انتهت سلسلة القرارات الحكومية عند إغلاق 85 % من القسم الأوروبي الذي تقطنه النسبة العظمى من السوريين والمقيمين الأجانب في المدينة، ما يضعهم عرضة للابتزاز المادي من قبل المؤجّرين، مستغلين شحّ الخيارات بسبب الإغلاق الواسع، ولذلك يعيش السوريون كابوس الطرد من المنزل في بلاد ضربها التضخم في جميع نواحيها.
تكاد تنعدم الخيارات في المناطق الحيوية ذات الكثافة السورية، وتضيق خيارات البحث عن منزل بمبلغ إيجار مناسب، ولذلك تجبر النسبة العظمى من العائلات للابتعاد كثيراً عن مكان سكنها السابق في حال طردهم صاحب المنزل، مستغلاً جهل السوريين والأجانب بحقوقهم القانونية، وبالتالي الدخول في دوامة تغيير العنوان ومدارس الأطفال وزيادة مصاريف المواصلات.
وبحسب آخر الإحصائيات الرسمية من رئاسة الهجرة التركية، يعيش في ولاية إسطنبول 530 ألف سوري يحملون بطاقة الحماية المؤقتة، و670 ألف أجنبي يحملون تصريح إقامة (لا يوجد تفصيل لجنسياتهم). وتنقسم المدينة إلى 39 مقاطعة (بلدية)، تقع 25 في الجانب الأوروبي.
ووفقاً لبيانات المديرية العامة لشؤون السكان والمواطنة (NVI)، يعيش في الجانب الأوروبي ثلثا السكان، لكن تتسع الفجوة بين الجانبين لصالح أوروبا أكثر عندما يتم فحص توزيع السوريين، حيث تبلغ الكثافة السورية 86.63 % في الجانب الأوروبي، و13.37 % في الجانب الآسيوي، ويعود سبب ذلك إلى توزع المناطق الصناعية حيث تنشط فيها العمالة السورية ورخص إيجارات المنازل بالإضافة إلى رغبة السوريين في التجمع بأحياء محددة.
بعد قرارات الإغلاق 85 بالمئة من إسطنبول محظورة على الأجانب
لكن هذا التجمع أثار حفيظة الحكومة التي باتت تخضع للمطالب العنصرية الشعبية، وبدأت بسلسلة قرارات الإغلاق، حيث أوقفت ولاية إسطنبول عام 2019 منح السوريين بطاقات الحماية المؤقتة، ثم أغلقت منطقتي الفاتح وإسنيورت مطلع العام 2021 أمام طلبات تصريح الإقامة الجديدة للأجانب، وفي منتصف 2022 قررت رئاسة الهجرة إغلاق كل المقاطعات والأحياء التي تجاوزت فيها الكثافة الأجنبية 20% مقارنة بعدد السكان المواطنين.
وبناء عليه أغلقت 10 مقاطعات (بلديات) بالكامل وهي المقاطعات الكبرى مساحة وعدداً، بالإضافة إلى 54 حياً في باقي المقاطعات، لتصبح عدد الأحياء المغلقة في مدينة إسطنبول أمام الأجانب 273 حياً، ما يشكل قرابة 85% من القسم الأوروبي، الذي بقي فيه 5 مقاطعات مفتوحة وبعض الأحياء المتفرقة، وهي جميعها مناطق بإيجارات مرتفعة حيث يتجاوز إيجار أرخص منزل فيها ضعف الحد الأدنى للأجور، ويرفض نسبة كبيرة من أهلها تأجير منازلهم للسوريين، وكذلك هي مناطق متطرفة من المدينة وبعيدة عن مراكزها الحيوية.
وبحسب قرارات رئاسة الهجرة التركية، يمكن للأجنبي العيش في المناطق المغلقة، إذا كان يقطنها قبل صدور قرار الإغلاق، وبناء عليه يمكنه استئجار منزل جديد ضمن نفس المنطقة أو الحي، إلا أن قائمة أحياء أخرى أغلقت أحياء محددة أمام هؤلاء. فعلى سبيل المثال: مَن كان يسكن في منطقة أسنيورت، يمكنه العيش في أحد الأحياء المفتوحة في إسطنبول، أما إذا أراد البقاء في أسنيورت فهنالك 8 أحياء في مقاطعة أسنيورت مغلقة أمامه.
ما سبق يضع العائلات السورية في دائرة القلق المستمر والمتجدد كل عام عند تجديد عقد إيجار السكن، حيث لم يعد متاحاً منزل للإيجار في إسطنبول بأقل من 10 آلاف ليرة تركية في الأحياء الشعبية، في حين يبلغ الحد الأدنى للأجور 11 ألفاً و 400 ليرة، وتتضاعف الإيجارات في الـ 15% المتبقية من الشطر الأوروبي ولا يقدر على العيش فيها إلا الطبقة الغنية من الأجانب.
وبلغت الزيادة السنوية في الإيجارات بمدينة إسطنبول 109% منذ بداية العام الجاري بحسب دراسة لمركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية في جامعة بهشه شهير، إلا أن نسبة الزيادة السنوية القانونية لتمديد إيجار المنزل 25% فقط، ولذلك يلجأ أصحاب المنازل لطرد العائلات السورية وجلب مستأجر جديد بسعر السوق المرتفع، ثم تحولت هذه الحالة إلى الأتراك بين بعضهم بعضاً ولم يعد الطرد مقتصراً على السوريين.
تقول الناشطة الحقوقية يلدز أونين إن ارتفاع الإيجارات يؤثر على الأتراك والأجانب الذين يعيشون على الحد الأدنى للأجور خاصة في المدن الكبرى مثل إسطنبول وديار بكر وإزمير، لأن نسبة زيادة الأجور لا تتناسب مع نسب التضخم المرتفعة، ورغم كل ذلك يطلب أصحاب العقارات زيادة تتجاوز 25%.
وأشارت أونين في حديثها لموقع تلفزيون سوريا إلى أن السوريين الذين يتقاضون رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور، يتأثرون سلباً بهذا الوضع أكثر من غيرهم، حيث يستغل ملاك العقارات قلة خياراتهم بسبب قرارات الهجرة، ما يحرمهم من فرصة الانتقال إلى مناطق أرخص بشكل غير قانوني، أما إذا قرروا مغادرة الولاية فإنهم سيُحرمون من جميع الخدمات مثل التعليم والصحة.
وشددت المحامية التركية على ضرورة إعادة تحديد كل الإيجارات وفق الحد الأدنى للأجور وكبح التضخم، وبالنسبة للسوريين، وقف إعاقة حرية التنقل والمعيشة، لأن ذلك انتهاك لحقوق الإنسان.
"علينا ألا نمرض"
تحمل قرارات الإغلاق في طياتها مفاجآت كلفت اللاجئ السوري منير القاسم 50 ألف ليرة تركية ذهبت هباء منثوراً، بعد أن هدده المؤجّر وطرده من المنزل الكائن في مقاطعة أسنيورت، فعثر القاسم على منزل جديد في نفس المقاطعة، وذهب إلى مديرية الهجرة ليتحقق من أن المنزل الجديد في حي مفتوح.
بعد أن دفع القاسم 15 ألف ليرة تركية للمكتب العقاري و30 ألف ليرة كتأمين على المنزل الجديد، ذهب إلى مديرية النفوس لينقل عنوان سكنه إلى المنزل الجديد، لتصدمه الموظفة بأن هذا الشارع في قوائم مديرية النفوس يتبع لحي مغلق أمام الأجانب، على خلاف قوائم الهجرة.
وركزت السورية فاطمة الخطيب في حديثها لموقع تلفزيون سوريا على الأزمة النفسية التي تعرض لها طفلاها حسن (8 سنوات) ونوار (11 سنة) عندما أجبروا على ترك منزلهم في حي باغجلار والانتقال إلى مدينة أرناؤوط كوي البعيدة في الولاية، حيث انفصل أطفالها عن زملائهم في المدرسة ورفاقهم في الحي من الأطفال السوريين والأتراك، كما باتوا بعيدين عن أقاربهم الذين كانوا يتبادلون الزيارات فيما بينهم، ليجدوا أنفسهم في مدينة جديدة وحياة جديدة خلال يوم واحد.
يدفع زوج فاطمة 2100 ليرة تركية أجور مواصلات شهرياً من أصل راتبه البالغ 13 ألفاً، وتذهب 6 آلاف إيجاراً المنزل، ليبقى معهم 5 آلاف للطعام والشراب والفواتير ومصاريف الأطفال. تقول فاطمة: "علينا ألا نمرض لأننا لا نملك أجرة الطريق إلى الطبيب".
الطرد من المنزل واستغلال جهل الأجانب بالقوانين
ينظم قانون الالتزامات التركي رقم 6098 حقوق المستأجر وصاحب العقار، ويمنح المستأجر حق تجديد الإيجار سنوياً تلقائياً لمدة 10 سنوات، ولا يحق لصاحب العقار أن يزيد الإيجار كل عام بأكثر من متوسط مؤشر أسعار المستهلك (TUFE) ويحدد معهد الإحصاء التركي هذا المعدل شهريا، وأصدرت الحكومة التركية قراراً استثنائياً يحدد معدل زيادة الإيجار بـ 25% كحد أقصى اعتبارا من حزيران 2022 وحتى تموز 2024 بغض النظر عن مؤشر أسعار المستهلك.
ويحق للمؤجّر إنهاء العقد في الحالات الآتية:
- في حال أثبت أنه مضطر للعيش في المنزل أو ليعيش فيه قريب له من الدرجة الأولى، وفي هذه الحالة لا يحق لصاحب العقار تأجيره لشخص آخر قبل 3 سنوات، وإلا فسيدفع مبلغاً تعويضياً كبيراً للمستأجر السابق
- عند ضرورة ترميم العقار وتجعل عمليات الترميم المنزل غير قابل للسكن، فيتقدم المالك بطلب إخلاء، لكن يعود المستأجر للسكن فيه بعد انتهاء أعمال الترميم
- في حال حصل المؤجّر على إشعار إفلاس رسمي، وفي هذه الحالة يمكنه فقط طلب ضمان من المستأجر بالالتزام بدفع الإيجار الشهري، وفي حال رفض المستأجر تقديم هذا الضمان فيحق للمؤجر إنهاء العقد
- إذا كان المستأجر أو زوجته يملك عقاراً آخر في نفس الحي وهذا العقار متاح للسكن والعيش فيه.
- إذا لم يستطع المستأجر دفع الإيجار مرتين على الأقل خلال عام واحد، أو تأخر في الدفع، فيحقّ للمؤجّر رفع دعوى قضائية
- في حال أساء المستأجر استخدام العقار بطريقة غير مناسبة أو غير قانونية أو في حال أحدث ضرراً بالغاً فيه، أو في حال تسبب بإزعاجات للجيران، حينئذ يحق للمؤجر إرسال إشعار قانوني إلى المستأجر لتنبيهه وإصلاح الموقف خلال 30 يوماً، فإذا لم يحقق ذلك، يحق للمؤجر إنهاء العقد
لكن سيدة سورية أرملة روت ما حدث معها لموقع تلفزيون سوريا شريطة عدم ذكر اسمها، حيث تلقت من صاحب المنزل الذي يعيش أقاربه في نفس المبنى، تهديدات بإيذاء أولادها، مدّعين علاقتهم المتينة مع مدير الشرطة في الحي.
وتجنباً لأي مشاحنات بين أولادها والجيران من أقارب صاحب المنزل قد تنتهي بترحيل أولادها أو تعرضهم للأذى، ادّعت حججاً أخرى لإقناع أولادها بتغيير المنزل، وترتب على ذلك تكاليف باهظة وإرهاق إضافي حيث بات المنزل الجديد بعيداً جداً عن أماكن عمل أولادها.
أدوات إدارية للضغط على السوريين للعودة إلى بلادهم
أكد المحامي التركي أنس كافادار نائب مدير جمعية حقوق اللاجئين أن قرارات الهجرة التركية في إغلاق الأحياء هي عبارة عن تعميمات مخالفة للمادة 23 من الدستور التي تضمن لكل فرد حرية الإقامة والسفر، كما ينص تعديل الفقرة عام 2010 على أنه لا يجوز تحديد حرية المواطن في السفر إلى الخارج إلا بقرار من القاضي بسبب التحقيق الجنائي أو الملاحقة القضائية، ولا يجوز ترحيل المواطنين أو حرمانهم من حقهم في دخول البلاد.
وأوضح الناشط في قضايا حقوق اللاجئين في تركيا طه الغازي أن تحديد نسب الوجود الأجنبي والسوري في الأحياء وإغلاقها أمامهم يخالف المادة 13 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكذلك المادة 23 من الدستور التركي 1982، حيث تنص كلا المادتين في جوهرهما على حرية التنقل والسكن للأفراد من دون الإشارة إلى أنهم مواطنون أو أجانب أو مقيمون.
وأوضح الغازي في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن وزارة الداخلية التركية أعلنت عن "برنامج التخفيف" في الثامن من شباط عام 2022 وحددت نسبة الـ 20%، فأصدرت الهجرة التركية قرارات بإغلاق 1169 حياً في 52 ولاية.
وأشار الناشط الحقوقي إلى أن برنامج الداخلية تزامن مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن برنامج إعادة مليون سوري إلى بلادهم، وشدد الغازي على أن قرارات رئاسة الهجرة تتناغم مع سياسة الحكومة في ملف اللاجئين، وباتت أدوات إدارية للتضييق على اللاجئين لدفعهم على العودة إلى الشمال أو الهجرة إلى أوروبا.
وعن أسباب تجمع السوريين في أحياء دون غيرها، أوضح طه الغازي أن السبب الأول اقتصادي بحكم أن معظم السوريين عندما وصلوا إلى تركيا كانوا في وضع مادي سيئ أو غير مستقر، ويبحثون عن مأوى فقط ضمن الحدود الدنيا للكلفة المادية، ومن دون تحديد معاييره، ولذلك على سبيل المثال في مدينة إسطنبول كانت خياراتهم في أحياء مثل باغجلار وأسنيورت التي تقطنها اليد العاملة دون الطبقة المتوسطة.
وشدد الغازي على السبب الاجتماعي المتمثل بفشل الهجرة التركية في إدارة برامج اندماج السوريين في المجتمع التركي، حيث كانت هذه البرامج تستهدف فئة اللاجئين فقط دون الطرف الآخر التركي، ولذلك سعت معظم العائلات للسكن في منطقة ذات كثافة سورية خشية التعرض لخطاب الكراهية والتمييز العنصري.
وحذّر الناشط الحقوقي من تبعات وأضرار هذه القرارات، والتي يكون أقلها تعرض السوريين للابتزاز المادي من قبل المكاتب العقارية أصحاب العقارات الذين باتوا على دراية بقوانين الهجرة بأن السوري إذا ترك منزله فلا يمكنه الانتقال إلى منطقة ثانية لأنها محظورة فيجبره على رفع سعر الإيجار.