في اليوم الأول للزلزال المدمر في 6 شباط 2023، اليوم الذي يؤرخ لواحدة من أقسى اللحظات، إحدى أصعب 65 ثانية، في التاريخ المعاصر لسوريا وتركيا، انطلقت بصحبة عدد من الزملاء الصحفيين من إسطنبول إلى أنطاكيا في أقصى الجنوب بطريق طويلة جداً استمرت الرحلة فيها 16 ساعة، تخللتها عاصفة ثلجية استمرت لساعات، وخوف من القادم المجهول، شيء يشبه الأفلام وخيالات الكتّاب الذين يجمعون الكوارث والمصائب والمفاجآت في وقت واحد.
لم يمر 24 ساعة تقريباً على الزلزال المدمر حتى وصلنا إلى مداخل ولاية هاتاي حيث ترى الشاخصات المرورية تشير إلى حلب واللاذقية وأنطاكيا، كان ميناء إسكندرون يشتعل والنار تتصاعد إلى قرب الغيم، حريق هائل بث في نفوسنا الرعب عن القادم. التقطنا بعض الصور والفيديوهات من السيارة وأكملنا الطريق.
العتمة في كل مكان والفجر يلوح برماديته شيئاً فشيئاً في أجواء باردة ساكنة بعد أمطار غزيرة وزلزالين مدمرين (الأول 7.7 درجات على مقياس ريختر والثاني 7.6 درجات) انطلقنا من مدينة كهرمان مرعش باتجاه 10 مدن تركية ومدن الشمال السوري.
مع دخول أنطاكيا بدأت تظهر الأبنية المدمرة، وجوهنا بدا عليها الذهول، رغم تغطية العديد منا لمناطق قصف وحروب ونكبات وزلزال من قبل لكن تبدو هذه المرة هي الأشد وطأة ودماراً.
عقدة الذنب
4 ساعات كاملة من فقدان التركيز على أشياء محددة، الدمار يحيط بنا من كل جانب، والعجز يسحبنا إلى أسفل وإلى أعلى، يميناً وشمالاً لا ندري ما يمكن أن نفعله.
سطعت الشمس عند السابعة والنصف وارتفعت درجة الحرارة إلى أربع أو خمس درجات، الناس في الطرقات، نزلنا من السيارة لمحنا رجلاً كبيراً بلا حذاء يرتديه بقدميه وأنت ترتدي بقدميك حذاءً. يجب أن تعطيه إياه، لكن لا يمكنك أن تفعل شيئا فلا تملك غيره. امرأة بثياب رقيقة بلا معطف في أجواء شديدة البرودة. يجب أن تعطيها معطفك، لكنك لا تعطيها إياه لأنك لا تملك غيره.
في تلك اللحظات ترتفع عقدة الذنب إلى أعلى درجاتها، وتصبح الدنيا أصغر مما يمكن توقعه في الوجدان، تحمر العيون وتبدأ العبرات تمشي إلى الوجنات.
كان تلفزيون سوريا أول وسيلة إعلامية تصل إلى أنطاكية، حتى أننا التقينا بالإعلامي التركي "مهمت عاكف أرسوي" العامل في "خبر تورك" -واحدة من أبرز القنوات التركية - وكان أول صحفي تركي بصحبة فريقه يصل للمنطقة من خارجها عند الساعة 12 ظهراً، بحسب قوله.
الناس أمام الأنقاض، كل المدينة أصبحت أنقاضاً وركاماً وقبوراً عائمة، والمساعدات لم تصل بعد. فرق الإنقاذ محلية وقليلة، والناس يبحثون عن الماء والطعام والدفء ولا يجدون شيئاً.
قرب ضفة نهر العاصي في أنطاكيا لا تجد بناءً جديداً كان أم قديماً نجا من كارثة الزلزال، معظم الأبنية تهدمت فوق رؤوس ساكنيها أو خرج سكانها منها بثياب نومهم مصابين أو أحياء فقدوا لون وجوههم من الرعب.
لا يمكن تخيل أن الأرض قد تنشق، ولكن فعلياً كانت الشقوق تثير الخوف لأنها كبيرة جداً وممتدة إلى الأبنية ما جعل إمكانية صمود الكثير منها مستحيلاً.
يوجد في هاتاي مئات آلاف السوريين معظمهم يقطنون في أبنية قديمة ورخيصة وغير آمنة، أصبحت الآن غالبا مدمرة، الفساد قتل المئات أيضاً في مجمعات تضم أبنية جديدة وتحصل منهم رسوماً شهرية لحمايتهم عبر أنظمة مراقبة وحراس، لكنهم ماتوا جميعاً أو بالمئات، لا أحد كان يعلم في تلك الأثناء كم منهم سينجو وكم سيموت؟
في الطرقات التي تعج بالناجين من الزلزال، تسمع النواح والبكاء والصراخ والغضب والانكسار، إعادة تعريف جماعي لليتم والثكل والابتلاء والمحن.
وفي خضم ذلك يبحث الناجون رجالاً ونساء وشباباً وأطفالاً عن أي مساعدة لإخراج ذويهم من تحت الأنقاض، أملا بأي إنسان يمر من أمامهم فيتعلقون به. كل ثانية لها فرق، الحياة تحت الهدم ليست كما فوقها، العتمة والوحشة والبرد والجوع ونقص الأوكسجين وانكسار الروح، في مقابل الإصرار على العيش ونفض الغبار والحفر بالأيدي والصراخ من عمق الأرض إلى غمام السماء.
تسمع أصوات الدعاء والحمد والإيمان والتسليم للخارجين من تحت الأنقاض، وتسأل الله "إيمان الناجين من الزلازل" وأن يكون مرهماً لجراحهم ودواء لأوجاعهم.
"معك سيجارة"
العشرات أوقفوني وسألوني عن سيجارة. أنا لا أدخن في الأساس وأدعو كل من أعرفهم ليتوقفوا عن حرقه في أفواههم وصدورهم. هناك بات الأمر مختلفاً. تمنيت لو كنت أدخن لأعطيهم ما أملكه من سجائر وأشعل لهم بيدي. نجوا من الزلزال أي مرض يأت به التدخين سيقتلهم الآن.
كان أحد الأصدقاء معه سجائر ذهبت إليه وأخذت منه بعضها مع "ولاعة" وتجولت لأعطي من يطلب مني سيجارة واحدة مع "تشعيلة"، بحثت جاهداً عن رجل حمصي طلب مني سيجارة فلم أجده، لو طلب مني أن أدخن معه لم أكن لأتردد آملاً سماع قصته في النجاة.
أمام أنقاض بيته، أخرجت فرق الإنقاذ لاجئاً سورياً من تحت الأنقاض دون ذويه بعد 28 ساعة، جلس أمام موقد نار أشعل من الورق والبلاستيك، الدخان الذي كان يخرج من النار لا يحتمل لدقائق، بقي يدخل عيونه وأنفه وحلقه دون أي حركة منه لساعات، تشعر أنه كان يريد أن يختنق ويلتحق بزوجه وأولاده.
تضاؤل الكرامة
تأخرت قوافل المساعدات بالوصول إلى أنطاكية حتى اليوم الثاني مساءً، لا يوجد أي شيء يؤكل، حتى إن إفراغ بعض اللصوص لجميع المحال التجارية حرم كثيرا من العائلات من الطعام وحليب الأطفال.
بقينا أكثر من 35 ساعة بدون طعام سوى بعض البسكويت. شعرت بالدوار، وألم شديد في الرأس، بعد عدة ساعات وصل رغيفا خبز من أحد الذين كنا نعمل معهم قادماً من أضنة، كان أطيب نصف رغيف ألتهمه في حياتي. كان شعور البقاء بدون طعام كل تلك المدة شعوراً بسيطاً قياسا بمن يعيش تحت الأنقاض لأيام طويلة دون ماء وطعام.
بعد ثلاثة أيام من الصبر بدون قضاء حاجة ومع انقطاع المياه والكهرباء، بحثت في أنطاكية جاهداً عن منزل متصدع بشكل قليل لأدخله وأقضي حاجتي، قد يكون الكلام عن هذا الأمر سخيفاً مقارنة بالموت. بحثت ولكن خشيت أن أتهم بالسرقة في حال دخلت أي بيت خصوصاً مع انتشار السرقات من قبل بعض العصابات التي ألقي القبض على العديد منها.
توجهت إلى النهر، ظننت أن الأمر سيكون سهلاً، كان الناس يقضون حوائجهم في البوادي والأماكن البعيدة، تفاجأت أن الناس بالعشرات قرب النهر يقضون حوائجهم، نوع من الكرامة الإنسانية يتضاءل في النفس، ورغم سخافة الأمر مقارنة بكل ما كان يجري، لم تكن النساء تجد مكاناً لقضاء حوائجها إلا ليلاً بدرجة حرارة لا تقل عن -3 تحت الصفر.
هل تعيدهم أحياءً؟
مهمة الصحفي في الكوارث والحروب ليست سهلة أبداً، لأن العواطف والمشاعر قد تمنعك من التحرك بشكل جيد، كانت هناك حالة إنقاذ فتاة أمام مبنى منهار مكون من ستة طوابق، وقفتُ بعيداً وفتحت كاميرا الهاتف وبدأت أصور، كانت أمها تبكي بحرقة وتنادي باسم ابنتها، بعد قليل اقتربت قليلاً فإذا بالسيدة تقول لي: "أنت تستغل حزني". أوقفت الزمن عندي، اعتذرت منها وحذفت الفيديو.
الصحفي يصور الكثير لكنه لا ينشر إلا القليل من الأشياء والمواقف، تلزمه أخلاقيات المهنة وسياسة تحرير الوسيلة وضميره.
لا يمكن ذكر كل التفاصيل التي مرت معنا في الأيام الأولى للزلزال، كتبت العديد من التقارير على هاتفي نقلاً من الميدان أو باستذكار مسائي للحدث والمقابلات في النهار، وصورت العديد من القصص ثم عدت إلى إسطنبول بحالة إيمانية عالية وخوف وكوابيس تعيدني إلى هناك رغماً عني.
في حي خير الله بكهرمان مرعش مررت بأحد المحال التجارية الذي فتح لأول مرة يبيع الخبز، سألت البائع السوري عن السعر قال: عن روح والدي ووالدتي تحت الأنقاض، في موقف مثل هذا يتلعثم الإنسان حتى لو كان متحدثاً بارعاً، القصة لم تتوقف عند الأب والأم بل عد 17 شخصاً قضوا تحت الأنقاض من عائلته من الدرجة الأولى بينهم أبناؤه وإخوته.
قلت هل تريد أن تحكي قصتك للعالم؟ قال لي "هل تستطيع أن تعيدهم أحياء؟" استحييت منه واعتذرت، أخبرته أن الأمر ليساعدوا الناس، فبعد أسبوع يُنسى الزلزال وتصبح المساعدات شحيحة، قال: "من مات لا يحتاج المساعدة". اعتذرت مجدداً وغادرت وتمنيت أنني لم أولد بتلك اللحظة، موقف أكبر مني.
أهل كرم
في هاتاي ومرعش وعنتاب وغيرها من المدن لا تبحث عن السوريين تراهم قرب بيوتهم يزيحون ركامها، يساعدون بكل ما أوتوا من قوة وعزيمة، أهل كرم يقدمون كل ما لديهم لضيوفهم ويمدون يد العون للتركي قبل العربي.
أنقذوا عشرات الآلاف من الأشخاص وساهموا في رفع الأنقاض وتوزيع الطعام، لم يسرقوا ولم ينهبوا البيوت وإن حدثت فهي حالات فردية مستهجنة.
عدت من رحلة استمرت لعشرة أيام تقريباً مثقلاً بالزمن، أحمل على عاتقي أمانة الكلمة، والكثير الكثير من القصص المفزعة، وحكايات المؤمنين بقدرة الله في نجاتهم، وإيمان المكروبين والمنكوبين، وعزيمة الخارجين من تحت الهدم.
كنت شاهداً على عمليات الإنقاذ وشممت رائحة الموت والموتى بقرب الأنقاض صورت مقاطع قلت فيها أشم الرائحة لكنني لم أنشرها، أخرجوا من قلب الأبنية المنهارة أجساداً حية وميتة، حضرت تكبيراتهم وسعادتهم، وشعرت بآلامهم وأحزانهم، إيقاف الأصوات إن سمعوا صوتاً من تحت الأنقاض، بكاء الأمهات، دموع الآباء، صراخ الأطفال، همة الشباب، آلاف سيارات الإسعاف، تشارك الألم بين الناس.
رأيت قلة ذوق المسؤولين وانعدام أخلاق الكثير من المعارضين، تصريحاتهم المؤذية فوق أنقاض الناس وأحلامهم، وكان القلب يخفق لزيارة إلى سوريا ولكن حالت الظروف القاسية والحدود التي لا تؤمن بها الزلازل بيننا.