أثارت وفاة رجل الأعمال السوري المعروف، الدكتور أحمد راتب الشلاح، عن عمر ناهز 92 عاما، جدلا قديما متجددا حول الماسونية في دمشق، وما إذا كان أفرادها وطنيين أو "بنائيين أحرارا" كما يسمون أنفسهم، أم أن لهم ارتباطات تتجاوز حدود البلاد.
و"الماسونية" ترجمة حرفية من الكلمة الإنكليزية "Freemasonry"، والتي تتكون من مقطعين: "Free" بمعنى "حر" و"Masonry" بمعنى "البناء"، ويمكن أن يشار إلى أتباع الماسونية باسم "البنائيين الأحرار".
ودخلت الماسونية إلى دمشق اعتبارا من عام 1868 عبر الأميركي روبرت موريس، إذ نشطت المحافل الماسونية بشكل علني حتى عام 1965 عندما أصدر الرئيس السوري آنذاك محمد أمين الحافظ قراراً بإغلاق جميع المحافل الماسونية وحظر نشاطاتها.
تشير المصادر التاريخية إلى أن عضوية الماسونية كانت تفتح أبواب النفوذ لعدد من رجالات السياسة والتجارة والصناعة في دمشق، ما جعل بعضهم ينظر إليهم كأصحاب مشروع بنائي يسهم في تطور المجتمع، في حين يرى آخرون أن هذه الشبكة الخاصة تمتلك علاقات وارتباطات خارجية أثارت تساؤلات حول تأثيرها غير المرئي.
وبالعودة إلى الراحل راتب الشلاح، الذي عرف بلقب "شهبندر تجار سوريا"، فهو ينحدر من عائلة عرفت بانخراطها في التنظيم الماسوني، فقد كان والده، بدر الدين الشلاح، من الشخصيات البارزة في الماسونية السورية، وحقق درجات متقدمة، وصلت إلى توليه منصب رئيس محفل إبراهيم الخليل بدمشق في فترة الخمسينيات، وسبقه أيضا والده سليم الشلاح في عضوية الماسونية.
ومحفل إبراهيم الخليل يتبع لمحفل نيويورك، وأسسه البروفيسور الأميركي والترز أدامز الذي عمل مدرساً في كلية الطب بالجامعة الأميركية في بيروت.
ومع وفاة راتب الشلاح، عاد النقاش القديم ذاته الذي دار في المجتمع السوري عن ارتباط آل الشلاح بالماسونية حينما نشر بدر الدين الشلاح، والد رجل الأعمال الراحل أحمد راتب الشلاح، مجموعة من الصور في مذكراته المطبوعة بكتاب حمل عنوان: "للتاريخ والذكرى: قصة جهد وعمر"، وقدمه كتوثيق لحياته ومسيرته.
تضمنت هذه الصور لقطات ملونة له وهو يرتدي لباس المحفل الماسوني، وصورة أخرى تجمعه مع أعضاء محفل "إبراهيم الخليل" في دمشق عام 1952، وكذلك صورة جماعية لأعضاء المحفل الماسوني في منطقة دمر بدمشق عام 1950.
إضافة إلى ذلك، نشر الشلاح صورة أُخذت عام 1951، علق عليها بأنها التُقطت عندما كان يشغل منصب رئيس محفل "إبراهيم الخليل".
أثارت هذه الصور حين صدور الكتاب عام 1990 اهتماماً وجدلاً كبيراً، إذ أضاءت على ارتباطات الشلاح بالماسونية وأثارت تساؤلات حول تأثير هذا التنظيم داخل المجتمع الدمشقي.
لذا، اهتم الشلاح بأن يخصص باباً من كتابه اللاحق الذي صدر عام 1992 تحت عنوان: "المسيرة التجارية: رجال أحداث - آراء" للحديث عن موقفه من الماسونية التي تبوأ أعلى مرتبة فيها بدمشق قبل حظر محافلها بعد سنوات قليلة.
أشار الشلاح في كتابه إلى الضجة التي أثارتها صوره بزي رئيس المحفل الماسوني، مؤكدا على حق السوريين بطرح تساؤلات حول انتماءاته وسلوكه كونه شخصية عامة.
وقال الشلاح في توضيحه إن انتسابه للماسونية كان لفترة قصيرة من حياته، مشيرا إلى أن المخاوف بشأن ارتباطات الماسونية بالصهيونية وجهات استعمارية أخرى لم تكن واضحة بالقدر ذاته في الفترة التي انتسب فيها إلى محفل "إبراهيم الخليل" (في الخمسينيات).
وأكد أن العديد من رجال السياسة والعلم البارزين في المجتمع السوري انضموا إلى الماسونية في تلك الحقبة، ولم يكن ذلك يثير أي شكوك حول وطنيتهم وإخلاصهم، لافتا إلى أن والده (سليم الشلاح)، وعدداً من أصدقائه المعروفين بتدينهم، كانوا من بين المنتسبين، معتبراً أن والده، الذي انضم عام 1927، لم يرَ حينها تعارضاً بين الماسونية ومبادئه الإسلامية، على الرغم من أنه لم يتعمق في النشاط الماسوني.
وأضاف أن طلب بعض أصدقاء والده منه الانتساب إلى محفل "إبراهيم الخليل" جاء بعد وفاة والده عام 1947، مشيراً إلى أن هذا الطلب تزامن مع قراءته لمقال كتبه الراحل وجيه بيضون، عضو الماسونية وكاتب معروف، في مجلة "كل جديد" عام 1948. إذ تأثر الشلاح بما ذكره بيضون في مقاله بأن عدداً من الشخصيات الوطنية السورية المرموقة كانت منتمية إلى الماسونية، من بينها فارس الخوري وعبد الرحمن الكيالي وجميل مردم بك وغيرهم(يذكر أن المؤسسين الأوائل للمحفل السوري الأكبر تألفوا من: الأمير عبد القادر الجزائري وعطا بك الأيوبي والأمير سعيد حفيد عبد القادر الجزائري وسامي الصلح وحنا أبي راشد ويوسف غندور المعلوف وبشير الأعور وغيرهم).
وأكد الشلاح أن وجود هؤلاء القادة البارزين داخل التنظيم لم يكن حينها مدعاة للشك، بل كان يعزز الثقة في أن الماسونية، وفق ما ظهرت في تلك الفترة، يمكن أن تكون جزءاً من البناء الاجتماعي والنهوض بالمجتمع.
وأشار كذلك إلى أن عضوية الماسونية لم تقتصر على شخصيات سياسية، بل ضمت أيضاً عدداً من الوجهاء، والمهندسين، والأطباء، والمحامين، وجمعهم اهتمام مشترك بالعمل الخيري وخدمة المجتمع المحلي. وأن أياً من هؤلاء لم يكن معنياً بأي ارتباطات خارج الحدود السورية، إذ كان التركيز منصباً على تقديم العون للناس في محيطهم المحلي.
ويتوسع الشلاح أكثر عبر الإشارة إلى أنّ عدداً من الشخصيات البارزة في العالم العربي والعالمي انضمت إلى الماسونية، مثل سعد زغلول باشا وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في مصر، وكذلك رؤساء أميركيين مثل فرانكلين روزفلت، وإمبراطور ألمانيا غليوم الأول، وفي لبنان الجنرال فؤاد شهاب وسامي الصلح والرئيس سلام، معتبرا أن هذا الجمع من الشخصيات السياسية والفكرية انضم إلى الماسونية لأنها كانت إحدى الوسائل القليلة المتاحة آنذاك للعمل الخيري الجماعي، الذي كانت البلدان بحاجة ماسة إليه.
وتابع في تبرير موقفه بالقول إن المحافل الماسونية في سوريا كانت بالفعل تمارس نشاطاتها تحت اسم الماسونية، لكنها لم تكن على تواصل أو ارتباط فعلي مع المحافل الخارجية سوى بالاسم والشكل الظاهري. واستدل على ذلك بقرار الحكومة السورية بمنع الماسونية، إذ لم يتعرض هذا القرار لمكاتب الجمعيات الماسونية ولا لأفرادها، مما يدل وفقا لرأيه على أن الحكومة السورية في ذلك الوقت "لم تشكّ أو ترتاب في ولاء هذه الجمعيات للوطن أو في طبيعة نشاطاتها".
كيف تولى بدر الدين الشلاح رئاسة محفل إبراهيم الخليل؟
وتطرق الشلاح إلى مسيرته داخل الماسونية، إذ أوضح أنه بعد إلحاح من أصدقاء والده، انتسب إلى محفل "إبراهيم الخليل" حيث رُقّي وفقاً للتقاليد الشكلية إلى درجة "محافظ"، وبعد ثلاث سنوات انتُخب رئيساً للمحفل. لكنه يستدرك بأن التزاماته الخيرية الأخرى لم تمنحه الوقت الكافي للقيام بواجبات رئيس المحفل، فاعتذر خطياً عن الحضور، إلا أن زملاءه أصروا على انتخابه غيابياً.
واختتم الشلاح حديثه قائلاً إن الماسونية، كما عرفها هو وزملاؤه، كانت تهدف إلى الخير والتعاون واحترام القانون وخدمة الوطن، مشدداً على أنه لم يطّلع على أي مخالفات لهذا الهدف، ولو اكتشف أي تعارض بين الماسونية والمصلحة الوطنية أو الدينية لما تردد في اتخاذ موقف واضح، إذ يرى أن الدين والوطن يتصدران كل شيء.
وأضاف الشلاح، في مقارنة توضيحية، أن الماسونية كانت تشبه أندية أخرى ذات صفة عالمية وروابط مشتركة مثل "الروتاري" و"الليونز".
ويدعم رأي الشلاح ما يفصله المؤرخ السوري الدكتور سامي مروان مبيض في كتابه "شرق الجامع الأموي" والذي يشير إلى أنّ المحافل الماسونية كانت مرخصة وتدفع الضرائب للدولة السورية وحتى إن الانتساب إلى الماسونية (العشيرة الحرة) يتطلب إحضار ورقة "لا حكم عليه" من وزارة العدل.
لكن المبيض يشير في كتابه إلى أنّ الماسونيين الدمشقيين تخوفوا لاحقا من رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر (1958-1961) فعمدوا إلى إتلاف جميع وثائقهم الماسونية، في حين أن ما يرد في كتاب "دائرة معارف ماسونية" لحنا أبي راشد يلفت إلى أن جمال عبد الناصر وشكري القوتلي شغلوا منصب رئيسين وقطبين أعظمين شرفيين في الماسونية.
قيم نبيلة أم إخفاء أهداف سرية؟
يقول حنا أبي راشد في وثائق نشرها تحت اسم دائرة المعارف الماسوني، في دفاعه عن الماسونية ومبادئها، إن الماسونية تقوم على أهداف سامية ونبيلة تتمثل في تعزيز الأخلاق الكريمة، والحكمة العقلية، وسلامة القلب، وهي ما يسميه "مثلث الحق".
يشرح أبي راشد، الذي لقب نفسه بالوثائق أنه "عميد الماسونية المقالية العالمية"، أن الماسونية ليست مجرد مجموعة من الشعارات، بل هي ممارسة حية للقيم المثالية التي تهدف إلى تحقيق التآخي والتساند والمساواة بين الأفراد، بعيداً عن الانحيازات الدنيوية.
أما فيما يخص الاتهامات التي تُوجه إلى الماسونية بأنها قد تخفي في طياتها أهدافاً سلبية أو سرية، فيقول أبي راشد أن السبب يعود إلى الطبيعة البشرية نفسها. فالماسونية "لا تدعي أنها تغير كل النفوس، بل تتعامل مع تنوعها واختلاف استعداداتها، حيث توجد نفوس قادرة على الالتزام بالمبادئ السامية ونفوس أخرى قد لا تستطيع مقاومة شهواتها وأهوائها".
ويضيف أبي راشد أن هذه الفروقات تظهر من خلال التجارب والمواقف التي تكشف مدى التزام الأفراد بهذه المبادئ السامية.
ويختتم أبي راشد دفاعه بالقول إنه "من طبيعة الوجود أن يتواجد الخير والشر معاً، وأن النفس البشرية تسير حسب استعداداتها وقدرتها على التحمل. فالخير ينبع من الله ومن المبادئ السامية، أما الشر فيعود إلى الإنسان نفسه". ويرى أبي راشد أن الماسونية لا يمكن أن تُلام على هذه التفاوتات الإنسانية، بل إنها تعمل على تحفيز الخير وتشجيع القيم النبيلة، وتترك للأفراد مسؤولية التفاعل الصادق معها.
شعارات براقة للتغطية على أهداف تخريبية؟
بدوره، يرى الكاتب حسين عمر حمادة أن الماسونية ليست مجرد منظمة اجتماعية كما يُروج لها، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بالوجود الاستعماري وأهدافه، معتقدا أنها كانت عاملاً مساعداً في إضعاف الدول العربية على مختلف الأصعدة الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، لتبقى هذه الدول معتمدة على القوى الخارجية، ما أدى إلى تخلفها وانهيارها.
وفي كتابه بعنوان: "الماسونية والماسونيين في الوطن العربي" يتحدث حمادة عن تأثير الماسونية على الوطن العربي من خلال دعمها للوجود الصهيوني في فلسطين، مشيرا إلى أن الشعارات التي ترفعها الماسونية، مثل الحرية والإخاء والمساواة، ليست إلا محاولات لتغطية أهدافها التخريبية التي تخدم مصالح قوى الاحتلال والاستعمار.
يذكر حمادة أن المحافل الماسونية قد وصلت أحياناً إلى السيطرة على وظائف رئيسية وحساسة في الدول العربية، خاصةً في مجالات الإعلام، والتوجيه، والمؤسسات المالية، وحتى القوات المسلحة. كما أن الماسونية تشجع الأنشطة التي تهدف إلى إضعاف التماسك الأخلاقي والمجتمعي، من خلال نشر وسائل اللهو.
ويتابع بأن الشعارات الماسونية التي يُدعى أنها إنسانية ليست إلا واجهة تخدم أجندات خاصة تتعارض مع مصلحة المجتمعات التي تعمل فيها.
وفي الختام، يبدو أن الماسونية كانت جزءاً من الحياة الاجتماعية والسياسية لعدد من الشخصيات المؤثرة في دمشق وهي حتى اليوم مثار تساؤلات حول دوافعها الحقيقية وتأثيراتها على المجتمعات، وما إذا كانت في جوهرها مشروعاً بنائياً مجتمعياً أو غطاءً يخفي أهدافاً أبعد من مجرد الإخاء والحرية.