إيران.. توظيف "المقدس" في حروب النفوذ

2024.09.06 | 05:42 دمشق

275257
+A
حجم الخط
-A

عندما قرر "حزب الله" التدخل عسكرياً في سوريا لنصرة حليفه "بشار الأسد" في مواجهته مع الشعب السوري، اختار قادته شعاراً مفاجئاً وغير متوقع، "لن تُسبى زينب مرتين".

فهذا الشعار، عدا عن كونه يستبطن فرزاً طائفياً واضحاً، فإنه أيضاً يتناقض بشكل صارخ مع ادعاءات "حلف المقاومة" حول علاقته بالشعوب والمظلومين. خطورة هذا الشعار تكمن في أنه ينقل الحراك الذي سُميّ "الربيع العربي" - ليس في سوريا وحسب، بل في المنطقة كلها - من حقله الأساس بصفته صراعاً بين نظم مستبدة وشعوب منهوبة ومقموعة، إلى صراع طائفي تاريخي، أي إنه يحيي صراعاً قديماً في المنطقة يهدف إلى تغييب الصراع الأساسي الذي لا بد منه لكي تخطو شعوب هذه المنطقة خطوتها الأهم نحو بناء دولها الحديثة وإنهاء دولة "رعايا لا مواطنين".

لم يتوقف الأمر عند "حزب الله" في محاولة وسم ما يحدث بوسم الصراع الطائفي، بل تكرر أيضاً في العراق عندما صرّح رئيس وزرائه الأسبق "نوري المالكي" بأن معركته مع المدن العراقية "السنيّة" في "الأنبار" و"صلاح الدين" و"ديالى" وغيرها، هي "معركة مع أحفاد يزيد"، مستحضراً كما "حزب الله" صراعاً قديماً مضى عليه قرون طويلة.

قبل أيام، وفي تغريدة له على منصة "X"، كتب السيد "علي خامنئي" مرشد الثورة الإيرانية، وأعلى مرجعية دينية لدى الشيعة في إيران: "إن المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية هي معركة مستمرة".

يختلف الكثيرون اليوم ممن يقفون ضد إيران ودورها مع المدافعين عنها حول هدف إيران وعلاقتها بالقضية الفلسطينية. فهل هناك مشروع إيراني حقيقي لتحرير فلسطين، أو لمناصرة "المظلومين" كما تقول الرواية الرسمية الإيرانية لتبرير تدخلها في معظم دول المنطقة؟ غالباً ما تكون حوارات الطرفين حول هذا الأمر محكومة بالفشل. المشكلة الغريبة في هذه الحوارات أن كلا الطرفين يستندان إلى الوقائع ذاتها في الوصول إلى نتائج متناقضة تماماً.

لن أخوض في مصير لبنان الأسود الذي وصل إليه بعد أن أصبح "حزب الله" هو المقرر الأول فيه، ولا في مصير العراق واليمن بعد أن تحكمت إيران فيهما، ولا حتى في الواقع الراهن للشعب الإيراني داخل إيران. ما يهمني هنا هو ماذا فعل التدخل الإيراني ومن يتبعها في الصراع السوري، وكيف تعمدت إيران تدمير الدولة السورية أولاً، قبل أن تنتقل بمنهجية مخططة ومتعمدة لتفتيت النسيج المجتمعي السوري، أي لتدمير سوريا كلها دولةً ومجتمعاً وشعباً.

الفكرة القائلة بأن أسرع طريقة لتحطيم أي جيش أو تنقيته ممن قد يواجهون السلطة هي وضعه في مواجهة شعبه، وهذا ما تم تبنيه من قبل من أدار الصراع في سوريا.

في حديث مطول للأمين العام لحزب الله "حسن نصر الله" على قناة "الميادين" تم بثه قبل عام أو عامين، تحدث فيه عن أشهر قليلة سبقت انفجار الثورة السورية، وذكر في سياق حديثه أنه و"قاسم سليماني" الذي كان حينها قائداً لفيلق "القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، قررا زيارة "بشار الأسد" بعد تنحي "حسني مبارك" في 11 شباط عام 2011. لم تكن الثورة السورية قد انفجرت حينها، لكن تخوفهما من أن يلقى "بشار الأسد" مصيراً مشابهاً لمصير "حسني مبارك" دفعهما لطلب اللقاء. في ذلك اللقاء تم وضع خطة لمواجهة احتمال انفجار الوضع في سوريا، ويبدو أن بشار الأسد القاصر فعلاً عن فهم وقيادة لحظة فاصلة في التاريخ كهذه اللحظة، سلّم سوريا للحرس الثوري الإيراني كي يدير المعركة نيابة عنه.

كانت لحظة انفجار الثورة السورية فرصة ثمينة لـ"الحرس الثوري" ومعه "حزب الله" كي يُحكما سيطرتهما على كامل مفاصل سوريا. وكان من البديهي أن يفكرا في ضمان ولاء مؤسسة الجيش السوري؛ فإذا انحاز الجيش للشعب، أو حتى اتخذ موقفاً محايداً، فإن الثورة ستنتصر لا محالة. لهذا كان من الضروري أن تتغير بنية هذه المؤسسة، ولم يكن ذلك صعباً، فهي كباقي مؤسسات الدولة السورية متهالكة وينخر فيها الفساد، وتعشش الطائفية في تركيبتها. ولهذا جاء قرار زجّ جيش النظام السوري في مواجهة الشعب السوري باكراً، حين لم تكن وقائع الصراع تتطلب زج الجيش. لكن الفكرة القائلة بأن أسرع طريقة لتحطيم أي جيش أو تنقيته ممن قد يواجهون السلطة هي وضعه في مواجهة شعبه، وهذا ما تم تبنيه من قبل من أدار الصراع في سوريا.

في البداية كان بالإمكان تجنيب سوريا المقتلة التي زُجّت بها بقليل من الحكمة السياسية، لكن إيران لم تكن تريد وقف الدم قبل أن تتمكن من الإمساك جيداً بمفاصل القرار في سوريا، متوهمة أنها بإمكانها سحق الثورة السورية عندما تريد. وبهذه الطريقة تصبح سوريا مثل لبنان والعراق واليمن، دولاً محكومة من قيادات محلية تتبع لسلطة الولي الفقيه، وتخضع له.

لا يحتاج من يريد معرفة ماذا أرادت إيران من تدخلها في دول المنطقة إلى عناء كثير؛ فالوقائع متاحة وعلى مرأى الجميع. وإيران ما تزال طامحة إلى نفوذ أكبر تتقاسمه مع إسرائيل في المنطقة.

تصميم السوريين على ثورتهم، وتغلغل إيران داخل ما تبقى من مؤسسة الجيش، وضع عائلة الأسد ومن يتبعها أمام خيار وحيد هو الحضن الإيراني. لم يفكر بشار الأسد وعائلته بتبعات هذا الارتماء الغبي، ولا إلى ماذا سيؤدي تسليم أمر سوريا لـ"قاسم سليماني" و"حزب الله"، طالما أن السلطة ستبقى كما هي. والأصوات التي حاولت من داخل النظام نفسه التنبيه لخطورة الأمر قامت إيران، وبالتواطؤ مع جهات أمنية وعسكرية موالية لها، بإبعادها قتلاً أو تسريحاً أو غير ذلك.

سار كل شيء كما خطط له "قاسم سليماني" في البداية، لدرجة أن أحد رجال الدين الإيرانيين "مهدي طائب" المقرب من "الخامنئي" والذي يرأس مركز "عمّار الاستراتيجي" صرح في سنة 2013 بأن سوريا أصبحت المحافظة (35) لإيران، وأنها أكثر أهمية من "الأهواز". لكن حسابات الأرض السورية لم تطابق حسابات البيدر الإيراني، وهكذا اضطر "سليماني" إلى زيارة "موسكو" وطلب من "بوتين" التدخل العاجل لإنقاذ حليفهما "بشار الأسد".

لا يحتاج من يريد معرفة ماذا أرادت إيران من تدخلها في دول المنطقة إلى عناء كثير؛ فالوقائع متاحة وعلى مرأى الجميع. وإيران ما تزال طامحة إلى نفوذ أكبر تتقاسمه مع إسرائيل في المنطقة، وما تزال أميركا ترى أن دور إيران "البعبع القوي" ضروري لها في المنطقة، لكن ضمن محددات وشروط لا يحق لها تجاوزها. وإيران التي خلقت كل المقدمات الضرورية اللازمة لتفجير صراع طائفي يشغل المنطقة لعقود قادمة، ما تزال الولايات المتحدة بحاجة إليها، فهي وحدها القادرة على إشعال وإدارة هذا الصراع، لا سيما أن المنطقة قد أصبحت مناسبة للبدء به.

لم يكن هدف إيران - وكل من يدور في فلكها - ولو للحظة واحدة أن تحرر شبراً من فلسطين، وهي دمرت، ومستعدة لتدمير كل المنطقة من أجل تقاسم النفوذ مع إسرائيل برعاية أميركية. والوحشية التي مارستها ويمكن أن تمارسها بحق شعوب هذه المنطقة تحت يافطة الصراع الطائفي لا يستطيع أي طرف آخر ممارستها.

لماذا دمرت إيران سوريا وغيرها بهذه الطريقة، وإلى هذه الدرجة التي لم تكن إسرائيل حتى لتحلم بها؟
لماذا صرفت المليارات على تفتيت النسيج الاجتماعي السوري؟
لماذا تستحضر معارك موغلة في التاريخ وتؤجج كل هذا الحقد الطائفي المسعور؟
مجرد أسئلة قد تكون الإجابة عنها بالغة الضرورة للسوريين ولغيرهم.