يخطط المستشار شولتز لتمويل تلك الإعانات ومشاريع الدعم بصورة جزئية وذلك عبر طرح فكرة تطبيق 15% من الحد الأدنى العالمي لضرائب الشركات الذي تم تحديده في تلك الخطة. أي أنه يفكر بتمويل عملية ضبط سعر الكهرباء عبر فرض سقف لأرباح الشركات التي تقوم بتوليد الكهرباء بوساطة طاقة الرياح، أو الطاقة الحيوية أو الشمسية أو النووية، وذلك لأن تلك الشركات تحقق أرباحاً طائلة برأيه، لأن سعر الغاز الطبيعي هو الذي يحدد سعر الكهرباء.
فرنسا: تأميم ودعم بالجملة
أما فرنسا فقد اتخذت منهجاً مختلفاً إلى حد كبير، إذ في مطلع شهر آب، أقر البرلمان الفرنسي حزمة لتخفيف الأسعار بلغت قيمتها 4 مليارات يورو، كما قدم الرئيس إيمانويل ماكرون معونات عامة بدلاً من المعونات التي تستهدف فئات معينة، إلى جانب وضعه حداً لارتفاع الأسعار بدلاً من تعويض من تضرروا بسببها. وذلك لأن فرنسا ثبتت أسعار الغاز حتى نهاية عام 2022 على أقل تقدير، مع تحديدها لسقف ارتفاع أسعار الكهرباء وصل إلى 4%. ومنذ مطلع شهر أيلول، رفعت فرنسا سعر البنزين المدعوم إلى 30 سنتاً لليتر الواحد، كما علقت لافتات رسمية باسم الحكومة على مضخات البنزين لتذكر المستهلكين بتلك المكرمة. وهنالك أيضاً بعض الإجراءات التي تستهدف فئة محدودي الدخل والطلاب، إلا أن جزءاً كبيراً من تلك الإجراءات تم تمويله عبر استغلال العجز في الميزانية، إذ تتوقع فرنسا للعجز في ميزانية حكومتها أن يبقى على حاله عند نسبة 5% خلال عام 2023، كما كان خلال السنة الحالية، بعدما سبق ألمانيا بثلاث نقاط. وفي هذه الأثناء تقوم الحكومة الفرنسية بتأميم شركة الطاقة EDF العملاقة بما أنها تملك 84% من أسهمها، وذلك لتسهيل أمور الضغط على تلك الشركة لتتقبل سقف الأسعار. وبالعموم تعدّ فرنسا دولة مصدّرة للكهرباء، إلا أن أكثر من نصف مفاعلاتها النووية البالغ عددها 56 تخضع لإصلاحات في الوقت الراهن، ولهذا يتعين على تلك الدولة أن تدفع تلك الأسعار المرتفعة بالجملة لتأمين احتياجاتها.
إيطاليا: دعم يطيح بالحكومة
بيد أن الحكومات باتت تخشى من العواقب السياسية المترتبة على ارتفاع أسعار الطاقة، لكن محاولة حماية المواطنين من تلك الآثار غير مضمونة هي أيضاً، ففي إيطاليا، أسهمت الجهود التي بذلت للتخفيف من حدة أزمة تكاليف المعيشة في إسقاط ماريو دراجي، رئيس الوزراء السابق. إذ خلال شهر حزيران، أعدت حكومة دراجي مشروع قانون يهدف لتخفيف فواتير الطاقة مما أثار حالة سخط بين إحدى الجهات الشريكة له في الائتلاف، وهي حركة النجوم الخمسة المعارضة، وذلك لأن مشروع القانون هذا يشتمل على بنود تتصل بإنشاء مصنع لتحويل لنفايات إلى طاقة إلا أن تلك الحركة اعتبرته مضراً بالبيئة. وهذا ما تسبب بقيام سلسلة من الحوادث التي دفعت دراجي للاستقالة مع الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة في 25 أيلول.
كان حجم الدعم الذي قدمته إيطاليا هائلاً، وذلك لأن حكومة دراجي خصصت 52 مليار يورو بحسب ما ذكره وزير المالية الإيطالي دانييل فرانكو، إذ يرى المسؤولون بأن أهم أولوية لديهم هي تحديد سقف لفواتير الوقود لصالح الفئات الأشد فقراً، وتأتي بعد تلك الفئة فئة المشاريع التجارية التي تستهلك قدراً كبيراً من الطاقة. ولكن بسبب التضخم، والنمو الاقتصادي الذي فاق التوقعات، وكذلك الأمر بالنسبة للعائدات الضريبية، لم تضطر الخزينة الإيطالية لاستدانة أموال تفوق ما هو متوقع، لذا من المرجح أن يتم الكشف عن حزمة جديدة هي السابعة من نوعها حتى الآن، في بحر هذا الأسبوع.
ومع ذلك تبقى إيطاليا من بين الدول التي يرجح لارتفاع أسعار الطاقة فيها أن يضعف من التضامن الأوروبي في وجه روسيا. إذ في الرابع من أيلول، دعا ماتيو سالفيني زعيم حزب رابطة الشمال المعارض من اليمين المتشدد لإعادة النظر في العقوبات التي فرضت على روسيا، وبما أن اليمين صاحب الحظوظ الأعلى في الانتخابات؛ لذا من المرجح لهذا الحزب أن يصبح عضواً في الائتلاف الحكومي.
المعارضة التشيكية تكشف عن وجهها
وحتى في وسط أوروبا وشرقيها، حيث وصل الدعم لأوكرانيا إلى أقوى مستوياته، تهدد أسعار الطاقة المرتفعة بتقويض حالة الإجماع على العقوبات. ففي براغ، شارك 50 ألف شخص في مسيرة نظمتها جماعات من اليمين واليسار المتطرف في الثالث من أيلول لشجب المساعدات المقدمة لأوكرانيا ولمطالبة الدولة بمزيد من المساعدات في دفع الفواتير. وقبل ذلك بيوم، بقيت الحكومة التشيكية بالرغم من حجب الثقة عنها بعد فرضها لحزمة الدعم المخصصة للطاقة إلى جانب دعم الرواتب والمعاشات التقاعدية ودعم الطاقة بقيمة بلغت 7.2 مليارات يورو، أي ما يعادل نحو 3% من الناتج القومي الإجمالي، وذلك لأن الحكومة الائتلافية المؤلفة من أعضاء ليبراليين ومن تيار الوسط معادية لروسيا بكل تأكيد. إلا أن المعارضة التي يتزعمها ملياردير شعبوي ورئيس وزراء سابق سبق أن اصطدم مع الاتحاد الأوروبي بسبب قضايا فساد، لا تعادي روسيا بتلك الدرجة.
بلغاريا تقطع الخيط الأوروبي المعادي لروسيا
قد يكون الخط الرفيع الحازم الذي التزمه الاتحاد الأوروبي في معاداته لروسيا قد انقطع في بلغاريا، وذلك بعد سقوط الحكومة الائتلافية الليبرالية في شهر حزيران، ثم إعلان حكومة تصريف الأعمال عن نيتها التفاوض مع شركة غازبروم للغاز التابعة للحكومة الروسية، وذلك حتى تستأنف توريدها للغاز بعد انقطاعه في شهر نيسان. أما وزير الطاقة الجديد في بلغاريا فهو شخصية مغمورة لكن سيرته الذاتية تتضمن قيامه خلال فترة محدودة بإعادة هيكلة شركة روسية تابعة لشركة طاقة إيطالية. ولهذا، سرعان ما قام بإلغاء شحنات الغاز الطبيعي المسال القادمة من أميركا التي أبرمها سلفه، ليقوم بالتفاوض في الوقت الراهن مع تركيا أو أذربيجان على توريد تلك الشحنات.
إن الخطر المتمثل بتراجع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الواحدة تلو الأخرى عن موقفها يجعل من أمر المباحثات في بروكسل المزمع عقدها في 9 أيلول أمراً بالغ الأهمية. فقد جمعت حكومة التشيك التي تشغل منصب الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي قائمة مقترحات مقدمة من الدول الأعضاء، وبحسب ما ورد في نسخة عن وثيقة تشيكية حول تلك المناقشات اطلع عليها موقع بوليتيكو الإخباري، فقد تبين بأنها تتضمن تحديد سقف لسعر الغاز الروسي يعادل ما تخطط له مجموعة السبع لتحديد سعر الغاز لديها.
لذا لا شك في أن تكون تلك النقاشات مثيرة للجدل كما هي الأحوال داخل تلك الدول، فقد تعرض ماكرون لانتقادات في الداخل الفرنسي بسبب إجراءات مثل تخفيض سعر البنزين لأن ذلك يفيد الأغنياء أكثر من الفقراء. ولهذا تعهد الرئيس الفرنسي في الخامس من أيلول، بأن تستهدف إجراءات التخفيف القادمة فئات معينة بصورة أفضل. أما في ألمانيا، فقد ضاق الصناعيون فيها ذرعاً بالحكومة التي تساعد الأسر والعائلات على حساب المشاريع التجارية، إذ وصف سيغفريد روسورم رئيس حزب BDI وهو أهم لوبي صناعي في ألمانيا، آخر حزمة بأنها: "مخيبة للآمال وغير محددة" وذكر بأن وصول أسعار الطاقة إلى تلك المستويات سيجعل من أمر بقاء الشركات واستمرارها على المحك.
المصدر: إيكونوميست