ما اختبره السوريون وما اختبره وفهمه الشعب الأوكراني في الحرب بدأ الغرب في فهمه الآن فقط.!
إن الوعي البشري والوعي الاجتماعي يعمل بطريقة تجعل الفهم المجرد الناجم عن عمل المحللين السياسيين غيرَ محفز على التحرك والمبادرة. ما يقع خارج نطاق التجربة العملية لا تدركه الحواس ولا يحث على القيام بأفعال عملية وحاسمة.
توقعت مراكز التفكير العالمية الرائدة، بما في ذلك مؤسسة الأبحاث والتطوير RAND Corporation المشهورة عالمياً، أن روسيا ستنتصر في غضون 72 ساعة من بداية شن الحرب على أوكرانيا، وبالتالي تزويد أوكرانيا بالأسلحة لم يكن أمراً معقولاً. لكن الأمر اختلف تماماً. لقد انقضى شهر ونصف من الحرب ولم تحصل روسيا على أي ميزة تكتيكية، ناهيك بميزة استراتيجية. علاوة على ذلك، مُني " ثاني أكبر جيش" في العالم بهزيمة ساحقة بالقرب من كييف وتشرنيغوف وسومي. وسارعت القوات الروسية إلى الانسحاب من دون أن تتمكن حتى من "إخفاء آثار" سيطرتها على تلك المناطق. وعقب انسحابها ظهرت الحقيقة أمام العالم. الحقيقة المرة!
ما تركه الجنود الروس هز العالم كله دون مبالغة. مئات القتلى والمعذبين من الرجال والنساء والأطفال؛ حالات اغتصاب ليس للشابات فقط بل حتى النساء المسنات والأطفال! أصبحت فظائع المحتلين نقطة تشعب للوعي العام في الغرب مستبدلة الشعور بـ "القلق العميق" والتعاطف بالشعور بالغضب والعزم والتصميم.
روسيا ليست جزءاً من الحضارة العالمية، وإنها دولة شمولية تجسد ألمانيا النازية وشعبها مغسول الأدمغة بالدعاية الروسية
كان الإنسان في قلب قيم العالم الغربي، والإنسانية هي أساس الحضارة الحديثة. كانت مشكلة الوعي العام للعالم المتحضر، كما اتضح فيما بعد، تكمن في أن العالم الغربي يصور كل ما يحدث حوله من داخله معتقداً أن حياة المرء في روسيا تعتبر قيمة أساسية مثلما تكون قيمة أساسية في الحضارة الغربية الحديثة. ولكن الحقيقة المرة لما رآه أدت إلى استنتاج لا جدال فيه وهو أن روسيا ليست جزءاً من الحضارة العالمية، وأنها دولة شمولية تجسد ألمانيا النازية، وشعبها مغسول الأدمغة بالدعاية الروسية.
حقيقة فإن الاستيقاظ المتأخر للمجتمع الغربي يعود إلى النخب السياسية التي كان هدفها الوحيد هو الحصول على الدعم الانتخابي بأي ثمن. كانت جميع الجهود التي بذلتها الحكومات الأوروبية رامية إلى تحسين الرفاهية المادية للناخبين المحتملين بكل طريقة ممكنة، والتلاعب بالشعارات الديمقراطية، وترويج السلمية التي لا أساس لها، وتقليل الإنفاق على الأمن والدفاع، في حين قام الوحش الرهيب في الشرق ووقف على رجليه.
لقد استيقظ الغرب! استيقظ أخيراً! أصبحت زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل لمدينة بوتشا التي مُسحت تقريبا عن وجه الأرض حيث رأيَا بأمّ أعينهما مئات الجثث، نقطةَ التغيير لموقف الغرب تجاه روسيا الاتحادية وفهمه لدور أوكرانيا في التاريخ الحديث باعتبارها ركيزة للحضارة العالمية.
بدأ كبار السياسيين الأوروبيين يدركون -بعضهم بصورة أسرع وبعضهم بصعوبة مثل رئيسي المجر وصربيا– ماهية روسيا. والآن، حتى الساسة الموالون لروسيا مثل مارين لوبان وسيلفيو برلسكوني دانوا جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الروسي في أوكرانيا. ونتمنى أنه حتى مستشار جمهورية ألمانيا الاتحادية أولاف شولتز الذي ألقى اللوم على بوتين حصراً داعياً إلى احترام الشعب الروسي سيدرك أخيراً أن الأمر لا يتعلق ببوتين فقط لأن الضباط والجنود الروس هم الذين قتلوا كبار السن والأطفال واغتصبوا النساء. على من يقع اللوم عما حدث لروسيا الحديثة؟ هذا سؤال لا بد لعلماء السياسة والمؤرخين الجواب عنه.
تولى بوتين زمام الحكم عام 2000. أما اغتصاب ومقتل النساء والأطفال في ألمانيا فقام به الجنود العاديون السوفييت عام 1945. ونجد أدلة موثقة على ذلك في مذكرات الكاتب الروسي، ليونيد رابيتشيف. ولذا تطرح الأسئلة: "كيف ظهر وحش رهيب بجانب أوروبا المتحضرة؟ وكيف تم تسليح "ثاني أكبر جيش"؟ وكيف أفسدت الدعاية التلفزيونية الشعب الروسي إلى درجة الحالة الوحشية؟ للأسف الشديد لا تزال هذه الأسئلة قائمة.
حالياً لم تعد مسألة الأسلحة التي يمكن توريدها إلى أوكرانيا والتي لا يمكن توريدها إليها قيد البحث لكل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.
لو هُزمت أوكرانيا في غضون ثلاثة أو أربعة أيام، كما خططت له روسيا، لكانت دول أعضاء الناتو، بالدرجة الأولى دول البلطيق وبولندا، التالية على اللائحة في المستقبل القريب
فقد أدرك الغرب أن روسيا لا تجري "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا، لكنها تجري بروفا على عمليات كثيرة و"نزع السلاح" في أوروبا، وهو ما تعلنه صراحة في عقيدتها العسكرية. تحركت روسيا ببطء ولكن بثبات نحو هدفها موسعة نطاق عدوانها تدريجياً ابتداء من جورجيا عام 2008 ومروراً بشبه جزيرة القرم ودونباس عام 2014 وسوريا عام 2015 وصولاً إلى الغزو الشامل لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022.
لو هُزمت أوكرانيا في غضون ثلاثة أو أربعة أيام، كما خططت له روسيا، لكانت دول أعضاء الناتو، بالدرجة الأولى دول البلطيق وبولندا، التالية على اللائحة في المستقبل القريب. ولا يزال هناك متشككون في دوائر الخبراء الأميركية والأوروبية الذين لا يستطيعون تصديق تحقق مثل هذا السيناريو، مثلما لم يصدقوا أنه في القرن الحادي والعشرين يمكن للجنود الروس اغتصاب وقتل النساء والأطفال.
واليوم يجد النظام العالمي نفسه بين اثنتين: "إما الآن وإما أبداً". يجب إلحاق الهزيمة النهائية بالمعتدي في أوكرانيا والآن. إن روسيا هي التي يجب نزع سلاحها واجتثاث النازية فيها بطريقة لا يمكنها أبداً أن تهدد مرة أخرى أي دولة في العالم. لا ينبغي أن تذهب آلام ضحايا النازية الروسية ومعاناتهم سدى.