منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، استعادت أوكرانيا مكانتها التقليدية كواحدة من أهم سلال توريد الخبز في العالم. أكثر من 55٪ من مساحة أراضي أوكرانيا "صالحة للزراعة" ولديها بعض أنواع التربة الأكثر إنتاجية في العالم. وفقًا لوزارة الزراعة الأميركية، تنتج أوكرانيا نحو 4٪ من إمدادات الذرة والقمح العالمية، و7٪ من الشعير، و31٪ من زيت دوار الشمس.
ليس حجم إنتاج المحاصيل الأوكرانية فقط هو المثير للقلق بالنسبة للإمدادات الغذائية العالمية، ولكن الأهم هو حجم الصادرات الزراعية الأوكرانية. وتعد أوكرانيا الآن خامس أكبر مصدر للقمح في العالم، حيث توفر 10٪ من صادرات القمح العالمية، ويسهم قطاع الزراعة الأوكراني العالمي الآن بنحو 15٪ من الصادرات الزراعية العالمية. وتعدّ المنتجات الزراعية أكبر صادرات أوكرانيا وقدرت قيمتها بنحو 70 مليار دولار في عام 2021.
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا شكّل هاجس اندلاع أزمة غذاء عالمية الشغل الشاغل للحكومات والمؤسسات الاقتصادية العالمية، ومما قد تتسبب به من أزمات اقتصادية وسياسية في بعض الدول الهشة اقتصاديا واجتماعيا حيث يتحور الخطر في نقطتين رئيسيتين:
الأولى: تتمثل في أن معظم العمليات العسكرية تتم في الأراضي الأكثر خصوبة والتي ينبت فيها محصول القمح والذرة، وأن هذه العمليات تتم في وقت الحصاد.
الثانية: تتمثل في الحصار الروسي لموانئ البحر الأسود والتي يعرقل سلسلة توريد القمح العالمية، حيث تشير البيانات إلى أن ما يقرب من 25 مليون طن من الحبوب عالقة في أوكرانيا بحسب مسؤولين في برنامح الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.
في هذه المقالة سوف تقدم سردا تاريخيا لبعض الأزمات التي تسببت بها أزمات الخبر ونتائجها السياسية، وإمكانية حدوث أزمات مشابهة بسبب أزمة الغذاء المتوقع أن تكون إحدى نتائج الحرب الحالية في أوكرانيا:
تسقط الحكومات عندما يجوع الشعب
يسود الاعتقاد أن النفط هو السلعة الأكثر صبغة سياسية في العالم مع وجود أكثر من نصف الاحتياطيات النفطية العالمية في الشرق الأوسط تحت سيطرة منظمة أوبك وروسيا، لكن الحقيقة تقول إن القمح أيضا له تاريخ طويل كسلعة ذات تداعيات سياسية كبيرة خاصة عندما ترتفع أسعاره أو يحدث نقص في الإمدادات.
في 16 أكتوبر عام 1793 تم إعدام آخر ملكات فرنسا ماري أنطوانيت بسبب عدم اكتراثها بمحنة الخبز الذي كان يعاني منها الشعب الفرنسي، وما زالت عبارتها الشهيرة تدرس في كل أدبيات علم الاجتماع السياسي الذي يتناول أحداث الموجة الأولى من الثورة الفرنسية عندما قيل لها بأن الشعب لا يستطيع أن يأكل الخبز نتيجة لارتفاع سعره فقالت (فليأكلوا الكعك).
في عام 1884 اندلعت الموجة الثانية للثورة الفرنسية أو ما يطلق عليه اسم الثورة الفرنسية الثالثة بسبب السخط الاجتماعي والسياسي، حيث فقد معظم العمال وظائفهم وارتفعت أسعار الخبز واتهم الشعب الحكومة بالفساد الاقتصادي بسبب عدم قدرتها على توفير القمح.
في مارس وأبريل 1863 وفي أثناء الحرب الأهلية الأميركية تسبب نقص الخبز والطحين باضطربات عنيفة في عدة مدن أميركية أدت إلى عصيان مدني واسع في الاتحاد الفيدرالي الأميركي.
في عام 2011 اندلعت ثورات الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وعلى الرغم من الاحتجاجات الشعبية كانت لأسباب سياسية أكثر منها اقتصادية، إلا أن البيانات تشير إلى أن سعر القمح في ذلك الوقت كان عند أعلى سعر له منذ عام 2008.
القمح كسلاح
تمثل روسيا وأوكرانيا سلة خبز أوروبا كما أنهما تصدران ثلث قمح العالم، حيث تشير البيانات الاقتصادية إلى أن روسيا وأوكرانيا استحوذتا معا على 33% تقريبا من صادرات القمح السنوية عالميا خلال السنوات الخمس الماضية.
اندلعت المعارك في إقليمي دونيتسك ولوغانسك ومدينة ماريوبول حيث الأراضي الأكثر خصوبة والتي تتضمن أكبر المساحات المزروعة بالقمح، كما أن مدينة أوديسيا التي تتضمن الميناء الشهير الذي ينقل إنتاج أوكرانيا من القمح إلى العالم تتعرض لحصار وقصف روسي.
لا تؤثر الحرب على الصادرات الروسية والأوكرانية من القمح فحسب بل تؤثر على الإنتاج العالمي، حيث أدت العقوبات الغربية على روسيا إلى توقفها مؤقتا عن تصدير الأسمدة، إذ تصدر روسيا ما مقداره 12.6 % من حاجة العالم للأسمدة، الأمر الذي سوف يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض العرض من الحبوب والزيوت في كل أرجاء العالم.
التضخم وصناديق الاقتراع والفوضى
حولت الحرب الأوكرانية التضخم الذي كان يعاني منه العالم بعد جائحة كورونا إلى موجة تضخمية معقدة ومتسارعة عجزت السياسات النقدية عن مواكبتها، كان ارتفاع أسعار الغذاء وعلى رأسها القمح أحد مكونات هذا التضخم الذي يشكل تحديا كبيرا أو مصيريا لكثير من الحكومات.
فعلى سبيل المثال ارتفع التضخم في اقتصاد منطقة اليورو إلى مستويات قياسية وتوقف الاقتصاد الأوروبي عن النمو وأصبح مهددا بالركود، في حين لا تزال احتجاجات أصحاب الستر الصفر في العاصمة الفرنسية باريس بسبب ارتفاع أسعار الوقود ببعض السنتات حاضرة في ذهن العديد من القادة الأوروبيين.
في أميركا ارتفع التضخم إلى 8.5 % وهو أعلى مستوى منذ أربعين عاماً، الأمر الذي دفع الفيدرالي الأميركي إلى إطلاق أعنف موجة من التشديد النقدي منذ بدايات التسعينيات في محاولة للسيطرة على التضخم قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، والذي يخشى الديمقراطيون أن يؤثر ارتفاع الأسعار على خيارات الناخبين.
قي تركيا والتي تقف على بُعد عام من انتخابات رئاسية وبرلمانية مصيرية، ارتفع التضخم إلى 70% وارتفع سعر الخبز بمقدار 100% تقريبا، الأمر الذي جعل تركيا في المرتبة الأولى من حيث مستويات التضخم المرتفعة بين الدول الناشئة، والسادسة عالميا بعد فنزويلا ولبنان وسوريا والسودان وزيمبابوي، تستغل المعارضة ورقة ارتفاع الأسعار وانهيار القوة الشرائية للمواطن التركي بسبب تراجع سعر صرف الليرة التركية كأحد الأسلحة في مواجهة حزب العدالة والتنمية.
في العالم العربي تعتبر سوريا ولبنان والسودان واليمن من أكثر الدول المهددة بمجاعة بحسب بيانات برنامج الغذاء العالمي، ومن المحتمل أن تعاني مصر وبعض دول المغرب العربي من أزمات غذاء بسبب ارتفاع الأسعار بحسب منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة، الأمر الذي قد يشعل ثورات جياع وموجة جديدة من الربيع العربي وخصوصا أن أسعار القمح اليوم أعلى بنسبة 40 % تقريبا من عام 2011.
الخلاصة:
إن نقص القمح له تاريخ طويل من إثارة الاضطرابات السياسة، وصل سعر بوشل القمح (يعادل 27 كيلوغرام) منذ اندلاع الحرب إلى أكثر من 14 دولارا تقريبا والأسعار مرشحة للارتفاع مع استمرار الحرب واختناقات سلال التوريد العالمية، فهل ستستخدم روسيا القمح كأداة انتقام من الدول الغربية بسبب العقوبات؟ وهل سنشهد نشوء مفهوم جديد في علم الاقتصاد السياسي من رحم الأزمة الأوكرانية اسمه (عسكرة إمدادات القمح)؟