icon
التغطية الحية

إيران اتهمت تركيا بسرقة الأمطار.. تلقيح السحب حل لنقص المياه أم سبب للنزاع؟

2024.10.15 | 11:47 دمشق

طائرة مزودة بمعدات الاستمطار  أو تلقيح السحب- المصدر: الإنترنت
طائرة مزودة بمعدات الاستمطار أو تلقيح السحب- المصدر: الإنترنت
The Economist- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

أمضى بيل كرونيل ردحاً طويلاً من فترة عمله التي امتدت لنصف قرن وهو يسافر من بلد إلى بلد ليرصد أسوأ الأحوال الجوية. وهذا الرجل الذي فاز ببطولة لركوب الثيران في الماضي، ويبلغ اليوم الثمانين من عمره، عمل منذ ستينيات القرن الماضي في مجال الطيران، ثم أدرك بأن السفر بالطائرة إلى مدن رعاة البقر البعيدة والتي تقع غربي أميركا أفضل من السفر إليها بالسيارة. وبعد تعرضه لإصابة في أواخر السبعينيات، تخلى كرونيل عن رياضة ركوب الثيران برمتها، واتخذ لنفسه مهنة في مجال الطيران فوق الأدغال، إذ صار ينقل المؤن والركاب إلى وسط آلاسكا. بيد أن الطيران في القطب الشمالي يفرض جملة من التحديات، وعلى رأسها سوء الأحوال الجوية، ودرجات الحرارة المنخفضة إلى حد كبير، مع ضعف الرؤية.

لكن أن كل تلك المخاطر لا تعتبر شيئاً عند مقارنتها بمصاعب مهنته الحالية، إذ خلال السنوات الثلاث الماضية، بقي كرونيل يحاول أن دفع السماء إلى إنزال الثلوج، وعندما استدعاه رب العمل، وهو شركة مستشاري الطقس في أميركا الشمالية، هرع كرونيل إلى طائرته من نوع كيسنا 414 ذات المحركين، وبعد دقائق معدودات، حلقت تلك الطائرة بجناحيها وجسمها الذي تغطيه عشرات الأنابيب المعدنية غير المتناسقة، وسط الأجواء المضطربة فوق مدينة بحيرة الملح بولاية يوتا الأميركية. أي أن كرونيل لم يتجنب العواصف العاتية التي تحتشد عند القمم الشاهقة لجبال واساتش، بل حلق على الفور بينها، وهو يرش محلولاً كيماوياً على الغيوم.

يعتقد أنصار هذه التقنية التي تعرف باسم تلقيح السحب بأنها بوسعها زيادة الهطول بنسبة تصل إلى 10% تقريباً، إذ تستخدم هذه الطريقة في المناطق التي ضربها الجفاف بالغرب الأميركي على أمل أن يهطل الثلج من السماء، لأن الثلج عندما يذوب، فإنه سيمد بمائه الأنهار والبحيرات، لذا فإن الهدف من تلك العملية هو إحداث عاصفة في المقدمة تعمل على إنزال الثلج فوق سلسلة جبال كاملة.

"لعبة الانتظار"

يعيش كرونيل في مقطورة صغيرة على أطراف مدينة لوغان التي تقع عند سفوح جبال واساتش شمالي مدينة بحيرة الملح. وخلال موسم تلقيح السحب، والذي يمتد من أواخر شهر تشرين الأول وحتى مطلع نيسان، يتواصل هذا الرجل بشكل يومي مع تود فلاناغان وهو خبير بالأرصاد الجوية من أبناء تلك المنطقة، وذلك لأن الأخير يعمل على تعقب العواصف التي تتقدم نحو منطقتهما. وبكلماته التي تخرج من أنفه بطريقة غريبة، يخبرنا كرونيل عن ذلك فيقول: "إنها لعبة انتظار، فأنا أرتاد النادي الرياضي، لأنني من دون ذلك لابد أن أصاب بالجنون إن بقيت أنتظر كل هذا الوقت".

لابد من أن تتحقق جملة من الظروف الجوية، وأهمها درجة الحرارة المناسبة والرطوبة الملائمة، واتجاه الرياح وسرعتها، وذلك قبل أن يعطي فلاناغان إشارة الانطلاق لكرونيل. بيد أن العنصر الحساس الذي ينتظره يتمثل بوجود مياه شديدة البرودة، لأن الماء حتى يتجمد يحتاج لبذرة، أي لشيء صلب حتى يتجمد حوله. وعندما يكون الهواء نظيفاً يندر وجود البذور، عندئذ يمكن لقطرات الماء أن تظل سائلة لدرجة تصل إلى ما دون صفر مئوية، والهدف من زراعة بذور السحاب هو تحويل الماء فائق البرودة إلى جليد، والذي بدوره لابد أن يتساقط ثلجاً. ولذلك يدرس فلاناغان توقعات الطقس وتبدلاته عبر تقارير الطيارين عن الجليد الذي يتشكل على الطائرة في المنطقة، لأن في ذلك ما يشير إلى احتمال تشكل مياه فائقة البرودة.

وبمجرد أن تجمع المعلومات عن الأرصاد الجوية، يستدعي فلاناغان كرونيل، حتى لو كانت الساعة الثالثة صباحاً أو بعد الظهيرة، فيقود كرونيل سيارته إلى المطار، ويشغل محرك الطائرة ثم يقلع في السماء، وعن ذلك يقول: "عندما تصل إلى السحاب، يختفي إحساسك بالعمق وبالأطراف". وقد تترافق تلك العواصف مع رياح قوية تقلب كيان طائرته الصغيرة عندما تصل إلى ارتفاعات عالية، وعن ذلك يقول: "في هذه اللحظات تختفي حواسك العادية التي تساعدك على النجاة في النهار والليل، وهنا عليك أن تنتقل لأدوات الطائرة، ثم عليك أن تؤمن بأن هذه الأداة صائبة، وأن تبقى على إيمانك إلى أن تخرج من بين السحاب".

عندما يصل كرونيل إلى الارتفاع المناسب، تطلق طائرته نفحة من مادة يوديد الفضة، ويشبه هذا المركب الذي يتمتع ببنية جزيئية شكل الجليد ولذلك يعتبر بذاراً أقرب للمثالية يمكن لبلورات الجليد أن تتشكل عليه، حتى عندما ترتفع الحرارة عن الدرجة المطلوبة لتشكيل الظروف الملائمة لهطول الثلوج.

تنقل هذه المادة الكيماوية بواسطة ألسنة لهيب أسطوانية تطلق ذرات من مادة يوديد الفضة عند احتراقها، ويثبت 24 وحدة من هذه القنابل الحارقة التي تشبه الألعاب النارية الرومانية الضخمة التي تشبه الشموع، على كل جناح من جناحي طائرته، وكل منها يحترق في غضون أربع دقائق، وكل ما ينبغي على كرونيل فعله في ذلك الحين هو الضغط على أحد الأزرار.

العدو الأكبر

تتيح الأتمتة لكرونيل التركيز على المهمة الأساسية للعملية، وهي إبقاء الطائرة محلقة في الأجواء، إذ من بين المخاطر الكثيرة التي يتعرض لها كرونيل بين الغيوم، ثمة خطر أبرز وعنه يعلق بالقول: "أكبر عدو لك هو الجليد"، وذلك لأن الطائرات الكبيرة تتمتع بآليات مثل تسخين العناصر الموجودة في أجنحتها، وذلك لمنع الجليد من التشكل. غير أن طائرة كرونيل تعاني من خطر التجمد بشكل دائم، ما يعني تعرض الطائرة للتوقف والسقوط من كبد السماء، ويعلق كرونيل على ذلك بقوله: "ثمة هامش بسيط بين الحياة والموت، إذ عندما تحدث حالة طارئة، لا مجال لديك للخطأ، وإلا سيكون الموت بانتظارك، أي يجب أن تتم الأمور على الوجه الأمثل".

لكن الأمر يستحق خوض غمار المخاطر بالنسبة لكرونيل، ولا تتعلق المسألة بأمر الدفع الذي يستلمه فحسب، بل أيضاً لإحساسه بأنه يقوم بدوره في التخفيف من أزمة المياه التي زادت حدتها في المنطقة، ولهذا يتذكر بشوق بعض الرحلات الجوية التي أجراها خارج سانت جورج قبل بضع سنوات والتي أسفرت عن سلسلة من العواصف الثلجية الكبرى، فيقول: "أنتجنا ما يكفي من فائض الماء لدرجة أنهم طلبوا منا الكف عن التحليق".

مشروع "نهر السماء"

تستعين المناطق التي تشح فيها الماء في مختلف بقاع العالم بتقنية تلقيح السحاب وذلك للحد من أسوأ مضار التغير المناخي، إذ بحسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، أجرت 52 دولة عملية تلقيح للسحاب في عام 2014، وفي أستراليا تستعين شركة الخدمات التي تعرف باسم سنوي هيدرو بمولدات لتلقيح السحاب، وهي عبارة عن آليات تطلق نفحات من يوديد الفضة في الهواء، وذلك لزيادة هطول الثلج والذي سيقوم بدوره بتغذية الأنهار التي تمد السدود الكهرومائية بالمياه. كما استعانت الإمارات بهذه التقنية لفترة أزيد من ثلاثين عاماً وذلك في محاولتها زيادة إمداداتها من المياه لسكانها الذين زاد عددهم بسرعة. وفي عام 2016، أعلن مسؤولون صينيون عن العمل بمشروع نهر السماء، وهو مشروع يهدف إلى تحويل المياه من حوض نهر يانغتسي لروافده التي جفت بما يوفر مياه الشرب لنحو 420 مليون نسمة.

حاولت العديد من الولايات الغربية في أميركا أن تجرب هذه العملية، ففي حوض نهر كولورادو الذي يقع في الداخل الأميركي، حيث تعتمد مدن صحراوية مثل لاس فيغاس وفونيكس على الإمدادات الضئيلة من ذلك النهر الذي ما فتئت مياوهه تتبخر، خصصت مؤسسات المياه هناك ملايين الدولارات سنوياً لزيادة هطول الثلوج. إذ أصبحت ولاية إيداهو تنفق اليوم 3.9 مليون دولار سنوياً على عمليات تلقيح السحاب، مقارنة بما كانت تصرفه في عام 2017 والذي وصل إلى 500 ألف دولار. وفي ولاية يوتا، وافق المجلس التشريعي للولاية على إنفاق مبلغ قدره 18 مليون دولار على عمليات تلقيح السحاب في عام 2025، أي بزيادة عما صرفته هذه الولاية على هذه العملية والذي وصل إلى 350 ألف دولار خلال العامين المنصرمين فقط.

نتائج غير مضمونة

يؤكد مؤيدو عملية تلقيح السحب بأن هذه الطريقة هي أرخص وسيلة لزيادة إمدادات المياه، وذلك لأن الطرق القديمة مثل السدود والقنوات والخزانات باهظة التكاليف. أما مشروع نقل الدلتا في كاليفورنيا، والذي من المقرر من خلاله تشييد نفق طوله 72 كيلومتراً لضخ الماء من الأنهار الموجودة في شمال الولاية إلى الأنحاء الجنوبية التي تعاني من الجفاف بعد زيادة عدد السكان، فمن المتوقع أن تصل تكاليفه إلى 20 مليار دولار.

ولكن ماتزال هنالك أسئلة تدور حول مدى فعالية هذه التقنية وقدرتها على الصمود في وجه أي اضطراب مناخي عرضي، إذ يتعقد بعض الناس بأن فوائد هذه التقنية مبالغ بها، ولهذا يقول جيفري فرينش أستاذ علوم الغلاف الجوي بجامعة وايومنغ: "لم يطور العلم القدرة على دعم كثير من هذه المزاعم"، أما جيمس روجر فيلمينغ، وهو مؤرخ يتبع مذهب التشكيك، فيرى بأنه بوجود أجهزة تعمل من الأرض مثل المولدات: "فإنه لم يتضح مدى وصول الإيوديد الفضي إلى السحاب". ولقد انقطع التمويل عن الأبحاث المتخصصة بهذا الشأن في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لكن التمويل عاد للظهور مؤخراً مع زيادة القلق من التغير المناخي. بيد أن مشروع نهر السماء تعرض لانتقادات من عدة علماء بارزين في الصين، بينهم لو هانشينغ، وهو أستاذ جامعي متخصص بعلوم المناخ في الجامعة الوطنية لتقانة الدفاع، وهذا ما جعله يصرح لصحيفة South China Morning Post في عام 2018 بالقول: "لا يمكن للمرء أن يصدق أنه تمت الموافقة على مشروع لا يقوم على أدلة علمية ولا على جدوى تقنية"، وبعد مرور ثماني سنوات على إماطة اللثام عن هذا المشروع، لم يتضح مدى التقدم الذي حققته الصين في هذا المضمار.

يرى بعض العلماء بأن عمليات تلقيح السحب التي تتم في مكان ما يمكن أن تتمخض عن نقص في الهطولات المطرية في مكان آخر، وإن مجرد ظهور احتمال كهذا لابد أن يتسبب برفع سلسلة من الدعاوي القضائية في أماكن مثل الغرب الأميركي، حيث تقسم الموارد المائية بناء على اتفاقيات بين الولايات. وفي مناطق أقل استقراراً في العالم، لابد أن يتسبب ذلك بقيام حروب.

مادة مبهرة

في أربعينيات القرن الماضي، أخذ العالم برنارد فونيجت الذي كان يعمل لدى شركة جنرال إلكتريك في نيويورك بالبحث في مشكلة تحطم الطائرات بسبب المياه فائقة البرودة عند تحولها إلى جليد، وكان الهدف المحدد من هذا البحث الذي عرف باسم: مشروع سيروس هو اكتشاف مركب بوسعه تحويل تلك المادة إلى ثلج وجليد.

فتبين للعلماء بأن التنفس في ثلاجة مليئة بالجليد الجاف وهو عبارة عن ثنائي أكسيد الكربون المجمد، يتسبب بتشكل بقع صغيرة من الجليد المائي، وذلك لأن ذرات الجليد الجافة تتحول إلى بخار الماء عند إطلاق النفس على بلورات الجليد، ولاكتشاف التطبيقات العملية لهذه الحالة، توجه فريق سيروس نحو الهواء ونثروا ما يعادل 2.7 كيلوغراماً من حبيبات الجليد الجاف فوق جبل غرايلوك بماساتشوستس. ولقد وصف التجربة إرفينغ لانغموير وهو كيميائي حائز على جائزة نوبل ومدير المختبر الذي أجرى التجربة أثناء مراقبته لتلك العملية بأنها تمثل: "تحولاً جذرياً للغيمة" التي بدأت الثلوج تنهمر منها.

بيد أن الجليد الجاف أثبت أنه عنصر صعب التعامل معه في عملية تلقيح السحب، فهو ليس ثقيل فحسب، بل إنه أيضاً يتحول إلى غاز ثنائي أكسيد الكربون، والذي يمكن أن يخنق طاقم الطائرة داخل جسمها المغلق. ولذلك توجه فونيجت نحو كتب الكيمياء، بحثاً عن مواد أخرى للتلقيح فعثر بالصدفة على مادة ذات بنية بلورية وشبيهة بالجليد إلى حد عجيب ألا وهي مادة يوديد الفضة.

كان المخططون العسكريون الأميركيون يحلمون باستخدام يوديد الفضة للتحكم بالطقس لأغراض استراتيجية، إذ في مذكراته كتب إدوارد تيللر الذي يعتبر أبو القنبلة الهيدروجينية، عن لقائه بلانغموير في المخبر الوطني للوس آلاموس في عام 1947، وبحسب ما ذكره تيللر، فإن لانغموير تحدث كثيراً عن حجم الأضرار التي تسببت بها عاصفة أدت لظهورها عملية تلقيح للسحب أجراها هذا الشخص، لدرجة دفعت الكاتب للتساؤل عما إن كان لانغموير يرى في تلك التقنية حالة سباق على القنبلة الذرية.

وفي فيتنام، اختبر الجيش أفكار لانغموير وذلك عندما حاول إطالة أمد الرياح الموسمية بهدف إرباك جيش فيتنام الشمالية، بيد أن السرية التي أحاطت بالعملية التي يعرف اسمها الحركي ببوباي، صعبت على الباحثين المستقلين عملية تقييم فعاليتها في ذلك الزمن. وفي عام 1967 ورد في مذكرة صادرة عن الحكومة بأن العملية حققت نجاحاً باهراً، وذلك لأن 82% من السحب الملقحة أنتجت أمطاراً بعد تنفيذ العملية بمدة قصيرة، "وتلك النسبة أعلى من التوقعات العادية في حال غياب عملية التلقيح".

كان من أوائل من اطلعوا على هذا البحث كورت شقيق برنارد والذي كان روائياً ناشئاً يعمل في مجال العلاقات العامة لدى شركة جنرال إلكتريك، فتحولت هذه التجربة إلى أساس لروايته: "مهد القطة" التي نشرت في عام 1963، والتي يسرد فيها حكاية عالم نووي حائز على جائزة نوبل اسمه فيليكس هوينيكر والذي ابتكر مادة الجليد تسعة، القادرة على تحويل الماء إلى جليد في درجة حرارة الغرفة. وفي انقلاب معقد للحبكة، تصل مادة الجليد تسعة إلى البيئة فتتسبب بوقوع كارثة عالمية كونها أدت إلى تحول كل مياه العالم إلى جليد، وفي ذلك تحذير ساخر من العواقب غير المتوقعة للتدخل بعمل الطبيعة.

صعوبات وتحديات

على الرغم من أن بعض عمليات تلقيح السحب التي تمت في الغرب الأميركي تتم على يد طيارين جسورين من أمثال بيل كرونيل، فإن معظمها يتم على الأرض من خلال آلات صغيرة ومتحركة تعمل عن بعد، إحداها متمركزة فوق قمة Ward Peak التي يصل ارتفاعها إلى 2621 متراً تقريباً، وهي أعلى نقطة في منتجع التزلج على الجليد الذي يعرف باسم مروج الألب وسط جبال سيرا نيفادا في شمالي كاليفورنيا.

عصر يوم مشمس في حزيران من عام 2023، استقليت التيليفريك في منتجع مروج الألب، إذ حتى خلال بدايات الصيف، تبقى المنحدرات مغطاة بطبقة من الثلج الأبيض، بعد شتاء شهد هطولات ثلجية كثيرة على غير العادة. تزلجت لمسافة بضعة أمتار نحو أسفل الجبل، ثم تعثرت بحذائي فوق أرضية صخرية قرب صندوق معدني أخضر كبير بحجم غرفة، وهناك التقيت بفرانك ماكدونو وهو كبير الباحثين في مجال السحب لدى جامعة معهد أبحاث صحراء نيفادا بأميركا.

وأوضح لي ماكدونو، وهو صاحب جسد مكتنز وله شاربان ينمان عن أناقته الكبيرة بأن ما رأيته سببه 30 آلة يقوم المعهد بتشغيلها في مختلف أنحاء جبال سيرا نيفادا بكاليفورنيا وكذلك في سلسلة الجبال القريبة من نيفادا، والغرض منها زيادة الهطولات الثلجية في حوض نهر تراكي الذي يبعد مسافة 32 كيلومتراً عنها. أي أن الأمر لا يتعلق بإضافة مزيد من طبقات الجليد المخصصة للتزلج، وذلك لأن نصف مليون نسمة يقيمون في مدينة رينو بولاية نيفادا وحولها، وهؤلاء يعتمدون في شربهم على مياه النهر، والتغير المناخي يهدد طبقات الثلج التي تغذي النهر.

ويخبرنا ماكدونو بأن خزان المولد الذي يتسع لـ210 ليتراً يحتوي على ما يكفي من مادة يوديد الفضة التي تعمل على استجرار أكثر من 6.2 متراً مكعباً من مياه السحب، أي ما يكفي لإمداد عشرة آلاف بيت تقريباً بالمياه لمدة عام واحد، ويعلق على ذلك وهو يشير إلى السحب التي تنذر بهطول الثلوج والتي أضحت فوق رؤوسنا، فيقول: "إن هذه مترعة بالماء تماماً".

ولكن علينا ألا نصدق تقديرات ماكدونو كلها، إذ على الرغم من أن العلماء تمكنوا من إظهار قدرة يوديد الفضة على تحفيز هطول الثلج في ظل ظروف معينة، ماتزال عملية قياس آثار تلقيح السحب صعبة للغاية، ولهذا تقول سارة تسيندروف وهي عالمة متخصصة بالمشاريع لدى المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي في كولورادو: "عندما تلقح غيمة فإنك لن تعرف ما الذي كان سيحدث إن لم تلقحها".

إن عدم القدرة على توقع أنماط الطقس المحلية، وخاصة في المناطق الجبلية، يقف حائلاً في وجه قدرة الباحثين على ابتكار تجارب تخضع للسيطرة والتحكم بحسب رأي تسيندروف، كما أن عملية جميع بيانات ذات جودة عالية قد تستغرق عقوداً، ولهذا تقول تسيندروف: "قد تتمكن من تلقيح 30 عاصفة بالسنة" إلا أن الباحثين عليهم أن يحللوا آلاف العواصف لمعرفة آثارها.

خلال العقد الماضي، تطورت النماذج التي تعمل بواسطة حواسيب عملاقة بشكل كبير ما ساعد العلماء على إجراء عمليات تحفيزية تشبه التجارب الخاضعة للسيطرة والتحكم، ولكن لا يمكن حتى لأفضل النماذج أن تتوقع سوى متوسط التحركات الذي تبديها أي غيمة وذلك بحسب ما ذكره فرنيش، وقال: "قد يكون السلوك الغريب الذي يحدث بنسبة 1% أو 0.01% من الوقت هو الذي يؤدي لوقوع تلك النتيجة على أرض الواقع".

على الرغم من أننا قد خرجنا من الموسم الرسمي المناسب لتلقيح السحب في قمة Ward Peak، رغب ماكدونو بأن يريني كيفية عمل المولد، إذ يمكن التحكم ببعض الآلات بواسطة تطبيق على الأجهزة الخلوية الذكية، بيد أن هذه الآلة تحتاج لاتصال هاتفي بمقر معهد أبحاث صحراء نيفادا في منطقة رينو، حيث يقوم فني بتشغيل المولد عن بعد.

اشتعلت النيران في مدخنة صغيرة موجودة فوق المولد، وصدر منها صوت هسيس ضعيف، بدا كصوت هسيس آت من مشواة أقيمت في الباحة الخلفية لأحد البيوت في مساء صيفي. وبمجرد أن وصل المرجل إلى الحرارة التي تسبق درجة الحرارة المحددة، بدأت فوهة برش نفثات صغيرة من محلول يوديد الفضة المعلق داخل أسيتون نحو اللهب، فلم ينتج عن هذا التفاعل أي دخان أو رائحة حريق، بل مجرد ذرات غير مرئية من يوديد الفضة التي اتجهت نحو السحاب.

تغيرات وتبدلات

أخذنا أنا وماكدونو ننظر نحو الشمال، باتجاه حوض بحيرة دونر، التي مات فيها 42 رائداً في هذا المضمار في شتاء عام 1846، ولذلك تكهن ماكدونو بأن أولى البدايات العفوية لعملية تلقيح السحب هي من حدد مصير حزب دونر، إذ خلال موجة البرد، داهمت سحب محملة بالمطر تشكلت بفعل دخان المداخن المدن والقرى القريبة. ويرى ماكدونو بأن هذا الدخان كان أحد العوامل الأساسية في تشكل عواصف ثلجية هائلة وهطول كميات غير مسبوقة من الأمطار على الجبال.

وفي شتاء عام 2022، تبين بأن كمية الماء الموجودة في الثلج كانت أعلى من متوسط نسبتها عادة، ولذلك جرى منع عملية تلقيح السحب. وعلى الرغم من المحاذير، عاشت كاليفورنيا سلسلة من العواصف الثلجية والعواصف النهرية في ربيع عام 2023، ما تسبب بحدوث فيضان هائل في مناطق الوادي الأوسط. لذا فإن هذا العام وأمثاله من السنين التي شهدت هطولات مطرية شديدة من دون تلقيح، يصعّب علينا عملية تقرير أهمية هذه التقنية وهل تستحق كل هذا العناء أم لا.
يرى آرت رانغنو وهو عالم متقاعد متخصص بعلوم الغلاف الجوي سبق وأن عمل لدى جامعة واشنطن بأن الآثار الإيجابية لعملية تلقيح السحب تعتبر لا شيء يذكر عند تبرير سبب إنفاق كل تلك الأموال على هذه التقنية. إذ إلى جانب زميله بيتر هوبس، حلل رانغنو العديد من الدراسات التي خلصت إلى أن عملية تلقيح السحب عملية مفيدة. وعندما بحث هذان الرجلان في البيانات، أصيبا بخيبة أمل كبيرة، ولهذا يقول رانغنو عن العملية بإنها لم تكن تلك العملية التي تحدث عنها من أجروا تجارب عليها، ثم تحدث عن سلسلة من التجارب التي أجريت في إسرائيل ما بين عامي 2013-2020، والتي أظهرت بأن الجمع بين عملية التلقيح من الأرض والجو (عبر الاستعانة بالطائرات) قد زادت من متوسط الهطولات المطرية بنسبة 1.8% فقط. وهذه النتائج الضعيفة دفعت هيئة المياه بإسرائيل للتخلي عن برنامج تلقيح السحب الذي تبنته.

ويكرر رانغنو مخاوف تسيندورف بشأن صعوبة قياس فعالية عملية تلقيح السحب، لاسيما عند اعتمادها على أحهزة يجري تشغيلها على الأرض، ويقول: "لا يمكنك التحكم بنسب مادة التلقيح التي ستدخل إلى السحب التي تستهدفها، ولا يمكنك أن تعرف إن كانت السحب تشتمل على جليد طبيعي يمكن أن يحبط عمل عامل التلقيح، ولا يمكنك أن تعرف في حال وصول عامل التلقيح إلى السحب في الوقت المناسب بحيث يحرض السحابة على إنزال المطر فوق المنطقة التي تريدها".

لكن هذا الرجل يرى بأنه على الرغم من العيوب والنقائص التي تكتنف الأدلة، ماتزال عملية تلقيح السحب تقوم على مكسب مشترك بالنسبة للمتعهدين من القطاع الخاص والحكومات التي تمول تلك العمليات، وذلك لأن هذه العمليات تقوم بعمل شيء تجاه مشكلة الجفاف والقحط على حد تعبيره.

تطبيقات وأجهزة جديدة

وسواء أكانت عملية تلقيح السحب مجدية أم لا، ماتزال هذه التقنية الجديدة قيد التطور وذلك سعياً للتوصل إلى طرق أشد كفاءة في إيصال يوديد الفضة إلى السماء. ولهذا فإن فني الأبحاث جيسي جوشتزر الذي يعمل لدى معهد أبحاث صحراء نيفادا يعتبر من طلائع الباحثين في هذا المجال، أما مكان عمله فهو عبارة عن مستودع سابق تابع لمطار رينو، وهو أشبه بورشة لإصلاح السيارات، بما أنه مليء برافعات السيارات وأدوات اللحام وضواغط الهواء ومكابس الحفر. وعلى أرضيته تتبعثر إطارات كثيرة لأنابيب مربعة الشكل مصنوعة من الفولاذ، ويشرح لنا بأن هذه الأنابيب تمثل هيكل النموذج الأصلي الجديد لجهاز أصغر وأخف وأسرع حركة يعمل على تلقيح السحب، وتقوم الخطة على وضع تلك الأجهزة في مناطق نائية ووعرة لم يسبق أن نشرت فيها مولدات كبيرة.

ويفكر جوشتزر وزملاؤه في توسيع العمل خارج مجال تعزيز عمليات هطول الثلج وصولاً إلى تلقيح العواصف المطرية خلال الصيف، بما أن هذه العواصف أمر شائع في المناطق الوسطى بالغرب الأميركي، لكن يندر حدوثها في الولايات الغربية التي من غير المتوقع لها أن تشهد هذا النوع من العواصف وفي حال حدوثها فإنها تمتد لفترة أقصر وتكون أعنف بكثير. وبما أن هذه العواصف يمكن أن تهدد حياة الطيارين، لذا يستغل معهد أبحاث صحراء نيفادا استخدام المسيرات لتوصيل أعمدة دقيقة من الغبار الذري إلى السحب الرعدية، وقد دعاني جوشتزر لمعاينة طائرات لها أربع مراوح مزودة بأجهزة تنفث يوديد الفضة وضعت على الحواف الطويلة للطائرة.

وفي مناطق أخرى تشتمل أحدث التجارب وأكثرها تطوراً على الاستعانة بتقانة المسيرات النظيفة، إذ بدلاً من الاستعانة بالمواد الكيماوية، تقوم إحدى الطرق على إرسال صعقات كهربائية إلى إحدى الغيوم، لتشكل ما يشبه البرق، والهدف من ذلك تشكيل شحنة كهربائية تصل إلى جزيئات الماء الموجودة في الغيمة، مما يجعلها تتراص مع بعضها وتشكل قطرات كبيرة بما فيه الكفاية حتى تهطل من السماء.

لا قوانين ناظمة للعملية

على الرغم من تزايد الابتكار في هذا المجال، بقيت عملية تلقيح السحب بلا ضوابط ولا قواعد، إذ في عام 1976 أجاز الكونغرس القانون الوطني لسياسة قوننة الطقس والذي يعمل على الخروج بسياسة وطنية شاملة قائمة على التنسيق بهدف قوننة أمور الطقس" بيد أن هذه السياسة لم ترسم على الإطلاق، كما أن القواعد تختلف من ولاية لولاية بشكل كبير. ففي كاليفورنيا مثلاً، لا يمكن تنفيذ هذه العملية عند وجود تجمعات شعبية كبيرة أو خلال عطلة نهاية الأسبوع. وفي حال عدم تبني الولايات المجاورة لسياسات مماثلة، فإن هذه القيود ستبقى غير مجدية.

يعتبر منتقدو هذه العملية بأن عدم وجود سياسة وطنية ناظمة يعد سبباً للقلق منها، ولذلك تصف كاثرين سورينسن وهي باحثة بجامعة ولاية أريزونا عملية تلقيح السحب بالمشاحنة على الماء وذلك نظراً لأنها قد تسرق الرطوبة الجوية من منطقة أخرى، فبما أن أمور المناخ معقدة، لذا فإن الاضطرابات الصغيرة التي تحدث في مكان ما يمكن أن تؤدي إلى وقوع عواقب كارثية في منطقة أخرى.

وتعليقاً على ذلك تقول سورينسن: "عندما يصبح بمقدروي أن أقول يا إلهي! عندئذ بوسعك أن تأخذ بعض الرطوبة من حوض نهر المسيسيبي من دون أن يكترث أحد لذلك كثيراً، ولكن عند ذلك الحين ستعاني نيو أورليانز من مشكلات خطيرة في عام 2023 بسبب الجفاف والمياه المالحة التي ستلقى في النهر". ولكن ما من دليل يشير إلى أن الجفاف يحدث بسبب عملية تلقيح السحب، لكن سورينسن تعرب عن قلقها بشأن عدم معرفتنا عن آثار تلك العملية بما فيه الكفاية، إذ تقول: "لست متأكدة من وجود هذا المكان السحري الذي بوسعك أن تسرق الرطوبة منه، من دون أن يكترث أحد بذلك".

في عام 2018، زعمت الحكومة الإيرانية بأن إسرائيل والإمارات استغلتا عملية تعديل الطقس لتسرقا الهطولات المطرية من إيران التي تبنت برنامجاً خاصاً بها لتنفيذ عمليات تلقيح السحب، كما اتهمت إيران تركيا بالشيء نفسه في العام الماضي، بعد انتشار صور على الإنترنت تظهر فيها الجبال التركية مغطاة بالثلج في حين ظهرت القمم الإيرانية المجاورة لها بلا ثلوج.

على الرغم من أن أنصار عملية تلقيح السحب يؤكدون بأن هذه العملية لا تقلل من كمية بخار الماء في الجو، يعتقد بعض الناس بأن مجرد الاعتقاد بأن هذه التقنية تسبب انخفاضاً في بخار الماء يمكن أن يصبح سبباً كافياً لظهور مشكلات قانونية. ففي عام 2011، تقدم المهندس الصناعي مايكل ج. براون بسيناريو مفترض تتزامن فيه عملية تلقيح السحب في كاليفورنيا مع انخفاض معدل الهطولات المطرية في الولايات المجاورة، وقال: "إن أدركت الولايات التي تقع في أقصى شرق كاليفورنيا بأنها تحصل على كمية أقل من المياه القادمة من نهر كولورادو مقارنة بما يحدث لها بشكل طبيعي، عندئذ يمكن لتلك الولايات أن تطالب بتعديل في قاعدة توزيع حصص مياه نهر كولورادو، بما أن هذه القاعدة تقرر طريقة تقسيم المياه بين سبع ولايات غربية، وهذا ما يضر بالمستخدمين الحاليين للمياه في ولاية كاليفورنيا".

محاربة الاحتباس الحراري عبر تعديل الطقس

يرى منتقدو هذه العملية وأنصارها على حد سواء بأن توسيع برامج تلقيح السحب قد يفتح الباب على مصراعيه أمام مخططات أكثر غموضاً وسرية للهندسة الجيولوجية، مثل رش ذرات الكبريتات في الجو بهدف تبريد الكوكب. فلقد أظهرت أحدث الدراسات بأن الشعوب باتت أكثر تقبلاً لعمليات تعديل الطقس والهندسة الجيولوجية وذلك بحدف محاربة الاحتباس الحراري. ولكن على الرغم من الجاذبية الكبيرة لتلك العمليات، يجب على صناع القرار أن يحذروا من غطرسة العلم وصلفه، إذ يقول فليمينغ: "أصبح العلماء مرتبطين بآليات لها هدف وحيد، كأن نجعل الطقس أبرد مثلاً، ولهذا ينبغي علينا استبعاد مزيد من المواد الكيماوية، وهنا نحس بأن العلم أصبح أشبه بجوبتير أو زيوس، إذ وصلت للعلماء الفكرة القائلة بإنهم بات بوسعهم صناعة المطر حسب الطلب، كما بوسعهم التحكم بالطقس، ولكن ذلك مايزال خارج حدود إمكانياتهم بكل تأكيد".

يرى هذا الباحث بأن الحل لا يكمن في محاولة زيادة حالات هطول والمطر فحسب، بل في الحفاظ على البيئة بشكل صارم، وهو يقصد بذلك إسرائيل التي وجهت تركيزها نحو الطلب بعد تخليها عن برنامج تلقيح السحب، وذلك إثر تطويرها لتقنيات ري في مجال الزراعة تحتاج لكميات أقل من المياه، وأضاف: "لقد اكتشفوا بأن نهج القوة الغاشمة في المجال الجوي لا يجدي على الإطلاق".

وفي هذه الأثناء، يواصل أنصار عمليات تلقيح السحب جهودهم لاستدرار مزيد من المياه من السماء، وبالعودة إلى قمة Ward Peak، فقد أشار فرانك ماكودونو إلى صندوق أخضر يطلق نفحات سريعة من يوديد الفضة في الهواء، وعن ذلك علق وهو ينظر إلى سلسلة الجبال المغطاة بالثلوج التي تمتد أمامه في الأفق: "هنالك كمية من الرطوبة موجودة في هذه السحب أكبر مما نحتاج إليه بكثير، وذلك لأننا لا نستعمل سوى كمية زائدة بنسبة ضئيلة من المياه".

 

المصدر: The Economist