يمكن اعتبار وليد معماري (1941-2021)، الآن، بعد أحد عشر عاماً من انطلاق الثورة، شخصية إشكالية. وعلى الرغم من أنه صديقي، وبيننا كثير من الخبز والملح، وأحبه، سأحاول أن أقول، في هذه المقالة، ما له وما عليه.
مسيحي، يحمل اسم وليد، زوجته أمينة، أخوه مفيد.. هذه التسميات الغريبة لم تأت اعتباطاً، وإنما هي ابنة الضرورة، ففي تلك الأزمنة القديمة، كان الاسم المسيحي يثير حساسيةَ بعض الناس ورجال الدين، ويخلق لحامله مشكلات هو في غنى عنها..
هناك، دائماً، أناس يتعاملون مع مثل هذه الحالة خطابياً، فيستحضرون شعار "المصالحة الوطنية" (وتبويس الشوارب على المسك)، ويقولون بصوت متهدج، إن مسيحيي دير عطية - أيها الإخوة المواطنون - كانوا يسمون أبناءهم وبناتهم بأسماء المسلمين، من باب المحبة والتضامن، تعبيراً عن اللُحمة الوطنية التي تظهر في أبهى تجلياتها في قول القائد العربي الكبير.. وتضج القاعة بالتصفيق، ويقوم أحد النبيحة ويصيح: بالروح بالدم نفديك يا حافظ.. مع أن علاقة حافظ الأسد ووريثه بهذا الشأن جد واهية.
المواطن، في ظل الأنظمة الاستبدادية، منكوبٌ حتى باسمه. هذا استنتاج توصلت إليه، أنا محسوبكم، بعد طول تأمل في طبيعة بلادنا المستباحة وشعوبنا الغلبانة.. وَلَكَ أن تتخيل كيف انعكست الآية لاحقاً؛ فأصبح إبراز الاسم المسيحي في سوريا، ابتداء من الثمانينيات، ضرورياً لتلافي الاعتقال العشوائي بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، وهي تهمة حكمُها بسيط للغاية: إعدام! (بموجب القانون 49 لعام 1980).
وليد معماري يلقب بـ "أبو خالد"، وهذه التسمية لا علاقة لها بخالد بن الوليد، بل بخالد بكداش. وللعلم فإن عدداً لا يستهان به من الشيوعيين السوريين أطلقوا على أبنائهم اسم خالد، للسبب ذاته
مثال: كان معنا، في الدورة العسكرية (كلية المدرعات بحمص)، "حسني عابو" الذي تبين لاحقاً أنه ينتمي إلى "حزب الطليعة المقاتلة"، وأنه أحد منفذي مذبحة مدرسة المدفعية بحلب مع النقيب إبراهيم اليوسف أواخر سنة 1979. بعد زمن ليس بالطويل، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على حسني، ووجدوا في دفتر هواتفه أرقام بعض الزملاء الذين كانوا معنا في المهجع، فاعتقلوهم جميعاً، ونقعوهم في أحد الأقبية أربعة أشهر، بنهاراتها ولياليها، حتى جاء دورهم بالتحقيق، ووقتها تبين لهم وجود شاب مسيحي اسمه "خليل"، اعتقلوه لأن اسمه يوحي بأنه مسلم.
وليد معماري يلقب بـ "أبو خالد"، وهذه التسمية لا علاقة لها بخالد بن الوليد، بل بخالد بكداش. وللعلم فإن عدداً لا يستهان به من الشيوعيين السوريين أطلقوا على أبنائهم اسم خالد، للسبب ذاته، وأظن أن بعضهم ندموا على ذلك بعدما انشق الحزب وذهبوا إلى الضفة الأخرى، وصار الشيوعي الذي بقي مع خالد بكداش يقال عنه، بشيء من الاستخفاف: بكداشي.. ووليد معماري، على الرغم من الميول الديمقراطية التي كانت تظهر في كتاباته، بل وفي سلوكه مع أسرته وأصدقائه، بقي بكداشياً حتى آخر يوم في حياته، وهذا ما كان بعضُ أصدقائه ومعارفه يعتبرونه أمراً غريباً، غرابته تتجلى في كون البكداشي ستالينياً من جهة التفكير، بالإضافة إلى التصاق جناح خالد بكداش وأسرته الحاكمة بسلطة حافظ الأسد ووريثه، ابتداء من أوائل التسعينيات حينما قالت وصال فرحة في حافظ الأسد أكثر مما قال صباح فخري في "خمرة الحب".. وهناك نص كتبه وليد معماري في سنة 2014 يتضمن مديحاً غير مسبوق، وغير متوقع منه، لبشار الأسد، على الرغم من أن مجازر بشار بحق المدنيين السوريين لم تكن مستترة ولا خافية..
كنا نتمنى، نحن محبي وليد معماري لو أنه بقي صامتاً.
مديحه بشاراً سنة 2014 لم يكن اضطرارياً، فهو مكتوب بلغة وليد معماري الأدبية رفيعة المستوى، بمعنى أنه كان يعلن موقفه جهاراً مع بشار، ضد الثورة
هناك معضلة يعرفها الصحفيون السوريون الموظفون في مؤسسات إعلامية، وعانوا منها، جميعهم دون استثناء، وهي أن مديح حافظ الأسد في المناسبات القومية أصبح، ابتداء من تولي أحمد إسكندر أحمد حقيبة وزارة الإعلام، إجبارياً، وكان الهاجس المشترك بينهم هو تمضية وقت المناسبة بالتهرب من مديحه، لأنه أمر غير لائق، وكان وليد يضطر في بعض الأحيان للمديح، على مضض، لأن الأن عدداً كبيراً من أحرار الفكر والثقافة، وبضمنهم شقيقه "مفيد"، كان يجري التنكيل بهم في معتقلات حافظ الأسد على قدم وساق. ولكن مديحه بشاراً سنة 2014 لم يكن اضطرارياً، فهو مكتوب بلغة وليد معماري الأدبية رفيعة المستوى، بمعنى أنه كان يعلن موقفه جهاراً مع بشار، ضد الثورة، وبرأيي، أنه بشكل ما، ضد الشعب.
عرف وليد معماري بكونه صحفياً لامعاً، من خلال زاوية قوس قزح، مع أنه، في الأساس، أديب، كاتب قصة قصيرة. هذه الازدواجية؛ هي الأخرى وليدة النظام الديكتاتوري.
لا تسمح الأنظمة الديكتاتورية، في أي بلد كان، بظهور صحفيين كبار، لسببين رئيسيين، أولهما غياب أوكسجين الحرية، وثانيهما أن تلك السلطات تحاول الإقلال من شأن الجميع ليبقى اسم رئيس السلطة، القائدِ المفدى، بارزاً. من هنا يمكننا القول إن الأدباء السوريين هم الذين لمعوا في الصحافة منذ السبعينيات. زكريا تامر وغسان الرفاعي وحسيب كيالي ومحمد عمران وممدوح عدوان وعبد النبي حجازي ووليد إخلاصي وصدقي إسماعيل وعادل أبو شنب ومحمد الماغوط ونصر الدين البحرة وشوقي بغدادي، وفي الجيل اللاحق وليد معماري وحسن م يوسف وحسان عزت وأحمد يوسف داود، وفي هذه الأثناء أصبح لدينا كلية للصحافة، وخريجون، وتميز بعضهم بلا شك، ولكن الأساس وضعه الأدباء..
كان إحداث زاوية قوس قزح في جريدة تشرين أمراً غريباً على الصحافة السورية التي تنتهج المديح والتمجيد، وتمنع النقد العادي إلى درجة التحريم، فما بالك بالانتقاد الساخر الهزلي؟ ولكن، وبغض النظر عن أسباب ذلك، وقد يكون (التنفيس) من ضمنها، أقول إن محتوى قوس قزح الذي كان يتناوب على كتابها وليد، وحسن م، وتميم دعبول، لم يكن مهماً بحد ذاته، فهو لم يتعد انتقاد طبقة البرجوازية الطفيلية وأخطاء مؤسسات القطاع العام، الأهم هو الفكرة التي انتقلت، فيما بعد، إلى البعث والثورة، بمعنى أنها أصبحت تقليداً صحفياً، وارتبطت باسم وليد معماري بالطبع.
هنا نصل إلى فكرة قد تكون مهمة. هي أن وليد معماري عُرف من خلال قوس قزح، ومن خلال البرنامج الإذاعي "عطيني إدنك" الذي قدمه ناجي جبر، فاهتم به القراء، وصاروا يقرؤون كتبه الأدبية. واكتشفوا أنه من أهم كتاب القصة القصيرة في سوريا.
أخيراً لا نمتلك إجابته الآن: يا ترى، هل يستطيع الناس التغاضي عن موقف وليد معماري (البكداشي) من استبداد الأسد، ويتعاملون مع شخصيته الإنسانية الطيبة الراقية، ويقرؤون مؤلفاته الأدبية الجميلة بتجرد؟ أم لا؟
رحمك الله يا أبا خالد.