قد يبدو هذا العنوان ملتبسًا أو غير واضح لأنه يشير إلى ثلاثة حراكات شعبية سياسية تحصل في الشمال السوري، سواء تلك التي نُظمت في إدلب أو تلك الناشئة في أرياف حلب، ولكل حراك منها أهدافه المختلفة وآليات عمله المختلفة. في الحقيقة، تقصّدت دمجها بهذه الطريقة العشوائية.
بدايةً؛ من الطبيعي والمنطقي والبديهي أن نكون مع أي حراك شعبي في الشمال لأن سلطات الأمر الواقع المتحكمة في جميع المفاصل لم تستطع تقديم نموذج حكم محلي يرضي الملايين الستة التي تقيم في المنطقة الممتدة من شرق حلب إلى تخوم محافظتي حماة واللاذقية.
الوضع الاقتصادي كارثي بسبب عدة عوامل، يأتي في مقدمتها تفشي الفساد وظهور طبقة أثرياء جدد معظمهم من قادة الفصائل أو من عوائلهم أو من واجهات صنعت لتدير هذه الأموال التي يجنيها قادة الفصائل من المعابر الرسمية وغير الرسمية، ومن فرض الإتاوات على الناس واحتكار استيراد وتصدير البضائع من وإلى المنطقة.
بدأت في مناطق سيطرة الجولاني قبل أشهر مظاهرات ضخمة وحاشدة أرعبت الجولاني وكتلته الصلبة، واستطاع بالكثير من القوة والقليل من المكر السياسي استيعاب الحراك ثم الالتفاف عليه وصولاً إلى إنهائه بشكل شبه كامل.
الوضع الأمني أيضًا كارثي، فلا قضاء ولا جهاز أمن مركزيا يحاسب، والأمور اليوم متروكة للمضافات وتبويس الشوارب عند كل مشكلة تحصل وهكذا منذ سنوات وحتى اليوم.
خدماتيًا، تعاني المنطقة ضعفاً كبيراً في البنية التحتية ومن عدم وجود مشاريع ضخمة تستوعب آلاف الشباب الباحثين عن فرصة عمل. أي إن كل عوامل التظاهر والاحتجاج متوفرة لأجل أن تكون هناك انتفاضة شعبية تصحح ما يمكن تصحيحه من الأوضاع الحالية.
بدأت في مناطق سيطرة الجولاني قبل أشهر مظاهرات ضخمة وحاشدة أرعبت الجولاني وكتلته الصلبة، واستطاع بالكثير من القوة والقليل من المكر السياسي استيعاب الحراك ثم الالتفاف عليه وصولاً إلى إنهائه بشكل شبه كامل. في ريف حلب الشمالي ظهر مؤخرًا حراك سياسي شعبي باسم "اعتصام الكرامة" الذي أطلق بداية شهر تموز الماضي.
يقول القائمون على اعتصام الكرامة إن لهم عدة مطالب أبرزها: تشكيل هيئة عليا لقيادة الثورة ينبثق عنها مجالس تتناسب مع متطلبات الثورة، مع العمل على إلغاء الائتلاف الوطني وجميع الهيئات والمؤسسات المنبثقة عنه من حكومة مؤقتة وهيئة التفاوض. وفي الآلية التي يريدون من خلالها تشكيل الهيئة العليا لقيادة الثورة، قالوا إنها عبر الانتخابات الحرة والنزيهة. عند النظر إلى مطالب القائمين على اعتصام الكرامة والتي نشرت في عدة بيانات لهم، نجد أنهم يريدون وبشكل حرفي تأسيس دولة، لأنهم ينسفون كل المؤسسات القائمة حاليًا ويريدون البدء من الصفر. حتى إنهم اعتمدوا نشيدًا وطنيًا وقاموا بتوجيه رسالة للأمين العام للأمم المتحدة يطالبونه من خلالها بوقف التعامل مع الائتلاف وهيئة التفاوض وأن يتعاملوا فقط مع الهيئة العليا المزمع انتخابها!
ضجيج الشعارات الرنانة والمصطلحات الثورية التي يستخدمها القائمون على اعتصام الكرامة بكثرة تخفي الكثير من العيوب والمآخذ على هذا الحراك. من جملة هذه المآخذ أنهم دخلوا في معارك صفرية مع الكيانات القائمة وهم ما زالوا في طور التشكل ويقفون على أرض هشة. الشعارات الجميلة والمطالب المحقة لا تنتج وحدها جسماً سياسياً لأن العمل السياسي يحتاج إلى عدة مقومات أهمها معرفة حجم وقوة وتأثير الكيان الوليد قبل الشروع برفع سقف المطالب وصولاً إلى احتكار التمثيل السياسي واحتكار السلطات التنفيذية الخدمية.
إجراء عملية انتخابية ليس بالأمر المستحيل شريطة أن يكون هناك إجماع من كل القوى بما فيها العسكرية على المشاركة ودعم هذه الانتخابات حتى يتم إجراؤها بظروف مناسبة وليحترم الجميع نتائجها
وإذا كنا متفقين على أن حصول انتخابات في الشمال أمر ضروري لأجل أن تختار الناس من يمثلها ويدافع عن حقوقها السياسية والخدمية، هناك سؤال مهم يجب الإجابة عليه قبل الشروع في أي عملية انتخابية: هل الوضع الأمني في الشمال مهيأ حوكمياً وأمنياً لإجراء انتخابات تنتج عنها هيئة عليا أو ما شابه تحل محل المؤسسات الحالية؟ لا أعتقد أن القائمين على اعتصام الكرامة يخفى عليهم صعوبة هذا الأمر نتيجة غياب الجهات القضائية والرقابية، ناهيك عن الوضع الأمني غير المستقر والتفجيرات التي تحصل كل فترة، مثال على انعدام البيئة الآمنة. لكن وبشكل عام، إجراء عملية انتخابية ليس بالأمر المستحيل شريطة أن يكون هناك إجماع من كل القوى بما فيها العسكرية على المشاركة ودعم هذه الانتخابات حتى يتم إجراؤها بظروف مناسبة وليحترم الجميع نتائجها، وحتى لا يخرج علينا في اليوم التالي عشرات المنشقين والرافضين لهذه العملية ويصدرون البيان تلو البيان، ثم نعود لنقطة البداية من جديد! وما حدث قبل أسبوع خير مثال حي على ما ذكر أعلاه، بعد أن قامت شخصيات بإعلان تشكيل "الهيئة الوطنية للشمال السوري المحرر"، وقالوا في بيانهم إنهم يدعون لمؤتمر شعبي ينبثق عنه هيئة وطنية تعيد هيكلة المؤسسات القائمة. لم يصدر بعد أي بيان آخر توضيحي عن أصحاب المبادرة يشرحون فيه الآلية التي سيتبعونها للوصول لهذا المؤتمر الشعبي ومن ثم تشكيل الهيئة التي ستدير وتمثل الشمال.
اليوم بات لدينا في مناطق سيطرة الحكومة المؤقتة والتي تتبع للائتلاف مبادرتان، وقد نشهد في الأيام القادمة ولادة كيان ثالث له ذات المطالب ويرفع ذات الشعارات. وحتى تتضح الأمور أكثر وتنضج هذه المبادرات، يجب علينا ألا نغفل الترهل والتكلس الذي أصاب الائتلاف وحكومته المؤقتة، وهناك ما يجب على الائتلاف القيام به وألا يبقى متفرجًا، وهذا ما سأعود إليه في مادتي القادمة.