حُرم أصحاب أراض زراعية متاخمة لمجرى نهر العاصي في ريف إدلب من مواسمهم السنوية بشكل كامل، إثر تشققات التربة وارتفاع منسوب مياه النهر المعتاد، من جراء زلزال الخامس من شباط المدمر عام 2023، الذي مضى عليه ما يزيد على عام كامل، إذ لا تزال تلك الأراضي الزراعية خارجة عن الخدمة تماماً، وسط غياب أي مشروع من شأنه استصلاح الأراضي المتضررة، والتي تقدر مساحتها بأكثر من 20 ألف دونم من السلة الغذائية لإدلب.
وخلال جولة أجراها موقع تلفزيون سوريا على مجرى نهر العاصي بدءاً من قرى جسر الشغور غربي إدلب (44 كم) إلى قرى سلقين شمال إدلب (62 كم)، فإن العديد من المزارعين لا يزالون يجدون صعوبات في الوصول إلى أراضيهم الزراعية، ومنهم من يستحيل ويتخوف الاقتراب منها، نتيجة الشقوق التي تسبب بها الزلزال، والتي انحصرت غالبيتها في بلدة "العلانية" والقرى المحيطة بها.
تشققات بعمق 2 - 6 أمتار
ونتج عن زلزال شباط المدمر حدوث تشققات في الأراضي الحدودية مع تركيا، وفق الجيوفيزيائي علي الشاهر والذي يشغل رئيس لجنة الجيولوجيين والجيوفيزيائيين السوريين، الذي أوضح لموقع تلفزيون سوريا أن عمق الشقوق تراوح ما بين 2 متر إلى 6 أمتار، بالإضافة إلى تشكيل حفر عميقة وذات امتداد واسع، إضافة إلى خروج مواد رملية منها بيضاء اللون ومنها سوداء ذات طبيعة بركانية من جوف الأرضي، إلى جانب فيضان نهر العاصي بعد أيام من الزلزال.
يروي المزارع عكرم الصطوف (62 عاماً) وهو أحد المتضررين في بلدة العلاني في ريف منطقة سلقين غربي إدلب الواقعة على الحدود السورية التركية، أنه خسر موسمه من "الملفوف" بشكل كامل والذي قدّره بـ"5 دنمات"، إثر التغيرات البيئية التي طرأت على المنطقة، والتي انحصرت ضمن احتمالين لا ثالث لهما، وفق قوله، وهما: انخفاض مستوى الأرض المتاخمة لمجرى نهر العاصي لما يزيد على متر واحد، أو ارتفاع منسوب نهر العاصي نتيجة انهيارات مجرى النهر التي ساهمت في رفع نسبته الاعتيادية، الأمر الذي أسفر عن غمر الأرض بالمياه منتصف فضل الشتاء، وتشكيل برك ضخمة بداخلها ساهمت في تعفّن البذور.
وأوضح الصطوف في أثناء حديثه مع تلفزيون سوريا أن الأضرار الجديدة التي تكشفت هذا العام تركزت على الأراضي الموزّعة ما بين بلدتي "الجسر المكسور والعلانية" شمالي مدينة سلقين في ريف إدلب الغربي، والممتدة على مسافة 20 كيلومتراً على جانبي مجرى نهر العاصي، مشيراً إلى أن هذه الأراضي تشكّل بداخلها هذا العام بحيرات جديدة وكبيرة الحجم يُقدر حجم كل واحدة بـ70 متراً على طرفي النهر، وذلك نتيجة ارتفاع منسوب المياه وانخفاض مستوى الأرض عن مجرى النهر.
يقول الصطوف إن هذه الأراضي التي غُمرت بالمياه والتي وصفها بـ المستنقعات، باتت غير صالحة للزراعة بتاتاً، وذلك بسبب تجمع الضفادع بداخلها بعد نمو نباتات داخل هذه الأراضي من نوع "السرخسيات" الخضراء التي تتغذى على روح التربة والتي تعتبر غذاءً أساسيات للضفادع كما أنها مُلمة للحشرات.
ولا يختلف الأمر أيضاً عند المزارع "محمد الهاشم" (56 عاماً) من بلدة الجسر المكسور غربي إدلب والتي تبعد عن الحدود التركية (44 كم)، الذي خسر موسمه من الفول بشكل كامل ضمن أرضه الزراعية التي قدّرت مساحتها بـ 3 دونمات على ضفاف نهر العاصي.
يؤكد الهاشم لموقع تلفزيون سوريا أن أرضه اليوم باتت غير صالحة للزراعة كما أنه من الصعب استصلاحها بعد اليوم، وذلك بسبب تحول أرضه مطلع كانون الثاني الماضي إلى مجرى لنهر العاصي، إثر تمركزها على زاوية "جنوبية - غربية" لمجرى النهر.
ويقول: "كان مجرى النهر طبيعياً بداية فصل الربيع، ولذلك قمت مطلع الموسم الشتوي بفلاحة الأرض وغمس بذور الفول ومن ثم رش الأسمدة، والتي راحت نهاية كانون الثاني الماضي أدراج مياه العاصي".
تضرر 22 ألف دونم
يقول المهندس الزراعي موسى البكر لـ تلفزيون سوريا إن الأراضي الزراعية التي تضررت إثر الزلزال تشمل مناطق "التلول والجسر المكسور والمشرفية والعلاني وجكارة ودلبيا والحمزية والحمرة وبتيا" في ريف إدلب الشمالي والغربي، بمساحةٍ تُقدر بـ22 ألف دونم، مشيراً إلى أن الأراضي الأكثر ضرراً تركزت معظمها في قرية العلاني نتيجة غمرها بمياه العاصي، والبعض الآخر تشققها وبلوغ عرض الشقوق في أجزاء منها قرابة 6 أمتار.
وهي هذا السياق، يؤكد المزارع مهند الأسود الذي ينحدر من قرية العلاني أن الأراضي المتضررة تركزت على طول ضفاف نهر العاصي بدءاً من قرية التلول الحدودية مع تركيا حتى قرية الجسر المكسور غربي إدلب، حيث بلغ متوسط عرض الشقوق الموزّعة بين الأراضي 4 أمتار، وأمّا طول الشق الواحد فلا يقل عن 25 متراً.
وأشار المزارع إلى أن بعض الأراضي الزراعية لم تنشق تربتها، ولكنها تحوّلت معظمها إلى حفرٍ على ذات العرض والطول وبعمق يُقدر بـ متر واحد أو ما يزيد على ذلك.
وأوضح أن جُل الأراضي المتشققة كانت مليئة بأشجار "الرمان والجارنيك" التي أصبحت اليوم يابسة تماماً إثر ارتفاع منسوب المياه بعد تشقق التربة وغمر جذورها وبعض ساقها، منوّهاً أن بعض الأشجار سقطت داخل الشقوق التي غمرتها مياه نهر العاصي.
ولفت إلى أن معظم أصحاب هذه الأراضي المتضررة كانوا يعتمدون عليها موسمياً، إذ كان الدونم الواحد يحوي "15 شجرة جارنك و7 أشجار من الرمان" على أقل تقدير، وكان المزارع يستفيد من كل شجرة "جارنك" ما بين 5 كراتين إلى 12 كرتونة والتي تسع كل واحدة منها إلى 10 كيلوغرامات، فيما كانت شجرة الرمان التي يُقاس إنتاجها بالسلّة والتي يُقدر وزنها وهي ممتلئة بالرمان من 10 إلى 12 كيلوغراما، حيث كانت كل شجرة تحمل من 5 إلى 7 سللٍ في كل موسم.
استصلاح الأراضي أمر يفوق الإمكانيات
طرح الأسود في أثناء حديثه مع موقع تلفزيون سوريا طريقة واحدة لاستصلاح هذه الأراضي المتضررة وهي ملء الشقوق أو الفراغات بالتراب والتي وصفها بـ"المكلفة" وذلك لأن سعر سيارة التراب على مسافة 2 كيلو متر فقط تصل إلى 15 دولاراً أميركياً، فيما يصل سعر عمل الآلية التي تقوم بتحميل التراب (التركس) إلى 75 دولاراً أميركياً لكل ساعة عمل، مشيراً إلى أن كل دونم متضرر يحتاج إلى مئات السيارات، الأمر الذي يعجز عنه المزارع تماماً.
ولكن من وجهة نظر المهندس موسى البكر فإن هنالك طرقاً عدّة يمكن أن تحل جزءاً من مشكلة هذه الأراضي المتضررة، ومنها تحويل انخفاضات الأراضي التي تزيد على مترين إلى مدرجات أو مصاطب، وأمّا الانخفاضات اللي لا تتعدى النصف متر أو أكثر بقليل فيمكن إغلاقها بشكل كامل عبر تعبئتها بالطين.
وبالنسبة للأراضي الزراعية الكبيرة التي انخفضت بشكل كامل وهجرها أصحابها، فيمكن بحسب "البكر" أن تُزرع من جديد، دون النظر إلى فكرة تعويض الأرض بالتراب لتصل إلى المستوى الذي كانت عليه قبل الزلزال، مشيراً إلى أن الأشجار الكبيرة لم تتأثر فقد بقيت على حالها ولكنها انخفضت مع التربة وبقيت جذورها ثابتة، وأن التأثير طال الأشجار الصغيرة التي تملك جذوراً ضعيفة، فهي بحاجة إلى الزراعة مرة أخرى.
يقول البكر لموقع تلفزيون سوريا إن استصلاح جميع الأراضي المتضررة من الزلزال ليس أمراً سهلاً، نتيجة تضرر آلاف الهكتارات من الأراضي، التي تحتاج أساساً إلى دراسة لفهم طبيعة التربة والنباتات والأشجار الموجودة، ما يعني أن الأمر يتطلب مبالغ مادية كبيرة يعجز عنها المزارع وحتى حكومات الشمال السوري.
يؤكد من قابلهم موقع تلفزيون سوريا من المزارعين المتضررين الذي حُرموا من أراضيهم هذا العام والتي تعتبر مصدر رزقهم الأساسي، بأنهم مهمشون تماماً من قبل الجهات المعنية التي من شأنها النظر إلى حال أراضيهم واستصلاحها بالشكل المطلوب، أو تعويض خسارة المزارعين لهذه المواسم ريثما يتم إحياؤها مستقبلاً.