في عام 2016 وصل لاجئون قدموا من الشرق الأوسط إلى ألمانيا بالآلاف، فقرر إنغو نوبيرت مساعدتهم، وبما أنه متخصص بالعمل الاجتماعي، لذا افتتح برنامجاً تدريبياً في غربي ألمانيا استقبل من خلاله 25 لاجئاً شاباً بهدف تحويلهم إلى ممرضين ومساعدين للأطباء، ولكن لم يتخرج منهم سوى ثلاثة أشخاص ضمن هذا البرنامج الذي يمتد لأربع سنوات ونصف. وفي برنامج آخر أقصر مدة، لم يصل لنهايته إلا ربع المتقدمين، ولذلك تم تعليق البرنامج حالياً بحسب ما أعلنه مشفى جامعة إيسين بغربي ألمانيا، حيث أقيم هذا البرنامج.
تناقض صارخ
تعيش ألمانيا مفارقة واضحة: إذ بعد مرور سنوات على وصول عدد مهول من المهاجرين اعتبره البعض مساوياً لعدد السكان في إحدى المدن الكبرى، وذلك على مدار عدة أعوام، أصبح واحد من بين كل ستة ألمان اليوم مولودا خارج ألمانيا، مقارنة بنسبة شخص واحد من بين كل سبعة أشخاص في الولايات المتحدة.
ولكن بخلاف الوضع في أميركا، فشلت ألمانيا في تأمين فرص عمل للقادمين الجدد على الرغم من نقص العمالة الشديد لديها ما أدى لوقف عجلة النمو الاقتصادي بألمانيا، بعدما بات أكبر اقتصاد في أوروبا بحاجة لعمال حتى يشغلوا سبعة ملايين وظيفة بحلول عام 2023، بما أن العمال الأكبر سناً سيتقاعدون بحسب تقديرات بعض المختصين في مجال الاقتصاد.
المهاجرون هم الحل
أشار الخبراء منذ زمن للمهاجرين بوصفهم الحل لتلك المشكلة، حيث أعلنوا بأن ألمانيا تحتاج إلى نحو 400 ألف مهاجر ماهر كل سنة.
ولكن حتى الآن، لم يتمكن الخليط الحالي من المهاجرين من سد الفراغ، إذ تظهر البيانات الرسمية بأن نسبة الثلث من بين 800 ألف مهاجر سوري وأفغاني في ألمانيا ممن هم في سن العمل تترتب عليهم ضرائب على وظائفهم، مقارنة بثلثي الشعب الألماني، على الرغم من أن معظمهم وصلوا إلى البلاد قبل خمس سنوات فقط. حيث بلغت نسبة البطالة بين صفوف الأجانب 12% تقريباً، وأقل من 5% بين صفوف الألمان. أما في الولايات المتحدة، فإن الغرباء يحصلون على وظائف قبل السكان الأصليين في معظم الأحيان.
إن المشكلة الرئيسية هنا تتمثل بأن أغلب اللاجئين غير مناسبين للوظائف التي يطرحها سوق العمل في ألمانيا والذي يتطلب من العامل أن يتمتع بمهارات عالية، كما لم تنجح ألمانيا في تدريب اللاجئين.
معرض الوظائف والأعمال بدريسدن في ألمانيا
ولتغيير هذا الوضع، تخطط برلين لطرح نظام نقاط للهجرة خلال العام المقبل، على غرار النظامين الأسترالي والكندي، وذلك على أمل استقطاب أجانب يتمتعون بتأهيل أفضل، غير أن الخبراء في ملف الهجرة يشككون بذلك، إذ حتى لو نجح هذا النظام، من المرجح أن تظل ألمانيا تستقبل أعداداً كبيرة من طالبي اللجوء الذين لن تتمكن من توظيفهم، وهكذا سيتوزع هؤلاء ضمن صفوف الأشخاص الذين يتلقون مساعدات اجتماعية أو سيزيدون من نسب الجريمة، بما أن الإحصائيات تشير بالأصل إلى ارتفاع نسبة الجريمة بين صفوفهم بشكل كبير.
وحول ذلك يعلق توماس ليبيغ وهو خبير بملف الهجرة لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في باريس، فيقول: "سيتنافس اللاجئون والمهاجرون الذين تم استقدامهم للعمل على البنية التحتية نفسها".
حالياً، هنالك عامل مهاجر واحد من بين كل عشرة أشخاص يصلون إلى ألمانيا، مقارنة بنسبة عامل واحد من بين كل ثلاثة أشخاص يصلون إلى كندا. فلقد سبق أن استقطب البرنامج الأوروبي الذي سعى لجلب الأجانب المهرة، والذي يعرف باسم البلو كارد أو البطاقة الزرقاء نحو 70 ألف عامل إلى ألمانيا طوال العقد الماضي.
إلا أن أعداد اللاجئين اليوم ارتفعت مجدداً بشكل كبير بعدما راوحت مكانها بشكل مؤقت خلال الجائحة، وذلك بسبب الحرب في أوكرانيا، وتصاعد موجة الهجرة في دول الشرق الأوسط وأفريقيا وأفغانستان. إذ خلال النصف الأول من العام، انتقل أكثر من مليون شخص إلى ألمانيا، في موجة باتت أعلى بكثير من موجة اللاجئين التي وصلت إليها في عام 2015، عندما رحبت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بقدوم اللاجئين السوريين.
في مركز التشغيل (جوب سنتر) بمدينة كاسيل الواقعة وسط ألمانيا، يخبرنا وولف ديتليف زيسلينغ بأنه أمضى عاماً محموماً وهو يعد مئات اللاجئين الأوكرانيين لدخول سوق العمل بألمانيا، ولهذا استعان بـ20 مترجما فوريا أوكرانيا خلال الصيف، ويخبرنا الكادر الذي يعمل لديه بأنهم يقدمون المشورة لأكثر من 60% من الناس يومياً مقارنة بما كانوا يفعلونه في الأوقات العادية.
وبالرغم من ذلك يخبرنا زيسلينغ بأنه لا يتوقع قدوم الكثير من المهاجرين من أجل فرصة عمل في ألمانيا قبل عام 2024 بسبب التأخر في البحث عن دورات لغة واندماج ثم حضورها.
المشاريع في أزمة
وفي هذه الأثناء أعلنت نصف المشاريع التجارية في ألمانيا عن خفض عملياتها أو انتقالها للخارج بسبب نقص العمالة، على الرغم من أن نسبة البطالة في ألمانيا التي بلغت 5.5% تقترب من نسبة التشغيل الكامل للقوى العاملة.
وتعلق على ذلك آنكه دوبيك التي تدير شركة متخصصة بنظم التدفئة والسباكة جنوب غربي برلين، فتقول: "يتلخص الواقع بأنه إما أن نشغل اللاجئين أو لن يكون لدينا أحد"، ولهذا السبب وظفت منذ مدة قريبة عاملاً أفغانياً بعدما أتم 3 سنوات ونصف في مجال التدرب على المهنة في شركتها.
وبرأيها، تحتاج عملية الاندماج "للكثير من القوة والدعم"، فقد احتاج هذا الأفغاني لوثائق وسكن، فيما وقع لاجئ آخر معها عقداً للتدرب على المهنة، لكنه لم يعد يداوم بعد أول يوم.
يذكر أن الشركة المشغلة للخطوط الحديدية الألمانية دويتشه بان وظفت نحو 26 ألف شخص جديد خلال هذا العام، وذلك لسد بعض الفراغ في القوى العاملة بعد وصول كوادرها إلى سن التقاعد. ولدى هذه الشركة 900 مسؤول توظيف وتعمل على توظيف الأشخاص في أكثر من عشر دول، بيد أن حوالي 23% من الموظفين الجدد هم ممن ولدوا خارج ألمانيا، بحسب ما ذكرته كريستين فاغنر نائب الرئيس التنفيذي لقسم استقطاب المواهب في الشركة.
وعلى الرغم من كل هذا، ماتزال نسبة توظيف اللاجئين متواضعة، إذ تتحدث الشركة عن احتمال توظيف 3200 موظف من أوكرانيا خلال هذا العام، إلى جانب توظيفها فعلياً لـ65 شخصاً، وحوالي 3.5% من الموظفين الجدد في الشركة أتوا من المصدرة للاجئين، وعلى رأسها سوريا وأوكرانيا وأفغانستان والعراق وجنوب السودان وفنزويلا وماينمار.
مشكلة المؤهلات
بيد أن المؤهلات تمثل مشكلة رئيسية، لأن ثلث المهاجرين السوريين في ألمانيا تقريباً يحملون شهادة ثانوية أو شهادة معهد تقاني، مقارنة بنسبة 70% من المهاجرين القادمين من بولندا، بحسب ما ذكرته وكالة الإحصاء الألمانية.
وفي الوقت ذاته، يتعرض الباحثون عن عمل لعوائق كبيرة في سوق العمل الصارم الذي يحمي الموظفين، ويفرض على المتقدمين الخضوع لفترات تدريب طويلة، ونادراً ما يعترف بالشهادات الأجنبية، وكثيراً ما يجبر المختصين على بدء التدريب من الصفر. وهنا يقدر هيلغيه شيلي المختص بشؤون الاندماج لدى مركز العمل بكاسيل بأن حوال 5% من عملائه الذين هربوا من دول الشرق الأوسط وأفريقيا منذ عام 2015 تمكنوا من اكتساب مؤهلات حولتهم لعمال مهرة في ألمانيا.
أما المحامي رامي الحامي، 36 عاماً، من دمشق، والذي يعيش في مدينة هال الألمانية الواقعة شرقي البلاد، فما يزال يبحث عن عمل منذ أن وصل إلى ألمانيا قبل سبع سنوات، دون أن يفلح في ذلك، إذ يقول بأنه أرسل حوالي 500 طلب وظيفة، وأمضى سنة ونصف تقريباً وهو يتعلم اللغة ويخضع لدورات في الاندماج وفي تقانة المعلومات، وصار اليوم يتحدث اللغة الألمانية بشكل جيد، إلا أنه لا يستطيع أن يعمل في مجال المحاماة بألمانيا، لأنه لا يحمل إلا إجازة جامعية، وليس شهادة ماجستير. فيما أكمل اثنان من معارفه السوريين فترة الماجستير الممتدة لسنتين والتي تعتبر شرطاً أساسياً للحصول على عمل، ولكنهما على الرغم من ذلك لم يحصلا على تلك الفرصة، ويعلق على ذلك بقوله: "أود أن أندمج في ألمانيا، لكن الأمر غاية في الصعوبة". وعلى الرغم من كل تلك الأمور المحبطة، قدم شقيقاه منذ فترة قريبة إلى ألمانيا ليلتحقا به، وعن ذلك يقول: "الوضع هنا أفضل من سوريا، بما أن الحرب ماتزال قائمة هناك".
بقي الاختصاصي النفسي جوهانز هوبي من هال يساعد ذلك المحامي السوري طوال ثلاثة أشهر ضمن برنامج تطوعي محلي، ويخبرنا بأنه ساعد شخصين من أصل ستة لاجئين في العثور على عمل خلال السنوات الماضية، أحدهما مهندس سوري أمضى ثلاث سنوات من التدريب في جنوبي ألمانيا، لكنه لم يكمل تدريبه بعدما أخبروه بأن لغته الألمانية ليست جيدة بما فيه الكفاية، أما الثاني فقد عثر على عمل لدى وكالة متخصصة بالقوى العاملة تساعد اللاجئين في العثور على عمل.
هنالك مشكلة أخرى وهي انخفاض تدفق العاملين من دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها بولندا، وهؤلاء يتمتعون بمؤهلات أعلى من مؤهلات اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا، بشكل حاد منذ بداية تفشي الجائحة.
وحول ذلك يعلق أودو مارين وهو مدير جمعية تجار وصناعيي برلين، فيقول: "طالما بقي الكثير من الناس يأتون إلى هنا لأسباب إنسانية، فلن يتبقى مجال واسع أمام العمال المهاجرين المؤهلين".
المصدر: Wall Street Journal