جثا الزميل الصحفي وائل الدحدوح على ركبتيه مودعاً جثمان ابنه محمود قائلاً بصوت مخنوق: "بنتقموا منا بالولاد، معلش".
بقي وائل الدحدوح سالماً لكن ما فقده كان ثقيلاً، قتل الاحتلال الإسرائيلي زوجته وابنه وابنته وحفيده في ضربة واحدة، انتقاماً من صوته الذي ينقل به صوت الناس إلى العالم، لكن هل من مجيب؟
سبق أن قال شاعر درعا واثق الصمادي قصيدته الشهيرة:
"معليش درعا معليش ... لا تسيل من عيونك دمعة
معليش درعا معليش ... لا يهمك بشّار وربعه
خلّه يسجن خلّه يعذّب خلّه يقتل، خلّه يضرب
خلّه يحاصرنا بالجيش .. بولادك بتضلّي قلعة".
وها هو وائل الدحدوح يعيدها في واحدة من أقسى آلامه، دم واحد وتراب واحد وقضية واحدة.
كثيرة هي الشاشات التي تبث ما يجري في غزة، في كل البيوت التي تتابع ما يجري في غزة، يقلبون الصورة من قناة إلى أخرى لكنهم يعودون لسماعه.
وائل الدحدوح، أحد أبرز النجوم في الإعلام العربي، إن فتحت الشاشة في الصباح وفي الظهر وفي العصر وفي المساء وفي منتصف الليل، وائل يمسك "الميكرفون" وينقل الحدث ويخبرنا عن غزة، عن شمالها وجنوبها، عن جباليا والشجاعية ومخيم النصيرات وحي الرمال وحي التفاح، عن مشافيها، القدس والشفاء والمعمداني والكويتي، وعن كل تفصيل، عن كل جرح، عن الآلام والصرخات.
يقف وحوله الأنقاض، مرتدياً زي الصحافة الحربية، تاركاً الصورة تحكي ثم يعلق مشاركاً بانسيابية ابن الحدث الذي خبر المعارك كلها وفهم القضية الفلسطينية وتضحيات أبنائها في معارك 2008 و2012 و2014 و2021، والآن في طوفان الأقصى.
كيف يرتاح؟
قبل أسبوع قلت لزوجتي وأنا أتابع مجزرة المعمداني التي ارتكبها الاحتلال بحق الأطفال ومشغول في التغطية الإخبارية على "كنبة" مريحة من بيتي البعيد عن غزة: "ألم يتعب وائل الدحدوح من التغطية؟ كيف يرتاح وهو يواصل الليل والنهار في قصف هستيري مستمر لم يتوقف؟ أين عائلته وأولاده. إن شاء الله يكونوا طلعوا من غزة؟".
جاء الجواب من غزة يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر في عاجل أحمر دامٍ كمضمونه، استشهاد عدد من أفراد عائلة الزميل مراسل الجزيرة وائل الدحدوح في قصف استهدف مكان إيوائهم في مخيم النصيرات.
لا يمكن لهذا الخبر أن يكون عادياً، لا شك أن كل شهيد يرتقي في غزة هو جزء منا نبكيه، يمسنا الحزن والأسى والغضب وانقطاع الجدوى من فعل أي شيء. لكن مصيبة وائل، ومقتل جزء من عائلته مسنا في الصميم بشكل أكبر لأننا نشعر أننا نعرفه شخصياً، واحد من أفراد العائلة، لكل منا قصته الشخصية معه، تقاريره وإطلالاته جزء من ذاكرتنا الدامية، صوته واختناق العبرات ودموعه حين الفقد.
رافقنا وائل منذ سنوات طويلة على الشاشة، في سهراتنا الآمنة عام 2008 ونحن نتابع الثواني في أول حرب تشنها إسرائيل على القطاع بعد حصاره والاغتيالات التي نفذتها فيه.
رافقنا ونحن نتابع ولو يسيراً بعد الاختباء من المظاهرات بالثورة السورية في حرب عام 2012، وفي خضم كل معاركنا وانتصاراتنا وهزائمنا فيما بعد.
كل تلك المشاهد شكلت صلة قربى معه، أحببناه كصحفيين زملاء، لم يكن صحفياً ينتمي لفضائنا الواسع الذي يزدحم بالظلم، إلا وتمنى لو كان مع وائل بالأمس يعانقه ليدعه يبكي طويلاً. لا يوجد محب لفلسطين ولغزة ولقضيتنا العظيمة تلك إلا وتمنى لو كان حاضراً يصلي على الشهداء جميعاً بمن فيهم عائلة وائل مكبراً ومهللاً، داعياً ومؤمِناً.
"فليخسأ جيش الاحتلال"
تلقى وائل الخبر وهو بزيه الصحفي، وذهب إلى المستشفى مصدوماً باكياً، مثل كل إنسان رقيق، قتلت عائلته فقط لأنه صوت مرتفع ارتفاع السماء، مصدر إزعاج لإسرائيل، صوت المظلومين والمستضعفين، ولكن العالم لا يريد أن يسمع، والغالب أنه مستمتع بتلك المقتلة العظيمة.
وفي أول تعليق له على المجزرة التي استهدفت عائلته قال: "من الواضح أن مسلسل استهداف الأطفال والنساء والمدنيين مستمر، وكنت تحدثت عن غارات الاحتلال الإسرائيلي التي استهدفت كل المناطق، بما فيها منطقة النصيرات، وكانت تراودنا بعض الشكوك بأن الاحتلال الإسرائيلي لن يترك هؤلاء دون عقاب، ومع الأسف هذا الذي حدث، وهذه هي المنطقة التي قال عنها الاحتلال (الأخلاقي) إنها آمنة".
وأضاف: "القصف الإسرائيلي استهدف عائلتي في منطقة بعيدة عن شمال غزة الذي طلب جيش الاحتلال إخلاءه". مؤكداً "ينتقمون منا بالأولاد، دموعنا دموع إنسانية، وليست دموع جبن وانهيار، فليخسأ جيش الاحتلال وليخسأ نتنياهو".
أن تكون مراسل حرب في غزة
لا يعرف شعور المراسل الحربي إلا من يعيش لحظات نقل الصورة كما هي إلى العالم، نقل هم وحزن الأب الذي فقد ابنه، والأم الثكلى، والأطفال اليتامى، صمت الأشلاء وهي ملقاة بكل مكان، أنين الجرحى والمصابين، جنون الناس أمام هول ما يجري، لحظات التعب التي يعيشها كل من يراهم.
وفوق كل ذلك يُطلب من المراسل أن يحافظ على رباطة جأشه وعزيمته فينقل الحدث دون دموعٍ غالبة حتى يبقى على موضوعيته وحياده، وإن بمعركة تمسه شخصياً وتخص مستقبل بلده وأهله وجيرانه وأصدقائه.
والمختلف في حالة وائل الدحدوح أنه مراسل حربي في قطاع غزة المحاصر منذ عام 2005، والذي لم يغادره إلا مرات قليلة وبالغالب في مهمات عمل.
مشهد لا يُنسى
"بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب لا مالي ولا ولادي على حبك ما في حبيب" بصوت وائل الدحدوح وعدد من أفراد العائلة على الجزيرة الوثائقية.
كتب وائل اسم فلسطين قرب الشمس، وحقق كلمات نغنيها كل حين وفي كل مكان دون أن نظن أن يكون المال والعيال فداء لذلك الوطن، يحدث ذلك كل يوم مع المئات في فلسطين منذ نحو قرن وفي جارتها سوريا منذ 12 سنة.
وها هي شمس المظلومين تغيب ونار الظالمين تستعر، ولكنها صولة من صولات الباطل ولا بد للحق من صولة يوماً ما.
أخيراً.. من هو وائل الدحدوح؟
تعالوا نتعرف إلى وائل أكثر، ولد وائل الدحدوح عام 1970 في حي الزيتون أحد أقدم أحياء مدينة غزة، وعندما شب وحصل على الثانوية العامة عام 1988 اعتقله الاحتلال 7 أعوام، ثم حصل على بكالوريوس في الصحافة والإعلام من الجامعة الإسلامية في غزة عام 1998، بعد أن منعه الاحتلال من السفر للدراسة في الخارج. وحصل على درجة الماجستير في الدراسات الإقليمية من جامعة "القدس - أبو ديس" عام 2007.
بدأ وائل عمله في الصحافة عام 1998، وكان من بين الصحفيين القلة في غزة، ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 بدأ اهتمام وسائل الإعلام العربية والأجنبية بأحداث الانتفاضة، وأنشئت مكاتب إعلامية في القطاع.
عمل الدحدوح في صحيفة القدس الفلسطينية مراسلاً في غزة، وكتب في مجلات فلسطينية أخرى، ثم عمل مراسلًا لصوت فلسطين من العاصمة الإيرانيّة طهران، وكذلك لقناة سحر الفضائية مع بداية انتفاضة الأقصى عام 2000.
ومع افتتاح قناة العربية عام 2003 عمل معها مراسلاً، ثم، بدأت مسيرته مع قناة الجزيرة مراسلاً لقطاع غزة عام 2004، ثم مديراً لمكتبها الذي يعد من أكثر مكاتب الجزيرة تعرضها للتهديد بالقصف أو القصف والإخراج الكامل عن الخدمة.
برز اسمه من خلال نجاحه في تغطية الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للقطاع، ومتابعة عمليات اغتيال إسرائيل للشخصيات الفلسطينية البارزة وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين وقادة عسكريين من الأذرع العسكرية الفلسطينية من بينهم شقيقه وعدد كبير من أقاربه.
غطَّى إلى جانب رفاقه تداعيات الانقسام الفلسطيني الداخلي، كما كانت له بصمة في تغطيات الأحداث عبر شاشة قناة الجزيرة، من بينها الحصار الإسرائيلي المستمر على القطاع وتأثيره على الجوانب الحياتية للناس، والقوافل التضامنية البحرية والبرية وما تبعها من هدم واقتحام للحدود المصرية مع القطاع، ولقائه الشهير آنذاك بزميله من القاهرة سمير عمر في ختام تقرير مشترك.
نجح الدحدوح في قيادة فريق الجزيرة خلال تغطية الحرب الإسرائيلية الأولى على قطاع غزة كأولى التجارب الإعلامية الحربية عام 2008-2009 وما بعدها، وكذلك خلال الحرب الثانية عام 2012. لكن التغطية الأكثر تعقيدًا كانت في الحرب الثالثة عام 2014 التي استمرَّت 51 يوماً وما بعدها من حلقات سميت بـ "غزة تنتصر"، وغيرها الكثير.