أولا: أثر اللغة العربية في اللغة الإسبانية. يرى بعض الباحثين أن اللغة الإسبانية دخل إليها من المفردات العربية ما يقدر بثلاثين في المئة. وبحسب العالم اللغوي رفائيل لابيسا (Rafael Lapesa) في كتابه "تاريخ اللغة الإسبانية"، فإن "العامل العربي في تكوينها كبير الأهمية ويأتي مباشرة بعد العامل اللاتيني".
ونحن نرى فيها اليوم عدداً كبيراً من المفردات التي تبتدئ بأل التعريف، وهذا ما يرشدنا في أحيان كثيرة إلى أصلها العربي. غير أن قليلاً منها بقي على حاله الأصلي كتابة ولفظاً، مع أنه حافظ على معناه الأصيل لما أصاب تلك المفردات العربية الأصل سواء منها المبتدئة بأل التعريف أو غيرها، من تحريف لدى دخولها على اللغة الإسبانية. والسبب في ذلك التحريف منطقيّ وواضح، لما يوجد من فوارق شاسعة بين حروف العربية وحروف اللاتينية، وبين جرْس الأولى وجرْس الثانية وأسلوب لفظها، وبين ذوق الأذن الإسبانية وذوق الأذن العربية. ولذا كان لا بد للإسبان من سكب المفردات العربية وأسماء الأعلام وأسماء المواقع الجغرافية والمدن التي أطلق عليها العرب أسماء عربية في قالب سماعي يتناسب مع ذوقهم من جهة، ومع إمكانات لغتهم الأصلية وأحرف هجائهم من جهة ثانية.
أما المستعربة تريسا غارولو ((Teresa Garulo أستاذة اللغة العربية بجامعة مدريد والتي أعدت أطروحة الدكتوراه عن الكلمات ذات الأصول العربية في منطقة أندلوثيا (الأندلس)، فترى: أن اللغة الإسبانية تعتبر أكثر اللغات الأوربية تأثراً باللغة العربية.
إنه من غير شك أصبحت الكلمات العربية الأصل مستقرة وموجودة في اللغة الإسبانية حتى الآن، والتي أدرجها المعجم الرسمي للأكاديمية الملكية الإسبانية للغة، وتجري على ألسنة الإسبانيين، بل حتى العالم الناطق بهذه اللغة كأمريكا اللاتينية، وإن كان المستعرب الإسباني الكبير إميليو غارثيا غوميث يقلل من حجم هذا التأثير، إذ يرى أن نسبة تأثير اللغة العربية في الإسبانية هي اثنان في المئة وليس ثلاثين في المئة كما يدعي البعض، لأن الأداة العربية التي استمرت في الإسبانية بقوة هي "حتى" (hasta) نعم هناك كلمات يوجد لها مقابل أصلي في الإسبانية، ولكننا نستعمل التسمية العربية مثل: "زيت الزيتون" و"شجرة الزيتون"، في حين أنهم في أمريكا اللاتينية يستعملون olivo، إلخ... والشيء نفسه يقال بصدد كلمة "القصر" التي يعتقد أنها عربية بينما هي في الواقع لاتينية (Castrun) انتقلت إلى العربية ومنها إلى الإسبانية. وهذا المثال يؤكد ما أقوله دائماً بأن الحضارات فيها أشياء كثيرة مشتركة.
ثانيا: أدباء من أميركا اللاّتينيّة دخلت الثقافة العربية في تكوينهم الثقافي وأسلوبهم الأدبي وموضوعاتهم.
يُجْمِعُ كثيرٌ من أدباء أميركا اللاتينية على حقيقة تأثّرهم بالثقافة العربية، كلّ أديبٍ حسب تجربته وموقعه.
في المحاضرة التي ألقاها الكاتب المكسيكي ألبرتو روي سانشز ضمن سلسلة المحاضرات التي أقامتها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، أبرزتْ أهمية الثقافة العربية ومدى تأثيرها العميق في ثقافات العالم المختلفة. وقد ارتبطت الثقافة العربية - كما يرى الكاتب روي سانشز- لأكثر من خمسة قرون بالثقافة المكسيكية، ورغم أن إدراك هذا التأثير قد يبدو صعباً في البداية إلا أنه يتضح في أصول الثقافة المكسيكية التي هي عربية بقدَر ما هي إسبانية أو هندية، فيمكن تلمس هذا التأثير بوضوح في اللغة والفنون التطبيقية، وعدد من النواحي التي تجعل ثقافة المكسيك مختلفة عن جيرانها الشّماليين.
وأكد سانشز أن الثقافة المكسيكية تأثرت بدرجة خمسة وسبعين في المائة بالثقافة العربية موضحاً أن الكثير من الإسبان والعرب الذين هاجروا إلى المكسيك منذ خمسمائة عام نقلوا معهم ثقافتهم الأندلسية وأن المهاجرين العرب الذين وصلوا إلى المكسيك في العصر الحديث تفاعلوا مع الثقافة المكسيكية خاصة المهاجرين السوريين واللبنانيين الذين برز الكثير منهم في الثقافة المكسيكية.
الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، يكاد لا يخلو أي حوار معه أو كتاب من كتبه من إشارة إلى ألف ليلة وليلة، فمثله مثل غوته وفولتير مثلت ألف ليلة وليلة اكتشافا جوهريا ومنهلا لا ينضب
وأشار إلى أن المؤثرات التي تَبرز في الأدب المكسيكي شعراً ورواية ومسرحاً تستمد جذورها من الأدب العربي والعادات والتقاليد والكثير من الملامح التي انتقلت مع الأجيال إلى المكسيك وتوطدت فيها عبر قرون. تحدث سانشيز عن نجاحات المواطنين المكسيكيين من أصل عربي في المجالات الاقتصادية والتجارية مشيراً إلى أن بعضهم من أهم الاقتصاديين المكسيكيين على الإطلاق ولهم تأثير كبير في المجتمع المكسيكي. خلص سانشيز إلى القول إن المؤثرات العربية في الحياة المكسيكية طبعتْها بطابع خاص وجعلتها تتميز عن المجتمعات المجاورة التي لم تتأثر كثيراً بالثقافة العربية مشيراً إلى أن هذه التأثيرات تزداد يوماً إثر يوم مع اكتشاف المكسيكيين لجذورهم وتمسكهم بتراثهم وحنينهم إلى ما تركه لهم الأجداد من عادات وتقاليد لتنعكس على الثقافة المكسيكية عامة والأدب خاصة وذلك يجعلها تقيم بنياناً راسخ الأركان يشكل هذا التثاقف الخاص بنكهتيه العربية واللاتينية.
روائيون من أمريكا اللاتينية تأثّروا بالثقافة العربية
ويمكن القول إن البحث في العلاقة بين الثقافتين العربية والأمريكية اللاتينية موضوع لأكثر من نظرية في الأدب والثقافة، من نظرية الأدب المقارن إلى نظرية التناصّ إلى نظرية حوار الحضارات. ولا يمكن هنا أن نتناول كل هذه النظريات لأن كلا منها يحتاج إلى مساحة واسعة. ولكن من خلال قليل من الأمثلة نتمكّنُ من الإحاطة بشكل بانوراميّ بالموضوع. وسوف نستعرض في سبيل ذلك مواقف أديبين بارزين في أمريكا اللاتينية حول الدور الذي لعبه الأدب العربي في تكوينهما أو في موضوعاتهما أو في تقنيات كتابتهم ولاسيما في مجال الرواية.
-
جورج أمادو
وهو الروائي البرازيلي الشهير، لهُ تصريح ذو دلالة عميقة، عبّر فيه عن وجهة نظره تجاه الرابطة الثقافية بين الثقافة العربية والثقافة في البرازيل، يقول:
(إن الدم العربي لعب دوراً من أكبر الأدوار شأناً في ديمقراطيتنا العرقية، في مساهمتنا في الثقافة العالمية، وفي نزوعنا الانساني. لقد اندمج السوريون واللبنانيون والعرب من البقاع الأخرى أيضاً مع البرتغالي والزنجيّ ومع السلافي والإسباني في هذا الخليط العجيب الذي أنجب الإنسان البرازيلي، وفي وسط هؤلاء كان العربي – واللهِ – برازيلياً صميماً منذ اليوم الأول. إنه ها هنا في الحكم، وفي البرلمان وفي الفنون وفي الأدب وإنه ها هنا يعمل في الأرض ويؤرّث التجارة ويخلق الصناعة بقدرته على العمل والأحلام. ومع هذه الرابطة العميقة فما الذي يعلمه أحدنا عن الآخر؟ ما الذي نعلمه عن أرومتنا العربية؟ عن ثقافتها، عن فنّها عن أدبها؟ لا شيء تقريباً لا شيء. ما الذي يعلمونه هم عنّا؟ عن ثقافتنا؟ عن أدبنا؟ عمليا لا شيء. إن بين سورية والبرازيل كل هذا الدم الجامع، كل هذه الأخوّة، كل هذه الحياة المعاشة ونحن، مع ذلك كالغرباء.إن الحدود الثقافية للبرازيل هي اليوم حدود أخرى. وإنني لفي حاج ةإلى تبادلٍ حقيقيّ واقعيّ هلى تلك الثقافات التي تمازجتْ لتخلق ثقافتنا ومن بينها الثقافة العظيمة للشعب العربي). [كتاب دراسات في اللغة والأدب والحضارة القسم الأول – د. محمود الربداوي – منشورات مؤسسة الرسالة – بيروت 1980 ص 168]
إن بعضا من روايات أمادو تتضمن شخصيات عربية، مثل نسيب العربي الشخصية المحورية في رواية (غابرييلا). وهو يتكلم عن جذور نسيب السورية، وأقاربه من آل اشقر، وأحدهم اسمه عبد الله. وحين يناديه بعض أصدقائه بالتركي، يرفض ذلك غاضباً ويصر على أنه سوري ويقول: ابن سوريين بفضل الله. ويعتبر أن مناداة السوري بوصف التركي هي إهانة كبيرة.
-
ماريو بارغاس يوسا
أبدى الروائي ماريو بارغاس يوسا احترامه الأدب العربي، وأصدر طبعة خاصة منقحة ومحرّرة من (ألف ليلة وليلة) صاغ فيها رؤيته الخاصة، ووضع لها تمهيداً من تأليفه، بعد أن قام بتقديمها على المسرح من خلال سبعة عروض في إسبانيا بمساعدة الممثلة أيتانا سانشيز خيخون. وأوضح أن هدفه الأول من هذا العمل هو تكريم (ألف ليلة وليلة)، بوصفها جنساً أدبياً عريقاً كان له فضل الريادة في ابتكار القصص وسردها من أجل تحقيق السعادة للبشرية، مشيراً إلى أنها الرسالة الحقيقية للأدب التي تكمن في المقاومة الدائمة للحزن والتعاسة والإحباط. ويرى يوسا أن أهم ما تحمله رواية (ألف ليلة وليلة) من معان يكمن في "التوظيف الإنساني الأكثر تحضّراً ومدنيةً للخيال"، فضلاً عن أن قوتها وجاذبيتها جعلتاها تترجم إلى معظم لغات العالم، وتظلّ حيةً وباقيةً عبر العصور، "وهو ما لم يتوافر لأيّ عمل أدبي آخر في التاريخ حتى شكسبير". ويؤكد يوسا أنه في رؤيته حرص على احترام البنية الأساسية للرواية وبعض حكاياتها، التي أصرّ على التعامل مع أقلّها شهرةً من أجل إعادة تقديمها، آخذاً في الحسبان اختصار بعض العناصر التي قد تثير حساسيةً ما في العصر الحديث.
-
خورخي لويس بورخيس
أما الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، فيكاد لا يخلو أي حوار معه أو كتاب من كتبه من إشارة إلى ألف ليلة وليلة، فمثله مثل غوته وفولتير مثلت ألف ليلة وليلة اكتشافا جوهريا ومنهلا لا ينضب. لقد اكتشف بورخيس كتاب ألف ليلة وليلة في طفولته المبكرة حيث قاده تسكعه الأدبي في مكتبة أبيه إلى العثور على ترجمتها من قبل بيرتن بالإنجليزية.
سوف يقرأ بورخيس كتاب ألف ليلة وليلة بكل الترجمات التي يعثر عليها هنا وهناك، وباللغات التي يتقنها: ترجمتان بالفرنسية حررهما غالان وماردروس؛ وثلاثة بالإنجليزية بقلم بيرتن ولين وباين؛ وثلاثة بالألمانية بقلم هيننغ وليتمان وفييل؛ وواحدة بالإسبانية لكاسينوس أسينس.
بل إنه وصف اكتشافه لكتاب ألف ليلة وليلة في حواراته أو كتبه بما يبين تقديره وانبهاره بهذا الكتاب. إذ يقول في "محاولة في السيرة الذاتية" عن ألف ليلة وليلة بأنه "الممتلئ بما كان يعتبر حينئذ بذاءات كان يُمنعُ علينا قراءته وكان عليَّ أن أقرأه خلسة فوق السطوح"
وفي كتاب "سبع ليال" نص اسمه (ألف ليلة وليلة) يعتبر فيه بورخيس ترجمة ألف ليلة وليلة الأولى إلى اللغة الفرنسية (قام بها غالان وصدر جزؤها الأول في سنة 1704) "حدثا جوهريا لكل الآداب الأوروبية" يقول: "برزت ألف ليلة وليلة بشكل غامض. إنه عملُ آلافِ الكتاب ولم يفكر أي منهم أنه كان يبتكر كتابا شهيرا، واحداً من أشهر الكتب في كل الآداب، وهو كتاب يثير الإعجاب- مثلما قيل لي- في الغرب أكثر مما في الشرق."
في كل حال لا يخفي بورخيس إعجابه بالأدب العربي، وبالطاقة التخييلية التي تكمن في كثير من نصوص التراث العربي القديمة، والتي منها انبثقت ملامح أولية للواقعية السحرية المشهورة في أمريكا اللاتينية. ولم يقتصر الأمر على هذا عنده، بل كتب عن فلاسفة مسلمين مقالات وقصصا، واقتبس آيات قرآنية في كتاباته مثل "مرآة الحبر"، و"المعجزة السرية".
لقد كان كغيره من زملائه اللاتينيين مندهشا بالخيال والغرابة التي تسود كتابات تراثية وصوفية، خاصة وأن هذه الأخيرة تحمل بوضوح عناصر سريالية وفانتازية أثرت كثيرا في نشوء أشكال من الكتابة السردية في العالم.
ومن المعروف تأثير كتابات المتصوفة على كثير من أدباء العالم، خاصة جلال الدين الرومي والعطار في كتابه المدهش (منطق الطير) الذي ذكره بورخيس عدة مرات.
وكمثال أخير على إعجاب وتأثر بورخيس بالثقافة العربية والإسلامية، فقد وضع عنوان أحد كتبه الشهيرة وسمّاه (الألِفْ El Alef). وذلك على منوال رؤية الصوفيين للأحرف العربية.