أنا خريفي المولد ولا أدري إن كان هذا من سوء حظي أم من حسنه، ولدت أول الثمانينيات، في أيلول كان يشن فيه حافظ الأسد أولى حروبه المباشرة على السوريين بحجة ملاحقة الإخوان المسلمين، كبرت في تلك البلاد، سوريا كانت تذبل وأنا أنمو، يوم شببت تركتها مهاجرا بعد أن منحت فرصي بالحياة والعمل لمن يجيد الهتاف وكتابة التقارير وترديد الشعارات.
في مغتربي الأول كنت أمارس عملي سنوات، ملتصقا بسوريا وبعيدا عنها، في العام 2011 يوم أطلق الشباب في دمشق ذاك الهتاف العظيم "الشعب السوري ما بينذل" وكان الهتاف لا يشبه الهتافات التي لا أجيدها، تحولت لأكون معهم ما استطعت، عوقب أهلي اعتقل بعضهم وطرد بعضهم من وظائفهم، كان أهلي من أول المعاقَبين لأنهم كذلك.. مرّت الأيام ثورة تشتعل تكبر وتتسع.
في أيلول آخَر قريب ولدت ابنتي، كانت خريفيَّة المولد أيضا ولا أدري إن كان هذا من سوء حظها أم حسنه، كانت بلا اسم معدّ سلفا، وهذا غريب في السنوات الأخيرة إذ أصبح الناس يعرفون جنس مواليدهم مبكرا ويبحثون عن أسماء لهم ويقررونها مسبقا، أما نحن فلم نحسم أمرنا مسبقا، فأنا كنت أريد أن استعير اسم سوريا لابنتي ولم يوافق أحد ممن يسمع بنيتي، يقول أنت تحمّلها عبئا لا اسما.
بقيتْ بلا اسم، لا لأنني لم أحسم قراري، بل لأنني كنت بلا جواز سفر ساري المفعول، تلك الوثيقة الشخصية الأهم للمغتربين، الوثيقة التي حارب بها نظام الأسد كل من يعارضونه خارج البلاد، قبل أن يتحول إلى ابتزازهم، ثم لاعتماد إصدار الجواز كوسيلة للدخل بالعملة الصعبة، لم أستطع أن أسمّيها.. ويوم خرجتْ من المشفى حملت وثيقة بديلة لشهادة الميلاد الرسمية، ورقة مروّسة بـعنوان "إثبات واقعة" لتثبت شرعية ولادتها، خانات الوثيقة ظلت فارغة، أما خانة الاسم فسجلت "بنت أمها".
لاحقا سيقرر النظام بشكل مفاجئ، السماح للسوريين الموجودين في الخارج بتمديد جوازاتهم أو الحصول على جوازات جديدة، وفق مرسوم بشار الأسد رقم 17 نيسان 2015، مقابل مبلغ من الدولارات، ليس قليلا.
في ذاك الربيع منحت ابنتي شهادة ميلاد لكنها لم تحمل اسم سوريا، كانت الأشهُر الثمانية التي مرّت عليها من دون اسم كفيلة بتغيير رأيي وبقناعتي بأنني أحمّلها عبئا، فمن يحمل اسم سوريا العظيم في هذا الزمن، زمن النزيف والألم المكثف والأمل المحفوف بالموت سيكون محملا بالمسؤولية الثقيلة، خفت عليها وقد نجت مصادفة من تلك البلاد، خفت أن أُحملها وأحمل معها هذا الشرف الثقيل.
في خريف لاحق 2017 أسمع اسم سوريا يناديني مجددا وأنا أغيّر مغتربي وعلى أعتاب انتقالي لوظيفتي في محطة تلفزيونية "جديدة" ستنطلق قريبا، تتوجه لكل السوريين، تعلي قيم ثورتهم، تنبذ التسلط والديكتاتورية والتطرف، تؤمن بالعمل على إظهار الشخصية السورية الخلاقة، وتحمل اسم سوريا..
قلت هذا عبء ومسؤولية، تذكرت ابنتي وقد كبرت ثلاثة خُرُف، واكتفت بحمل اسم عاصمة الدنيا دمشق الشام، إذ لم أجرؤ يومئذ على اسم سوريا، وقد كبر الجرح وامتد وضاقت السبل بأهلها، فما كان للتردد مكان وعقدت العزم على المضي في العمل... أول ربيع تالي آذار 2018، أزهر المشروع محطة تلفزيونية متكاملة اسمها سوريا من دون زوائد أو نواقص، حمل الاسم وتعاقب على الحمل مئات من الخلص الذين كبروا معه اليوم أربعة أَرْبعة.
من ساعات بث محدودة وبرامج تعدّ على أصابع اليد إلى 13 ساعة بث ودورات برامجية كاملة منوعة تلبي معظم ما يطلبه السوري والمتابعون لشأنه، تسعى دائما للأفضل فالاسم وحدَه أمانة عظيمة والشعب السوري الذي ما زال يضحي، يستحق الأفضل. ومن الانطلاق إلى النجاح تسير المؤسسة السورية بخطى ثابتة للسنة الخامسة، أصبحت أكبر وأنضج ونمت أذرعها الرقمية.
فرق من الصحفيين والمراسلين والفنيين والإداريين يحاولون جاهدين العمل وفق أرقى درجات المهنية، والالتزام بالموضوعية وبمواثيق الشرف الإعلامي، يواكبون التطورات والتغيرات ويتابعون كل تفصيل وحدث، ليكونوا من خلال محطتهم منبر السوريين، المنبر الذي يعبّر عن آلامهم وآمالهم، يسمع صوتهم ويُسمعه وينقل أخبارهم للعالم وينقل أخبار العالم لهم، يرافقهم في قضاياهم ونقاشاتهم ونضالاتهم وأفراحهم وأتراحهم مؤمنا بإمكانات التغيير الإيجابي رغم الخراب، وبضرورة بناء سوريا المدنية الحرة.
لطالما كان الناس الذين ينتمون إلى الكيانات الكبيرة بإيمان، ينتمون إلى زمانها وظروفها ويعتقدون ما تعتقد ويسعون لتحقيق أهدافها، وهكذا نحاول أن نفعل في تلفزيون سوريا بأن يكون الانتماء إلى الكيان الأكبر سوريا، وأن تكون الأهداف أهداف السوريين والواقفين بصفهم، الذين يمثلون جميعا اليوم كلمة سرّ النضال لأجل التحرر من الاستبداد رغم كل الأثمان والتضحيات.. فإن أصبنا فمنهم وإن أخطأنا فمن تقصيرنا.