ابتداء من عام 2011، قام ناجون سوريون ومدافعون عن حقوق الإنسان وغيرهم برفع أكثر من 20 شكوى أمام الأنظمة القانونية والقضائية خارج سوريا ضد مسؤولين في نظام الأسد وذلك بسبب ارتكابهم لجرائم حرب وغيرها من انتهاكات وتجاوزات للقانون الدولي، وقد رفعت تلك الشكاوى بالاعتماد على مبدأ الولاية القضائية خارج البلاد والذي يبيح للمحاكم الأجنبية أن تمارس سلطتها القضائية على جرائم ارتكبت خارج البلدان التي تعمل فيها.
وقد تنوعت تلك الشكاوى، فبعضها رفعه الضحايا أو تم رفعها لصالحهم من قبل أفراد أسرتهم ممن يعتبرون مواطنين في الدول التي رفعت فيها تلك القضايا، في حين أن القضايا الأخرى اعتمدت على المبدأ الفرعي للولاية القضائية خارج البلاد والذي يعرف باسم الولاية القضائية العالمية الشاملة، والذي يقر بإمكانية النظر في بعض الانتهاكات التي تصنف بأنها شديدة للغاية لدرجة أنها تصبح مصدر قلق على الإنسانية بأسرها، وذلك من قبل أي دولة مستعدة للنظر في تلك القضايا.
في حين أن الغالبية العظمى لتلك الشكاوى قد رفعت في الدول الأوروبية، بدءاً من ألمانيا، مروراً بفرنسا، والسويد، كما عقدت جلسة استماع لقضية مدنية وتم التقاضي فيها أمام محكمة أميركية. وضمن أهم وآخر التطورات في هذا الميدان، وتحديداً في الثالث والعشرين من نيسان لعام 2020، عقدت أول محاكمة جنائية تدور حول عمليات التعذيب التي مارستها الدولة السورية (نظام الأسد) في كوبلينز بألمانيا، وماتزال تلك الدعوى مفتوحة.
اقرأ أيضاً:
وبتحليل تلك الشكاوى، لاحظ معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط زيادة في زخم فكرة المحاسبة القانونية، بالرغم من كل التحديات السياسية والقانونية التي تواجهها. كما تعرف هذا المعهد على عدد من التوجهات في المجال العدلي التي عملت تلك القضايا على تأكيد وجودها، فتحدثنا إلى السيد باتريك كروكر، من المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في برلين حول تلك التوجهات في اللقاء التالي:
سؤال: لماذا نجد بأن معظم القضايا قد رفعت أمام محاكم وطنية أوروبية مقارنة بتلك التي رفعت أمام جهات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية؟
السيد باتريك: في البداية أود أن أقول بأنَّ السبب الذي يجعلنا نرى عمليات ملاحقة قضائية وطنية حول جرائم ارتكبت في سوريا تنظر فيها دولة ثالثة يعود إلى أن تلك الملاحقات القضائية لن تحدث في سوريا، سواء الآن أو في المستقبل القريب، وذلك لأن النظام يرفض النظر في الجرائم التي ارتكبها هو بنفسه، وثانياً، وعلى المستوى الدولي، هنالك المحكمة الجنائية الدولية التي يمكن اللجوء إليها بصورة اعتيادية.
ولكن الولاية القضائية لهذه المحكمة تشمل فقط الدول الأعضاء فيها، أو في حالة إحالة القضية من قبل مجلس الأمن الدولي، وكلتا الحالتان غير متوفرتين هنا بشأن سوريا. وذلك لأن سوريا ليست دولة عضواً في المحكمة، وآخر محاولة لإحالة الملف السوري للمحكمة من قبل مجلس الأمن وقعت في عام 2015 إلا أن تلك المحاولة قوبلت بنقض من قبل الصين وروسيا. إذن فالسبيل الوحيد المتاح للعدالة حالياً هو الملاحقة القضائية والتحقيقات بموجب الولاية القضائية العالمية الشاملة في دولة ثالثة. وثمة بعض الدول التي بادرت بالتحقيق والملاحقة القضائية بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية الشاملة، ومن أهم الدول الأوروبية التي قامت بذلك نذكر ألمانيا وفرنسا والسويد. فقد لعبت ألمانيا دوراً قيادياً في هذا المجال، إذ بدأت بالتحقيق بالجرائم الدولية التي ارتكبت في سوريا منذ عام 2011، وأصدرت اليوم مذكرة اعتقال بحق جميل حسن، رئيس المخابرات الجوية في سوريا، بالإضافة إلى القضية المرفوعة حالياً في كوبلينز ضد مسؤولين في النظام متهمين بالتعذيب.
سؤال: معظم القضايا التي رفعت حتى اليوم ركزت على تعذيب طال أفراداً احتجزوا في سجون النظام، فلماذا كل هذا التركيز على هذه الجريمة بحد ذاتها دون الجرائم الأخرى التي ارتكبها النظام؟
السيد باتريك: إن القضايا التي رفعت ضد النظام ركزت على التعذيب، إلا أن هذا لا ينطبق على الكثير من القضايا التي تتصل بسوريا والتي يتم من خلالها ملاحقة عناصر فاعلة غير تابعة للنظام في أوروبا، وذلك لأن الكثير من تلك القضايا التي لا تمت للنظام بصلة يتم النظر فيها بناء على جرائم الإرهاب المرتكبة.
أما بالنسبة للقضايا التي يتم بموجبها ملاحقة مسؤولين في النظام بشكل قانوني، فهنالك أسباب عديدة للتركيز على التعذيب، أولها أن التعذيب محرم، بصرف النظر عن سياق الوضع وحيثياته. وبالنسبة للجرائم الدولية الأخرى، مثل قصف المدنيين وقتلهم، يؤسفني أن أقول إن تلك الأفعال لا تعتبر دوماً جرائم جنائية ضمن النزاع المسلح، أما بالنسبة للتعذيب فهنالك تحريم مطلق لتلك الممارسة. إذن عندما تقوم بتعذيب شخص ما، فإن ذلك يعتبر انتهاكاً لاتفاقية مناهضة للتعذيب، وإذا ارتكب ذلك ضمن هجوم واسع وممنهج ضد شعب معين، فإن ذلك يعتبر جريمة ضد الإنسانية. ثانياً: من السهل إثبات جريمة التعذيب مقارنة بغيرها من الجرائم، وذلك نظراً لقرب الفعل الإجرامي من موقع الجريمة. وهذا يعني أن مرتكب الجريمة، والضحية، والأشخاص الذين يحتلون مناصب أرفع ضمن تسلسل القيادة قريبون من بعضهم البعض بشكل نسبي. وبما أنهم يتواجدون ضمن المقر نفسه الذي ارتكبت فيه عمليات التعذيب على نطاق واسع، فمن الأسهل إثبات مسؤولية شخص معين عن التعذيب الذي يمارس مقارنة بغيره من الجرائم التي ارتكبت في سوريا. فعلى سبيل المثال، عند استخدام الأسلحة الكيماوية، يكون موقع الجريمة بعيداً جداً عن المكان الذي تم التحضير فيه لهذا النوع من العمليات. ثم إن هنالك تقسيماً للعمل بالنسبة لتلك الجرائم. لذا، ومن وجهة نظر قانونية جنائية، من الصعب جداً تحديد المسؤولين عن تلك العمليات، أي معرفة الشخص الذي اختار الأهداف، والشخص الذي قام خلط المواد الكيماوية، وذلك الذي قام بتحميلها على طائرة حربية، والشخص الذي ضغط على الزر وأطلق تلك الأسلحة في مكان معين. ولذلك سنجد الكثير من الصعوبات في إثبات الكثير من الجرائم الأخرى التي ارتكبت هناك. وثمة سبب آخر للتركيز على التعذيب حتى الآن، ويعود إلى أن التعذيب يمثل الجريمة الأكثر ارتكاباً والتي أصبح لها رمزية معينة ضمن السياق السوري. وفي الوقت الذي أسوق فيه لكم هذه الأسباب التي تدفعنا للتركيز على التعذيب، لا أعني بذلك بأننا يجب بالضرورة أن نواصل السير على هذا المنوال. إذ يمكن رفع قضايا ضد جرائم أخرى، ونأمل أن نتمكن من النظر في تلك القضايا يوماً ما.
شاهد أيضاً:
سؤال: لقد تمخض عدد قليل جداً من القضايا عن أحكام نهائية، إلا أن تلك القضايا شملت قضية مدنية رفعت في الولايات المتحدة حول القتل المتعمد للصحفية ماري كولفن إلى جانب قضية جنائية رفعت في السويد ضد جندي للنظام يحمل رتبة متدنية وحكم عليه بالسجن لمدة ثمانية أشهر. وفي الوقت الذي تتقدم فيه بعض القضايا، شهدنا إصدار مذكرات اعتقال وسجن بحق مرتكبي تلك الجرائم. وما هو نوع التعويض الذي يمكن للمحاكم الجنائية والمدنية أن تقدمه لضحايا الانتهاكات وما نوع الإجراءات العقابية التي يمكن لتلك المحاكم أن تقوم بها سواء بالنسبة للقضايا الجارية أو خلال مرحلة النطق بالحكم؟ وما أهمية تلك القضايا بتقييمكم؟ وماذا تقولون للشخص الذي يرى بأن تلك القضايا تتحرك ببطء شديد وبأنها عرضة للتسييس بشكل كبير، كما أن العدالة فيها منقوصة؟
السيد باتريك: إنها لقضية واسعة ومعقدة إذا أردنا أن نناقش التعويضات المتاحة للضحايا، وذلك لأن تقرير التعويض المناسب أمر ذاتي للغاية ولا يمكن الإجابة عليه ببضع جمل. ولكن بوسعي أن أبدأ الحديث حول الإجراءات التي يمكن اتخاذها، والنتيجة التي يمكن تحصيلها عبر تدخل العدالة الجنائية الذي تطرقتم إليه في سؤالكم، لاسيما فيما يتصل بالعمليات والإجراءات الجنائية، لأنه كما سبق وذكرتم تعتبر قضية ماري كولفن في الولايات المتحدة من إحدى القضايا المدنية القليلة التي عرضت علينا.
إن الغالبية العظمى من القضايا التي لدينا تدور حول تحقيقات في قضايا جنائية ضد مسؤولين في النظام، وتلك القضايا جنائية، ما يعني أنه في النهاية ستصدر أحكام بالسجن، وذلك يعتبر إجراءاً عقابياً. ويعتبر ذلك مهماً بالنسبة للبعض، إذ من الضروري مشاهدة شخصيات وهي تعاقب على ما اقترفته إن كانت هي من ارتكب تلك الجرائم على نطاق واسع. ولا أعتقد هنا بأن الثأر هو الدافع الأساسي. إلا أن الأهم برأيي هو تأكيد مجتمعاتنا على ذلك، وبما أننا نتحدث عن الجرائم الدولية، فإن العالم بأسره والمجتمع الدولي يعتبر ما جرى بحق السوريين ظلماً وبأن ذلك يمثل جريمة كبرى. ولإبراز الأهمية الرمزية لهذا التأكيد حول ما قاساه هذا الشعب واعتبار ما حدث له جريمة لا تغتفر في مجتمعاتنا والمجتمع الدولي، يجب أن يرتبط ذلك بعقوبة. ولهذا يمكن للقضايا الجنائية أن تلعب دوراً في هذا السياق، إلا أن دورها يبقى ضمن إطار محدود، ولهذا من الضروري أن ترافقها إجراءات عدلية أخرى. وذلك لأن آثار القضايا الجنائية يمكن أن تتجاوز القانون. ولهذا تعتبر العدالة الجنائية في أغلب الأحوال أول من يكسر الجليد أمام عملية العدالة الانتقالية.
فمثلاً، تمتلك البيانات والتصريحات والأدلة والنتائج التي تم تقديمها في المحاكم وكذلك القضايا والمرافعات في المحكمة بحد ذاتها سلطة تخولها الدفع باتجاه فرض إجراءات وخطوات أخرى من أجل العدالة. لذا عندما يحتار مجتمع ما حول ما إذا كانت تلك الجرائم الدولية قد ارتكبت أو حول الطريقة التي ارتكبت فيها، تأتي القضايا والمحاكمات الجنائية التي بوسعها أن تلعب دوراً ما وذلك عبر تقديم رواية لما جرى وأسس للحقائق المطروحة. وفي بعض الأحيان يمكن للأحكام الصادرة عن المحكمة أن تمنح الأفراد سلطة ليقوموا باتخاذ أشكال أخرى من الإجراءات. إذ يمكن للفنانين والمؤرخين وغيرهم أن يأخذوا ما جرى وتكشف في المحكمة ليقوموا بتطبيقه وتنفيذه من أجل العدالة ولكن ضمن المجالات الخاصة بهم.
سؤال: تبدو الغالبية العظمى من القضايا عالقة في مرحلة التحقيقات وذلك بعد مرور سنوات على رفع الشكاوى، فهل لديكم أي تفسير حول سبب ذلك وما الذي يمكن تحقيقه خلال مراحل التحقيقات المطولة؟
السيد باتريك: ما لم أتحدث عنه بعد هو مذكرات الاعتقال لأنها جزء من التحقيقات، وفي الكثير من الدول الديمقراطية، لا تتم محاكمة المجرمين غيابياً، أما في سوريا، وبالنسبة للجرائم التي ارتكبتها الحكومة، فإن معظم الأشخاص الذين يتحملون مسؤولية تلك الجرائم مايزالون في سوريا، ولهذا لا يمكن محاكمتهم، بل بوسعنا أن نجري تحقيقاتنا حولهم. وهذه الخطوة غاية في الأهمية بالنسبة للمحاكمات التي ستجري مستقبلاً، كونها ستقوم بحفظ الأدلة، إلى جانب إصدارها لمذكرات اعتقال. وبالطبع وبالرغم من إصدار مذكرات الاعتقال تلك، مايزال هنالك افتراض البراءة بالنسبة لتلك الشخصيات، أي أن تلك العملية تحمل بين طياتها قراراً ابتدائياً بني على الأدلة. ولكنها تحمل أيضاً بين طياتها قراراً ابتدائياً صادراً عن محكمة قانونية أو نيابة، بالنسبة للجرائم وطريقة ارتكابها على يد هؤلاء الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في مذكرات الاعتقال. ففي ألمانيا صدرت مذكرات الاعتقال مع نسبة تشكيك كبيرة، وهذا يعني بأن هنالك نتائج تدين الأشخاص المتضررين بسبب تلك المذكرات ولهذا سيتم تطبيق منع سفر عليهم لأن مذكرات الاعتقال تلك يمكن أن تطبق على المستوى الدولي. ولهذا ينبغي على شخص مثل جميل حسن من المخابرات الجوية السورية أن يخاف من الاعتقال والتسليم لألمانيا أو فرنسا عندما يسافر. ومن الواضح أنه في حال بقي الوضع السياسي على حاله، بصرف النظر عما يجري في روسيا أو إيران أو بعض الدول الأخرى، ولكن في معظم الدول، لاسيما الأوروبية منها، عندها سيكون من الواجب تسليم جميل حسن إلى ألمانيا. وهذا بحد ذاته يمثل عائقاً أو شكلاً من أشكال العقوبة المفروضة على تلك الشخصيات لم يسبق لهم وأن تعرضوا لمثلها. ولهذا أعتبر هذه الخطوة خطوة نحو الأمام، مع أني أعترف بأنها خطوة صغيرة، لكنها بأي حال خطوة إلى الأمام بعيداً عن الحصانة المطلقة التي تتمتع بها تلك الشخصيات عادة.
وهذه التحقيقات مهمة للغاية، لأنها تضع أسس العمل بالنسبة لأي آلية محاسبة ستجري مستقبلاً. وذلك لأننا إذا لم نقم بالتحقيق إلا بعد وصول مرتكبي تلك الجرائم إلى أوروبا، فهذا يعني بأن العملية ستستغرق سنوات بعد وصولهم إلى أوروبا. ولكن إذا نظرنا إلى المحاكم الدولية الأخرى، سنجد بأن وحدة الملاحقة القضائية والتحقيق هي التي تبدأ عملها أولاً، وقد يستغرق ذلك العمل سنوات قبل أن تعقد محاكمات فعلية. وقد وصلنا إلى تلك المرحلة بالنسبة لسوريا، ولهذا تعتبر مرحلة التحقيقات الأولى أساسية وضرورية نظراً لوجود الكثير من الأدلة خارج سوريا، ولابد من حفظ تلك الأدلة من أجل المحاكمات التي ستعقد في المستقبل حتى تتم مشاركتها مع سلطات قضائية أخرى في مختلف بقاع العالم.
سؤال: تم رفض عدد قليل من القضايا بينها تلك التي رفعت في إسبانيا وسويسرا، فهل هنالك تخوف من أن تتحول تلك القضايا إلى إحراج لأسباب سياسية بينها خوف بعض الدول من توسيع سابقاتها بالنسبة للولاية القضائية خارج حدودها أو الولاية القضائية العالمية الشاملة فيها؟
السيد باتريك: هنالك بالفعل دول مثل إسبانيا التي قلصت من مجال قوانين الولاية القضائية العالمية الشاملة فيها، وهذا بدوره تسبب برفض دعوى في إسبانيا. ويثير هذا الأمر مشكلة سياسية أوسع هي بنظري إشكالية. كما أن بلجيكا حدت من قانون الولاية القضائية العالمية الشاملة لديها، مما جعل دورها محدوداً في تلك القضايا من حيث المحاكمة والتحقيقات. لذا علينا أن نبحث في استمرارية هذه الموجة. إذ برأيي تعتبر القضايا حول سوريا خير دليل على ضرورة وجود قوانين لدينا تبيح قيام تلك التحقيقات، نظراً لوجود تلك الجرائم التي أصبحت فظائعها معروفة لدى القاصي والداني، ولا أظن بأن هنالك أحداً يقف ضد ضرورة قيام عملية محاسبة جنائية لتلك الجرائم، لأنه لا يوجد أمامنا خيار سوى اللجوء لدولة ثالثة في تلك القضايا. ولهذا أتمنى أن يدفع ذلك بعض الدول لإعادة النظر في قوانينها، ولتوسيع مجال تطبيق تلك القوانين مجدداً.
سؤال: ألمانيا دولة من الدول التي تتمتع بإطار عمل قانوني موسع إلى أبعد حد بحيث يبيح لها عقد جلسات استماع لقضايا من هذا النوع، كما لدى فرنسا عدد من القضايا المرفوعة أمام محاكمها اليوم. فهل تتوقع لكل من ألمانيا وفرنسا أن تواصلا ريادتهما في هذا المجال؟ وما هو الدور الذي لعبته التحقيقات التي أجرتها كلتا الدولتين في تلك القضايا؟ وبعيداً عنهما، من هي الدول التي يرحب إطار عملها القانوني بالولاية القضائية خارج حدودها أو الولاية القضائية العالمية الشاملة ولهذا يمكن أن تتحول إلى دول تقبل رفع هذا النوع من القضايا أمام محاكمها؟
السيد باتريك: كما ذكرتم وقلتم بكل إنصاف، يمكن القول بأنَّ ألمانيا وفرنسا ماتزالان تعملان على تحقيقات جارية فعلياً. أما حالياً، أرجح أن يبقى الوضع ضمن هذا المسار. ويتصل هذا الموضوع أيضاً بالدول التي استقبلت نسبة كبيرة من اللاجئين، ولهذا تتوفر فيها الكثير من المعلومات والأدلة، إلا أن تلك الدول أيضاً لديها وحدات فاعلة على مستوى عال بالنسبة لجرائم الحرب، ويعتبر ذلك شرطاً مسبقاً لقيام تلك التحقيقات. ولهذا أعتقد بأن التحقيقات الجارية في ألمانيا وفرنسا ستتحول إلى توجه سائد خلال العامين المقبلين.
وإننا نعمل اليوم على بعض التحقيقات الأخرى، إذ هنالك دول أخرى، لاسيما في أوروبا، بوسعها أن تلعب دوراً أكثر فعالية في هذا المضمار، وأتمنى أن تقوم تلك الدول بذلك، وعلى رأسها النرويج والسويد والنمسا، حيث قام المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان برفع شكاوى وذلك لأننا نؤمن بشدة بأن قوانين تلك الدول تبيح قيام تحقيقات كما تسمح بإصدار مذكرات اعتقال بحق مرتكبي جرائم ممن يشغلون مناصب عليا. ثم إن الدور الذي تزعم تلك الدول أنها تلعبه على الصعيد السياسي والدولي، لاسيما فيما يتصل بتعزيز حقوق الإنسان يتطلب منها أن تصبح أكثر فاعلية في ريادة وقيادة تلك التحقيقات.
ولهذا آمل أن نرى المزيد من الدول وهي تنضم إلى تلك الجهود، وذلك لأن الولاية القضائية العالمية الشاملة تحتاج إلى مقاربة جزئية، لأنها تشبه لعبة المحيرة (البزل)، لذلك يتعين على أي دولة تتمتع بالمسؤولية أن تكون على قدر تلك المسؤولية، وأن تجد القطعة الناقصة من لعبة المحيرة لتضعها في مكانها المناسب بما يسهم في توسيع إطار الجهود الدولية التي تبذل في هذا السياق.