عاد الهدوء جزئياً إلى محافظة إدلب شمالي سوريا، بعد ستة أيام من التصعيد من قبل روسيا والنظام السوري، عبر الطائرات الحربية، والقصف المدفعي والصاروخي، ما أودى بحياة نحو 50 شخصاً، وأصاب العشرات بجروح، فضلاً عن إجبار عشرات الآلاف على ترك منازلهم والتوجه نحو المناطق الحدودية مع تركيا.
الرواية الرسمية الوحيدة لتفسير وقف التصعيد، كانت على لسان غرفة عمليات "الفتح المبين"، والتي تضم فصائل هيئة تحرير الشام والجبهة الوطنية للتحرير وجيش العزة، حيث قالت إن النظام السوري طلب التهدئة بعد أن قصفت الفصائل مواقع حيوية تابعة له.
أما الائتلاف الوطني السوري، فقد قال رئيسه هادي البحرة: "نعمل على عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لوقف إجرام نظام الأسد على أهلنا في إدلب وريف حلب الغربي، ونتواصل مع فرنسا والدول الفاعلة بهذا الصدد، كما نقوم بتواصلات مستمرة مع الحكومة التركية كطرف ضامن من أجل وقف إطلاق النار والحفاظ على حياة أهلنا في الشمال السوري".
وتزامناً مع غياب أي توضيحات إضافية من الأطراف المعنية، عن آلية التوصل إلى التهدئة وطبيعة سريانها، بدأت "هيئة تحرير الشام" والإعلام التابع لها بنشر مواد إعلامية تعلن من خلالها النصر على النظام السوري، وكذلك لم توضح معالم هذا "النصر" أو التفاصيل التي استندت وأعلنت بناء عليها ربح الجولة تحت عنوان "إدلب تنتصر".
تساؤلات عن تعريف "النصر"
أثار إعلان "هيئة تحرير الشام" بشكل غير مباشر النصر على النظام السوري في جولة التصعيد الحالية، تساؤلات محلية، فيما إذا كانت الفصائل قد درست أخطاء الحملة العسكرية التي أدت إلى خسارة أجزاء من أرياف إدلب وحماة وحلب وعملت على تجاوزها، وفيما إذا كانت جاهزة لمقاومة الكثافة النارية وسياسة الأرض المحروقة المستخدمة حينذاك. حيث لم يصل التصعيد إلى مرحلة المعارك التي يتحدد من خلالها الرابح والخاسر، كما لم يزج كل طرف بجميع أوراق القوة لديه.
بلا شك لا يمكن إغفال فارق القوة بين الفصائل العسكرية، وبين النظام السوري المدعوم من روسيا وإيران والميليشيات الأجنبية، إلا أن إعلان "النصر" والتأكيد على فرض الشروط على النظام لوقف التصعيد، يعني بشكل أو بآخر وجود سياسة جديدة غير معلنة قادرة على مواجهة النظام وداعميه، وإن لم يكن الواقع كذلك، على الفصائل تعديل الخطاب والتعامل بواقعية لتفادي صدمات غير محسوبة، خاصة أن مصادر في إدلب أكدت أن التهدئة فُرضت بتوافق تركي - روسي، نافيةً أي طلب من النظام لوقف التصعيد بعد فرض الفصائل لشروط معيّنة عليه.
التصعيد يشلّ الحياة في أجزاء من إدلب
بالرغم من أن "هيئة تحرير الشام" وحكومة الإنقاذ وضعت إمكانيات كبيرة لتشكيل "كيان" أو مشروع دويلة في إدلب تتمتع بجميع المقومات، فإن التصعيد رغم محدوديته كان كفيلاً بشلّ مظاهر الحياة في بعض المناطق في الشمال السوري، لا سيما مركز مدينة إدلب.
وبالطبع لا تقتصر المواجهة مع النظام على العسكرة للجزم بالنصر من عدمه، فهناك عوامل تتعلق بالقدرة على تأمين النازحين وتوفير الغذاء لهم، وضمان الإسعاف السريع للجرحى والمكان الآمن للمؤسسات الطبية، وإيجاد خطط بديلة لتأمين الكهرباء والإنترنت والخبز وغير ذلك عند أي طارئ.
الإجابة عن ما سبق في جعبة القائمين على إدارة محافظة إدلب، وهم الأقدر على معرفة إمكانيات الصمود في أي مواجهة مستقبلية، في حين بقي مفهوم النصر مبهماً، فهل وقف التصعيد بحد ذاته يعد انتصاراً؟.
"انتصرت إدلب بفضل الضربات العسكرية"
الكاتب والمدوّن معتز ناصر، كان ممن تبنى موقف "النصر"، وعند سؤاله عن النتائج التي قيّم من خلالها الموقف، قال: "علينا أولاً أن نسأل سؤالاً مهماً، ما الذي يجبر النظام على وقف إجرامه إذا كانت لديه القدرة النيرانية للاستمرار، ويغطيه السكوت الدولي؟".
وأشار ناصر في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إلى أن "انتصار إدلب كان بإجبار النظام بقوة النار أن يتوقف، وذلك بفضل الضربات العسكرية التي استهدفت النظام وحواضنه، والتي أجبرته على أخذ خطوة للخلف، خاصة أن روسيا منهكة في أوكرانيا، وإيران تتحسب انعكاسات عملية طوفان الأقصى عليها".
وذكر أن النظام أقل اهتماماً بكثير بعنصره البشري، كما أنه لا يهتم إطلاقاً بصورته في المحافل الإعلامية، والسياسية "لذلك ثقل مواجهته علينا كبير جداً، وهذا يستدعي منا الخروج من العقلية القديمة التي جربناها لسنوات وفشلنا فيها، فلحماية المحرر من أي تقدم حقيقي للنظام علينا معالجة الخواصر الرخوة للمناطق الجغرافية، والترهل العسكري لفصائل الجيش الوطني، فوجود مناطق محررة واسعة في ريفي حلب الشمالي، والشرقي، غير محصنة عسكرياً، وفصائل غير جادة وغير مجهزة لصد النظام، ومبعثرة القرار، وتعيش فوضى في الرؤى والسلوك وارتهان للأمر الخارجي، يجعل ريف حلب هشاً جداً في مواجهة أي حملة عسكرية، يضاف ذلك لاستمرار فوضى الإدارة الخدمية المقسمة على حكومتين، والقرار السياسي الضائع بين جهات كثيرة يجعلنا دائماً ندفع ثمناً أكبر".
لتحقيق معادلة الردع مع النظام، يرى ناصر أنه "يجب جعل المحرر محرراً واحداً في كل المجالات، وخاصة القرار العسكري، فلا بد من أن تكون الموارد العسكرية كلها من سلاح وذخيرة وقوة بشرية تتحرك بنسق واحد، وقرار واحد، بحيث إن استهدف النظام قرية في المحرر، تفتح عليه أبواب جحيم الرد الثوري من كل الجبهات"، بحسب وصفه.
ويعتقد ناصر أن الجهد العسكري عموماً لم يرتقِ بعد لخطورة المواجهة الصعبة مع نظام الأسد، والتي لا يحكمها أي روادع أخلاقية أو إنسانية من طرفه، مضيفاً أن "فترة السلام الزائف التي نعيشها بفعل اتفاقات سياسية هي فترة وهم، والأصل هو الحرب حتى التحرير، لذلك يجب أن نستفيد من التصعيد الأخير في الانتباه لضرورة صرف الجهود والموارد لما فيه خدمة معركة التحرير، وحفظ أرواح أهلنا، لذلك أرى أن موضوع الملاجئ، والأنفاق، ضرورة أهم بكثير من مشاريع التجميل العمراني، وتوحد الفصائل في قرار عسكري مركزي، وتحويل المحرر لساحة مواجهة واحدة أصبح أهمية وجودية لنا، وليس خيار ترف".
"النصر" وهشاشة "دعاية توحيد الجهود"
لا يتفق الصحفي السوري أنور أبو الوليد، مع ما وصِف بـ "النصر"، حيث ذكر أن المنطقة "تحتاج للعمل بشكل جدي وفاعل يجنبها أي سيناريوهات قادمة لا محالة تتضمن مواجهات مع النظام وحلفائه، فالحملة أظهرت هشاشة الدعاية الطويلة التي دأبت الهيئة على تصديرها والتي فككت عشرات الفصائل بحجتها وهي توحيد الجهود والمقدرات في إدلب لتحقيق نتائج إيجابية ملموسة على الصعيدين السياسي والعسكري، وهو أمر لا أرى أنه تحقق شيء منه على الأرض".
وفي حديث مع موقع تلفزيون سوريا، رأى أبو الوليد، أن توصيف "إعلان النصر" لا يعدو عن كونه "تعويماً وتعامياً عما جرى ويجري، فالحملة مع محدوديتها أوقفت جميع مظاهر الحياة في إدلب، ولم تقابل بأي عمل عسكري ملموس، وما جرى عبارة عن رشقات صاروخية يفترض أن تكون حاضرة في الحالة الطبيعية لمواجهتنا مع النظام، وليس في حالة حملة همجية كهذه طالت معظم مناطق أهلنا المدنيين في إدلب وريف حلب الغربي".
ويضيف أبو الوليد: "ما زلنا نقبع في إطار ردود الفعل المتواضعة، وحتى الجهود الإنسانية يقوم على معظمها المنظمات غير الحكومية وليس سلطات الأمر الواقع، وعسكرياً نحن في أسوأ حال بواقع كهذا، وإعلامياً نستجدي من دون جدوى، والأسوأ أن نرقع لمن يتحمل المسؤولية كاملة عما يجري لأنه هو من صدّر نفسه كقائد أوحد يسعى للسيطرة والتمدد نحو جميع المناطق الأخرى، باستثناء التي تنطلق منها صواريخ النظام ويحكمها الأسد"، وفق قوله.
كيف قيّم قاطنو إدلب نتائج التصعيد؟
الإعلامي المقيم في إدلب، أحمد رحال، قال في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إن مصطلح "إدلب قد انتصرت" غير دقيق ولا سيما أن الحرب من جهة واحدة، فمهما كانت مقاومة فصائل "الفتح المبين"، لا يمكن مقارنتها مع قدرات ميليشيا لدولتين كبيرتين (روسيا - إيران) تحتلان سوريا.
وأضاف: "إدلب بشعبها وثوارها استطاعوا الصمود وتقييم الحاجيات الناقصة لمقومات الصمود في حال حصل تصعيد أكبر، والنصر الحقيقي يكون في الاستفادة الحقيقية من هذا الواقع ومعرفة كيف يمكن توظيف هذه الأحداث لصالحنا على جميع الأصعدة، وتقليل المخاطر والخسائر في المرات المقبلة من خلال خطوات يمكن القيام بها ضمن خطط يتشارك فيها الشعب والحكومة والفصائل".
ووفق قول رحال: "استطعنا هذه المرة أن نكون يداً واحدة بقدرات وإمكانيات متواضعة، لكن ليست كما المأمول، والواقع يحتاج إلى تسخير إمكانيات أكبر وخطط أوسع وأشمل، ولا بد من مشاركة السوريين في الخارج بهذه الخطط لمساندة أهلهم في الداخل".
ولا شك أن هناك حاجة "للتطوير في تقنيات الفصائل وغرفة العمليات، بحيث تكون قادرة على الرد العاجل باستهداف مواقع ومعسكرات النظام وروسيا وإيران، والتي تتضمن مرابض المدفعية".
من ناحية أخرى، شدد رحال على ضرورة تجهيز مناطق الشمال السوري بتحصينات في الأسواق والشوارع المدنية وأمام الأفران والمستشفيات، بحيث تكون قادرة على امتصاص ضغط الصواريخ وتأثيرها إلى حد ما، وبالوقت ذاته لتستمر الحياة ولو بالحد الأدنى، إضافة إلى ضرورة تزويد المنطقة بشبكة من الأبراج والمراصد لتفعيل القبضات اللاسلكية التي تحذّر من الهجمات النارية وأماكن وجود الاستطلاع وغيرها، حيث كانت هذه التقنية متوفرة سابقا، لكنها اليوم تكاد تكون معدومة.
أمّا من الناحية الإعلامية، فالجهود الإعلامية لدى الناشطين والإعلاميين متوفرة، لكنها تفتقر للمركزية والإدارة والتوجيه الصحيح، وباعتقاد "رحال"، لا بد من وجود مركز إعلامي يديره الإعلاميون أنفسهم، يتولى تصدير الأخبار والمواد بجميع اللغات لوسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية.
بما يخص المجال الإنساني، يشير المتحدث إلى "الحاجة لفرق ومنظمات استجابة تكون قادرة على توفير مستلزمات الحياة الأولية للمدنيين الذين يفضلون البقاء عن النزوح، كذلك توفير ملاذ آمن ومناسب لمن يرغب في النزوح ولا يطيق البقاء".
في حين يؤكد الناشط السياسي السوري، عبد الكريم العمر، أن التصعيد على إدلب لم يكن هدفه الاجتياح البري أو التغيير في خريطة السيطرة، لذلك لا يمكن القول إن هذا الطرف انتصر والآخر هُزم، خاصة أنه لم تحصل مواجهات ميدانية مباشرة بين الطرفين.
وحثّّ العمر في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، على إنشاء غرفة عمليات مشتركة وطوارئ بين العسكريين والإعلاميين والسياسيين ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية، تتفعّل عند الأزمات فقط، وتكون مهمتها التعامل مع أي طارئ وإدارة الموقف بحرفية عالية.
ومن المفترض أن يكون هدف غرفة الطوارئ الاستجابة للنزوح والحالات الإنسانية، ونسج الرواية الرسمية عن الواقع العسكري، ثم تصديرها للرأي العام عبر متحدث رسمي، حتى لا يكون السكان عرضة للإشاعات.
وقفات إضافية مع التصعيد
سجّل الباحث والناشط السياسي، رضوان الأطرش، خلال حديث مع موقع تلفزيون سوريا، بعض النقاط الإضافية الخاصة بمرحلة التصعيد ونتائجها، ومنها:
• أظهرت حملة التصعيد وجود هشاشة كبيرة جداً على مختلف المستويات، وفي المجال العسكري لوحظ التأخر في الرد على اعتداءات النظام السوري وروسيا وإيران على المدنيين، علماً أن الرد كان خجولاً.
• نحتاج إلى منصة إعلامية ترصد ما يجري على أرض الواقع بكل دقة، وتوجه خطاباً إعلامياً واضحاً للقنوات العربية والعالمية حول حقيقة ما يجري من استهداف المنشآت الطبية والإنسانية والأسواق من قبل النظام وداعميه.
• لم نلحظ وجود طرف منتصر على أرض الواقع، ونحن في مرحلة يجب فيها فتح أعمال عسكرية مشتركة من محاور متعددة في إدلب وريف حلب، وعدم اقتصار الرد على الصواريخ بعيدة المدى.
• قامت المؤسسات الطبية والإنسانية بدورها على أكمل وجه رغم ضعف الإمكانيات، حيث قدمت المساعدات لمن يرغب في اللجوء إلى أماكن آمنة، فضلاً عن انتشال الجرحى وإسعافهم.
• هناك ضعف في الملف السياسي، حيث انتشرت بيانات ضعيفة جداً من القوى المسيطرة على أرض الواقع.
لم تكن الغاية من النقاط الواردة في التقرير "جلد الذات" أو التقليل من جهد وعمل جهة ما، إنما هي محاولة لتقبل الحقائق والإضاءة على مواضع الخلل، فمن السهل أحياناً الحفاظ على صورة مثالية لمنطقة ما، وإخفاء العيوب والأخطاء، وقد يغرّ الوهم بأن النجاح يتمثل في تجنب الانتقادات والتظاهر بالكمال، إلا أن الحقيقة تؤكد أن تجاهل الأخطاء، يعني وهماً زائفاً ينهار في النهاية، وفشلاً بحل الأزمة، بل ترحيل المشكلات وزيادة حدة التحديات في وقت لاحق، في حين أن تقبل الحقيقة بما فيها من تفاصيل، سيكون مفتاح النجاة والنمو والتطور، وتكوين أرضية صلبة وواقعية يمكن البناء على أساسها.