يكاد إيقاع المتفائلين بخطوات إعادة الهيكلة الحزبية والأمنية المزعومة لبشار الأسد أن يحتل كل الشاشات والصفحات، إذ بلغ صعود الدم في رؤوس هؤلاء إلى أعلى المستويات، فدبج بعضهم مقالات شرحوا فيها السيناريوهات المستقبلية الكاملة للمسار الذي ستمضي به الأمور، وقال أحد ما في التماعة رغبوية: إن رأس النظام سينقلب على أجهزته الأمنية! ويا لها من رغبة! فهل يعقل أن ثمة من يحتفظ ببعض الأمل في ذاك الكائن!
ولولا أن الزملاء في هذا الموقع (موقع تلفزيون سوريا) قد نشروا تقريراً عن زيف الخطوات التي يعلن عنها النظام، لشعر كاتب هذه السطور بأنه يعيش في عزلة قاتمة سوداء كئيبة، بعيداً عن الآخرين، تمنعه من رؤية الزهور النابتة من تحت الصقيع، وسماع العصافير بزقزقاتها الربيعية المفاجئة في عز الشتاء!
هل كانت مطالب الثائرين في المدن السورية مجرد سطور يمكن أن تنسى في كتاب مطبوع بطريقة ركيكة؟
فعلياً، لا يحتاج أحد هنا للمضي في السياق الساخر الذي يغلف السطرين الأخيرين، إذ إن الخفة التي تحكم ردود الأفعال على الأكاذيب التي تخرج من دمشق هذه الأيام تبدو مأساوية بذاتها، وذلك أنها تعكس تراجعاً مريعاً في منسوب الشروط واجبة التحقق، قبل النظر في إمكانية الالتفات إلى وجه نظام البراميل.
ما الذي يحصل هنا؟ هل كانت مطالب الثائرين في المدن السورية مجرد سطور يمكن أن تنسى في كتاب مطبوع بطريقة ركيكة؟ أم أنها تستقي تعبيراتها من سنوات طويلة مليئة بالمعاناة والقهر ترسخت تفاصيلها بمئات آلاف من المعتقلين والمفقودين والنازحين والمهجرين واللاجئين، وبأعداد لا تحصى من الشهداء، وبأرض محتلة، مقسمة، تمتلك زمامها قوى الأمر الواقع، بوجوه تشبه النظام الذي ثار عليه السوريون!
نتحدث هنا بالإجمال عن خطوط عامة من المأساة التي تعيشها سوريا في الوقت الراهن، ولولا أن تذكير العارفين بما يعرفونه أصلاً قد يبدو مزاودة عليهم، لكان من الواجب تعداد التفاصيل كلها، لا لشيء سوى إيضاح أن الحل في سوريا، ليس بسيطاً لدرجة أن تلبيه خطوات الأسد المزعومة.
من أي زاوية يخرج الضوء الذي لا يراه إلا المتفائلون؟
كنا قد طرحنا سؤالاً سابقاً عمن ينصح الأسد؟ أو من يضغط عليه ليقوم بما هو مطلوب من نظامه كي يتقدم مسار المبادرة العربية؟ بعد أن باتت علاقاته مع أصحابها في الحد الأدنى، خاصة أن الاشتباك الدبلوماسي الحاصل بينه وبين الأردن ليس مجرد انعكاس للخطوة الأردنية في قصف بعض المواقع في الأرض السورية، بل هو فعلياً آخر وقائع ما جرى في المسار حتى الوقت الحالي، وهذه خلاصة سيئة، قد تضغط على النظام، ولكنها ليست كافية لجعله يفك دروعه الحربية عن جسده، كما أن الحليف الإيراني لا يترك مناسبة دون أن يرسل وفودا، مهما كانت رتبتها الحكومية فإنها تستقبل من أعلى المستويات، الأمر الذي يجعل مستوى العلاقة بين الجهتين أعلى بكثير من مجرد التحالف!
يحاول الأسديون ضخ الروح في جهازهم الأيديولوجي وبما يضمن المحافظة على التكوين الأصلي، ولكن عبر تجديد شكل الواجهة مع الإبقاء على المضمون ذاته
تلاحم النظام مع حليفه الإيراني مبني في جزء كبير منه على شق أمني عسكري ميداني، تراكمت فيه خلال السنوات الماضية انزياحات في السيطرة الداخلية، تسببت بها تدخلات الحلفاء خلال فترة الحاجة الماسة لمساعداتهم، وقد باتت الحاجة ماسة بالنسبة للنظام للعودة إلى الصيغة الأولى في السيطرة الهرمية المطلقة، بعد أن تلاشت التهديدات الميدانية الداخلية، وتبعاً لهذه الحاجة فإن الخطوات المتخذة حديثاً على صعيد الأجهزة الأمنية، وبيد رئيس مكتب الأمن القومي الجديد اللواء كفاح ملحم، ليست ثورة داخلية كما تراءى للبعض بل هي عودة إلى أصل سلسلة القيادة المتبعة في عمل النظام منذ عقود. الأمر الذي لا يعكس رغبة في التغيير، بل العكس تماماً، أي العودة إلى الحصن الأساسي الذي يكفل له الاستمرار أي تعزيز الإرادة القمعية المستمرة.
وفي الجانب الآخر لهذه المعادلة التقليدية في بنى الأنظمة الاستبدادية، يحاول الأسديون ضخ الروح في جهازهم الأيديولوجي وبما يضمن المحافظة على التكوين الأصلي، ولكن عبر تجديد شكل الواجهة مع الإبقاء على المضمون ذاته، فيعطي هؤلاء مساحة للحديث عن إعادة هيكلة موازية لحزب البعث.
غير أن السؤال الذي يختصر أي نقاش يحتمل حدوثه إزاء الزعم بأن هناك جديدا يحصل في سوريا يقول: وما الذي تغير في مشهد الخراب هذا؟ كي تشعلوا شموع الفرح؟!