هنا سوريا. كل الرؤوس تعبر الشارع قبل الأفكار التي تحملها، وتبقى الأفكار على الضفة الأخرى لمستنقع الوقت، إلّا رأسي، فقد سبقته أفكاره، وأنا أتابع شريط الأخبار العاجلة، على شاشة إحدى القنوات الفضائية، قبل أن يغيّر نادل المقهى القناة، بحثا عن قنوات الأغاني، ليوفر للزبائن طقسا يليق براحتهم، وهم يحتسون قهوة الصباح. .
"غارة جوية على بلدة العين، في قضاء بعلبك، تسفر عن مقتل أحد عشر شخصا، بينهم تسعة سوريين من عائلة واحدة"، بتلك البساطة يمر الخبر في الشريط العاجل، قبل أن تختفي القناة، وشريط الأخبار، وتحتل الشاشة ابتسامة إحدى المطربات، في خيانة واضحة لناموس الحياة.
أنا ما زلت هناك، فشريط الأخبار الغائب- الحاضر، ما زال ماثلا أمام عين خيالي. "غارة جوية على بلدة العين، في قضاء بعلبك، تسفر عن مقتل أحد عشر شخصا، بينهم تسعة سوريين من عائلة واحدة"، والنادل يقف إلى جانبي، وبيده دفتره الصغير، وقلمه متأهب لتسجيل طلباتي.
***
إلى الطاولة المجاورة يجلس رجل مثقل بأناقته، يضع ساقا فوق أخرى. يرمي الموبايل "بنزق" أمامه فوق الطاولة، يأخذ رشفة من فنجان قهوته، ويقول متأففا: "بالناقص، يموتوا، وين المشكلة؟". لم يكن يخاطب أحدا بعينه، كان يخاطب كل من يسمعه.
"وين المشكلة"، يصفعني ذلك التساؤل الوقح. فأتذكر حمزة البسيوني، مدير سجن (أبو زعبل). إذا مات أحد السجناء تحت التعذيب، كان البسيوني يقول لزبانيته: "لفوه ببطانية، وارموه بصحراء العباسية، بس أوعى تنسوا البطانية، لأنها عهده".
"غارة جوية على بلدة العين، في قضاء بعلبك، تسفر عن مقتل أحد عشر شخصا، بينهم تسعة سوريين من عائلة واحدة"، وين المشكلة؟ المشكلة أن الطبيعة البشرية لا تتحدد بوصفها طبيعة أنطولوجية وحسب، بل من خلال علاقتها بالقيم أيضا. ولذلك يقول نيلسون مانديلا: ليس حرا من يهان أمامه إنسان، ولا يشعر بالإهانة.
المشكلة أن ملامسة الحد الفاصل بين الغصة والدمعة تحتاج إلى مجازات لغوية لا تعرفها وكالات الأنباء، والحيل البلاغية لم تعد مجدية لمراوغة الفجيعة.
المشكلة أن أسوأ الجرائم هي جريمة قتل الأمل في قلوب المحتاجين إليه. المشكلة أن فيلسوفا مرموقا يدعى إيمانويل كانط، قال ذات يوم من أيام القرن الثامن العشر: "إن توقفت سعادة البشرية على قتل طفل واحد، فإن قتل ذلك الطفل عمل غير أخلاقي". ونحن آمنا بذلك، وصدقناه.
***
قرأت ذات يوم أن الأسماء هي التي تأوي إلى البيت في نهاية المطاف. تخيلوا بيتا لا تأوي إليه أسماء تسعة من أفراده، ما الذي يبقى منه؟ وما الذي يبقى في حياتنا من قيم الخير والحب والجمال، إذا تقبلنا تبرير تلك المقتلة؟
يقول محمد العبد الله في إحدى مقالاته: "رائحة الطبخ الآتية من المطبخ، هي إعلان عن وصول، وصول إلى حيث ينبغي، إلى البيت".
محمد العبد الله لا يعرف ولائم السوريين، لا يعرف" الذبح والسلخ"، الذي تقتضيه مناسباتنا التي لم تتوقف منذ عام 2011، لا يعرف أن مطابخنا صغيرة، وولائمنا كبيرة، لذلك ترانا نولم الولائم في الفضاء الرحب، في الشوارع حيث يلعب الأطفال كرة القدم، أمام ما تبقى من مداخل العمارات، وغالبا تراهم يتحولون إلى جزء من الوليمة.
وحين تضيق علينا الأمكنة، نولم في الدول المجاورة، في بلدة "العين" من قضاء "بعلبك" مثلا.
" وين المشكلة"؟ تساؤل شديد الإيجاز، والوقاحة. لا يمكن أن تستعمله امرأة فقدت قلم الروج من حقيبة يدها.
هنا سوريا. حيث رفعت حالة الجاهزية في كل المنشآت الصحية والنقاط الطبية على المعابر الحدودية، لاستقبال الأشقاء اللبنانيين، وتقديم الخدمات اللازمة لهم، وهناك في قضاء بعلبك منع السوريين من دخول المدارس التي فتحت للاجئين اللبنانيين، كما تم منعهم من دخول بلدة "عرسال".
هنا سوريا، حيث الطلاب ينتظرون بفارغ الصبر نتائج المفاضلات الجامعية، سوريا هناك أيضا، حيث نجح تسعة أشخاص، وصعدت أرواحهم إلى السماء.
فهل هناك خطأ في تصحيح أوراق الامتحانات هنا، أو هناك؟ لا يمكن. فلجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة، والمكونة من 196 بلدا، تتابع، وتراقب، وترفع تقاريرها الدورية. وخاصة بالنسبة لبلد مثل سوريا، التي تتصدر بلدان العالم بعدد الولائم!
أما رواد المقهى -وأنا منهم- أقصد نحن الباقين على قيد الذل، سنستأنف صمتنا، ونغلف خوفنا باهتمامات أخرى، ونلوذ بالحديث عن الغلاء الفاجر، ومشاكلنا العائلية، ونتحسب الله في غربتنا، واغترابنا.
"متنا" ولم نعو احتجاجا، ليتنا كنا على "الموت" الملم كلابا