سلّط الكاتب والصحفي البريطاني جورج أورويل في روايته 1984، الضوء على علاقة الأنظمة الشمولية مع العامة، واعتبر أن عامة الشعوب ونسبتهم العظمى، جديرون بالثقة، حيث قال في كثيرٍ من محطات الرواية وأثناء كتابته لمذكراته عبر شخصية (ونستون سميث) بطل الرواية: "إن كان هنالك أمل، فالأمل يكمن في العامة"، وفصّل في بعض المطارح سلوك العامة الذي مهما بلغَ من الانحدار بفعل السياسات القمعية والتخريبية للوعي العام إلا أن هنالك ما يبقى خارج السيطرة ويشذّ عن النسق، ومنها وصفه للسيدة الضخمة التي كانت تنشر الغسيل وتغني بعضاً من أغنية تافهة ألّفها الحزب (الحزب المستبد الحاكم) وكان يراها من شرفة غرفته التي استأجرها من السيد شارنغتون، حيث تَفَاجَأ بصوتها وغنائها وعفويتها وعبّر بقوله: في البيئة التي يُهمين عليها الحزب اثنان فقط قادران على الغناء هم العصافير والعامة.. إن الأمل يكمن في العامة.
الطريقة التي تتبعها الأنظمة القمعية لتجهيل العامة هي بسيطة جداً فحواها الإبعاد، وعند هذا الحدّ من الواقعية يضع أورويل يده على جراحنا كشعوب قاست ما قاسته من ويلات التعتيم.
ويذهب جورج أورويل بعيداً في وصفه لسلوك العامة، هؤلاء الذين تحوّلوا بفعل القمع والتجويع والإقصاء عن الجمال إلى وحوش قادرة أن تفتك ببعضها بعضاً دون أن يطرَف لها جفن، كأن يُصبح الابن ولغلبة الفقر والقهر عدوّاً لأمه وأخته، وهو ما حصل مع (ونستون سميث) بطل الرواية حين سرق قطعة الشوكولا خاصة أخته وهو يعلم أنها بأمسّ الحاجة، ويكمل أورويل أنه في تلك اللحظة حيث لم يبقَ لدى أم ونستون ما تعطيه لابنتها التي صارت شبه القرد بفعل النحول والشحوب ضمتها إلى صدرها وعانقتها أشدّ عناق في إشارة إلى أن العامة لم يُسلبوا أحاسيسهم رغم كل محاولات الحزب تجريدهم منها. عبّر أورويل عن ذلك ببعض الصور "أشنع ما قام به الحزب أنه كان يحاول إقناع الناس بأن مجرد الدوافع والمشاعر لم تكن بذات قيمة. العامة ما زالوا يعيشون على هذه الحال، فولاؤهم ليس لحزب أو دولة أو فكرة وإنما لبعضهم البعض، لقد ظل العامة بشراً ولم تتحجر أفئدتهم إنهم يتمسكون بعواطف فطرية. إن العامة خالدون وهذه حقيقة لا يمكن أن يرقى إليها شكّ إن الطيور تغني والعامة تغني بيدَ أن الحزب لا يغني".
أما الطريقة التي تتبعها الأنظمة القمعية لتجهيل العامة فهي بسيطة جداً فحواها الإبعاد، وعند هذا الحدّ من الواقعية يضع أورويل يده على جراحنا كشعوب قاست ما قاسته من ويلات التعتيم، ومع ذلك فإن هذه الأنظمة فشلت أمام روح العامة، وهي نبوءة أورويل التي تتحقق في وقتنا الراهن "لم تُسجّل أي محاولة لغرس أيديولوجية الحزب فيهم، إذ لم يكن من المرغوب فيه أن يكون لدى عامة الشعب وعي سياسي قوي، فكل ما هو مطلوب منهم وطنية بدائية يمكن اللجوء إليها حينما يستلزم الأمر... بل وحتى عندما كان ينتابهم شعور بالسخط، كما يحدث أحياناً، فإن سخطهم لم يكن ليفضي إلى شيء كونهم يعيشون بلا مبادئ عامة، ولذلك كانوا يركزون غضبهم على تظلّمات خاصة وقليلة الأهمية، فالأخطار الكبرى لا تسترعي انتباههم. كان يسمح لهم بممارسة الشعائر الدينية وإذا ما أبدوا حاجة أو رغبة في ذلك فهم ليسوا موضع شك. وفي ذلك كان شعار الحزب يقول: "عامة الشعب والحيوانات أحرار".
يسترسل أورويل في وصفه لطبيعة العلاقات الجنسية التي تحكم العامة كما استرساله في طبيعة علاقاتهم الاجتماعية، على اعتبار الجنس طاقة مُحرّكة يمكن توجيهها لخدمة أهداف غير معلنة، ففي الوقت الذي كان فيه الحزب يُشجّع على الدعارة بين أعضائه من المرتبة الدنيا كان يُترك العامة دون أي ضوابط لكن وفقاً للمنطق ذاته، وهو تحويل أي عاطفة من مسارها السليم إلى الشاذ "كان الحزب يميل لتشجيع الدعارة، ولكن بصورة غير معلنة، باعتبارها متنفساً لغرائز لا يمكن كبتها كليّة، فالدعارة في حدّ ذاتها لم تكن تهمّ الحزب كثيراً ما دامت تتم مع نساء من الطبقة المحتقرة والمسحوقة في الخفاء ومجرّدة من أي شعور حقيقي باللذة، كان الهدف تجريد العملية الجنسية من كلّ لذة وكان يُنظر إلى العملية الجنسية على أنها تافهة تدعو للاشمئزاز والتقزّز".
وعلى الرغم من بلوغ الحزب أهدافاً ظاهرة في ما يخصّ علاقات العامة ببعضهم، ومنها عزلهم عن الحقيقة، وزعزعة أي مشاعر صادقة ممكن أن يتلاقوا عليها، وبالتالي انعدام الثقة فيما بينهم فلا الزوج يثق بزوجته ولا الأم قادرة أن تثق بأبنائها، غيرَ أن شيئاً من محسوساتهم ما يزال على قيد الحياة.
العامة تتحرّك بفطرتها السليمة وليست بحاجة إلا للقليل من المعرفة لتصوب نحو هدفها وتنتفض وهي لا محال ستبلغ مرادها.
ويعرّج أورويل على منطق الحكام الشموليين الخائب في مواجهة (العامة) فاتحاً باب التفاؤل على مصراعيه، فالعامة تتحرّك بفطرتها السليمة وليست بحاجة إلا للقليل من المعرفة لتصوب نحو هدفها وتنتفض وهي لا محال ستبلغ مرادها "لو أمكن لعامة الشعب أن يدركوا مدى قوتهم لما كان هناك حاجة للتآمر، فكل ما يحتاجه الأمر أن ينتفضوا مثلما ينتفض الحصان لإزاحة الذباب بعيداً". "لن يثوروا حتى يعوا ولن يعوا إلا بعد أن يثورا".
ولا ينسى أورويل في الكثير من فصول الرواية بتذكرينا أن الأنظمة الشمولية أكثر ما تخشاه الإنسان، فهي تدّعي أنها مُهتمة بالسياسة والاقتصاد وأعداء خارجيين، إلا أن همها الأوّل هو المكوّن البشري القادر على إنتاج الفكر والمادة الكفيلين بهلاكها "الخطر الحقيقي من وجهة نظر حكامنا الحاليين يكمن في إمكانية انشطار فئة جديدة من أناس لديهم الكفاءة اللازمة وطاقة فائضة ومتعطشين إلى السلطة وانتشار روح ليبرالية تحررية ونمو نوازع شكوكية بين صفوفهم، ومن هنا يتبين أن الإشكالية إشكالية تثقيفية الطابع".
"ففي جميع أنحاء العالم يعيش مئات ألوف من ملايين الأشخاص على هذا المنوال، حيث يجهل بعضهم وجود بعض، وتفصل بينهم جدران من الكراهية والأكاذيب ومع ذلك فإنهم متماثلون. أناس لم يتعلموا أبداً كيف يفكرون ولكنهم يختزنون في قلوبهم وبطونهم وعضلاتهم القدرة التي يمكن في يوم من الأيام أن تقلب نظام العالم".
ويعود أورويل في آخر فصول الرواية إلى التذكير بجمال المرأة التي شاهدها (ونستون) بطل الرواية من شرفة الغرفة التي استأجرها من السيد شارنغتون، فأثناء حديثه مع حبيبته جوليا حيث أشدّ اللحظات الحميمية بينهما، تكون هذه المرأة محور نقاشهما الأخير قبل أن يتم اعتقالهما، يتغنيان بجمالها وخصوبتها كحالة لا يمكن فصلها عن مغزى العلاقة التي جمعتهما ودلالاتها "في كل مكان تنتصب شبيهات هذه المرأة ذات القوام الصلب الذي لا يكلّ ولا يملّ واللاتي تضخّمت أجسامهن من جرّاء الحمل وإنجاب الأطفال والكدح من المهد إلى اللحد ومع ذلك يغنين. إن بين جسمها الصلب الذي ضاعت خطوطه مثل صخرة الغرانيت وجلدها الأحمر الخشن، علاقة تشبه تلك التي بين تاج الوردة وكأسها، فلماذا ينبغي أن تكون الثمرة في مرتبة أدنى من مرتبة الزهرة؟.