من دقيق ما جاء في الوصف: "الكتابُ في الغُربةِ وطنٌ"، وذلك في الغُربة عامةً؛ لكنه أكثرُ من ذلك لنا في تغريبتنا السورية كونها تهجيراً قسرياً في بقايا الذاكرة أشياءُ عن مبتدئها، وتعجز عن تلمُّس منتهاها!
ذلك ما شعرت بحقيقته مع زيارتي المعرض الدولي للكتاب العربي في إسطنبول؛ فأولُ ما فيه أنه ثمرة طيبة لتعاون الجالية العربية في تركيا، إذ مع فشل التعاون السياسي والاقتصادي على المستوى الرسمي في بلداننا العربية يتأكد هنا أثر القوة الثقافية الناعمة في إصلاح ما يعجز عنه أو يُفسده الساسة، دون التدقيق بوزن أصحاب الإنجاز الثقافي؛ فالمشاركون غطّوا خريطة الوطن العربي من المغرب إلى العراق.
إنه حقاً لَإنجاز يُقدَّر عالياً ويُحترم، ويُوجِب الشكر الجزيل لكل مَن أسهم بتنظيمه وشارك فيه؛ فالضائقة الاقتصادية والمشكلات السياسية الاجتماعية والفكرية المعقدة كلها لم تمنع من إقامته، فالشكر للعرب على اجتهادهم وجهادهم الثقافي لإنجازه، وللأتراك على إتاحة الفرصة أمامهم وتذليل العقبات رغم بدء غليان مرجل الانتخابات على نار اللاجئين والأجانب قبل سواها.
كان من المحزن غياب التمثيل الحقيقي لدول عربية لها وزنها على الساحة الثقافية والعلمية؛ لأن المشاركة المصرية لا تعكس شيئاً من حقيقة "أمّ الدنيا"، والمشاركة الخليجية لا تعدل شيئاً من وزن دول التعاون الخليجي؛ وإن كان توافقه مع معرض الرياض سبباً في ذلك. وإنه لَيَحزن المرءَ أكثر حتى لَيَشرق بالدمع أن كثيرين من القائمين على المعرض والمشاركين فيه مهجَّرون من بلدانهم العربية جمعتْهم إسطنبول مقيمين أو لاجئين، أو أنهم جاؤوا يشاركون بجوازات وهويات أجنبية بعد أن رمتْهم بلدانهم للشتات والمنافي قسراً.
وجدنا المعرض مساحة ثقافية آمنة؛ إذ تتجاور فيها الأفكار المتخالفة، بل المتناقضة، فدور النشر المشاركة تجمع فيما تعرض بين كتب المدارس الفكرية والدينية كلها تقريباً
وفي ذلك "الوطن المؤقت" بين جنبات المعرض في إسطنبول كنا نشعر بشعور غريب مع المشاركين القادمين من سوريا؛ فقد جلسنا مع أكثر من صاحب دار نسأله عن البلد وأهله، يقرأ فينا الشوق للوطن الحقيقي تتحرّك عواطفه تجاه إخوانه الحقيقيين، فيتجاوز الحدود ويحكي بالسياسة وأوجاع الناس في مناطق سيطرة الأسد يتقدّم بكلمة ويتأخر بأخرى؛ ليعود خلال دقائق للدعاء بالفرج ورفع الكرب والاجتماع في معرض دمشق العزّ من جديد، فنؤمّن لهم ونحمّلهم السلام على البلد وأهله دون قيادته الغاصبة.
وجدنا المعرض مساحة ثقافية آمنة؛ إذ تتجاور فيها الأفكار المتخالفة، بل المتناقضة، فدور النشر المشاركة تجمع فيما تعرض بين كتب المدارس الفكرية والدينية كلها تقريباً، في حوارٍ صامتٍ مؤدبٍ مما نفتقده في الساحات الأخرى الإعلامية والافتراضية خارج المعرض؛ فليت عرض الأفكار والرؤى والمذاهب يستمر خارج معارض الكتب كما هو داخلها، يحمل كلٌّ ما يريد ويمضي، دون أن يُفسد ذلك التجاور والتصاحب والتآخي.
يُحمد لأهل الإعلام "تلفزيون سوريا" بدرجة أولى حضورهم ومشاركتهم في تغطية الحدث الثقافي؛ مع جناح مفتوح للمشاركين والمؤلفين والمترجمين وأصحاب دور النشر، فكانت ضمائر الإعلاميين وشُداة الثقافة متصلةً بحق؛ وهذا هو المأمول للعلاقة بين أهل الثقافة وصانعي الإعلام، فلا نهضة ولا إصلاح ولا تأسيس لوعي صحيح في المجتمع دون مُصالحة وتعاون بينهما، مع هوامش واسعة للاختلاف دون أن يفسد للودّ قضية.
تُشكر المدارس التي جاءت بطلابها لزيارة معرض الكتاب والمشاركة في فعالياته؛ فهي رحلات مدرسية هادفة، تجمع للطلاب بين الخروج من أسوار المدرسة كما يحبّون، لكنها تمضي بهم حيث يستفيدون ويفرحون، فيتعلّمون وهم يلعبون، وتبقى في أذهانهم حين يكبرون؛ فأكثرُ ما يقزّم مخرجات العملية التعليمية والتربوية حبسُ الطلبة في سجن المقررات الدراسية وقهرهم عليها وحدها، لذا كانت من أسعد اللقطات عندي ما رأيته من يافعين ويافعات في المتوسط والثانوي يقفون عند دور النشر يسألون عن كتاب أو رواية، ثم يدفعون مجموعة أوراق يظهر أنها مطمورة مدّخرات؛ دون أن يُنسى فضل الأهالي الذين يأتون بأبنائهم إلى المعرض أو يدفعونهم إليها، مع ما يعيشه العرب في تركيا – وأكثرهم مهجَّرون ولاجئون – من ضائقة تبدّت في ضعف الشراء وقلّته.
ومع أن أكثر الدور المشاركة عربية فقد حضرت دور نشر تركية بإصدارات عربية، وشارك في المعرض أتراك كثيرون، وإن كانت أكثرها تنحصر حتى الآن في الكتب الشرعية والتاريخية؛ مما هو مادة لدارسي العلوم الدينية بالعربية من الأتراك، ومما يريد الأتراك ترويجه عن تاريخهم للعرب، وفي هذا فضلٌ بعودة العربية إلى تركيا؛ مع اشتداد الحاجة إلى الغوص أكثر في أعماق الثقافة والترجمة من الطرفين، ليتوجب شكر دار سورية "موزاييك" إعلانها جائزة للترجمة عن الأدب التركي باسم المترجم "عبد القادر عبد اللي"؛ وأنعِم بالأدب سفيراً ورسولاً بين الأمم والحضارات!
كان ملفتاً خلال أيامي في المعرض أن سياسياً سورياً معارضاً كان يملأ وسائل التواصل بأطروحاته وغرائبه السياسية، يتجول في المعرض مدةً وحده لا يكترث له أحد؛ ثم ينبّهني صاحبي لخروجه وفي يده كتاب واحد! وفي المقابل رأينا واجتمعنا بغير واحد من أهل العلم والفكر وأصحاب اللسان والقلم، يتكاثر الناس وأهل دور النشر عليه يستضيفونه وقد يُهدونه؛ فكأنها رسالة صامتة بأنها ساحة أهل الثقافة، ولتقف السياسة عند عتباتها؛ ومَن جاء هذه الساحة من السياسيين فإنما للتبرُّك والتمسُّح بالعلم والثقافة ليُحسب له، ولا يُحسب للسياسي صلة حقيقية مع الثقافة إلا إن كانت بسبب منها، كأنْ يَكتب سياسيٌّ – بالبناء للمعلوم؛ وليس للمجهول على طريقة كتّاب الزعماء في أكثر البلدان – فيدخل الساحة الثقافية بإصداره، دون أن يميز شيءٌ كتاب رئيس الجمهورية عن كتب كاتب هذا المقال؛ فكلاهما على الطاولة يمرّ بهما مَن لا يكترث لهما أو يأتيهما مَن يبحث عنهما!
وحيث إن "الكتاب وطنٌ في الغربة" و"العلم رَحِمٌ بين أهله" فقد جمع المعرض شتات السوريين والعرب؛ فمِن مؤلّفين نلتقيهم لأول مرة، إلى مؤلفات نقف عليها بعد أن طربنا لخبر إصدارها، إلى أصدقاء وأصحاب باعدت بيننا وبينهم المسافات والأشغال؛ فكان الملتقى في أرض المعرض وكأنّ نافخاً بصُور حبّ الثقافة والعلم قد صاحَ بهم فاجتمعوا، وإن كان كلٌّ منهم يمضي يبحث عن شرائده وصيده في اتجاه؛ وهم مع ذلك يتواصَون بكتابٍ صدر حديثاً، أو بطبعةٍ جديدةٍ لكتابٍ لم ينلْ بعدُ حقّه من التحقيق والعناية، أو بدارٍ فيها نفائس مستعملة وقديمة!
وإنه لَيَضرب في القلب بسكّين ألا تجد الكتب المستعملة إلا في الدور المشاركة من داخل سوريا؛ فقد كان مؤلماً في حديث الثقافة مع الأحبة القادمين من "الوطن" عدم دخول كتاب جديد إلى سوريا منذ سنوات، إلا ما كان من المحتلّين الروس والإيرانيين في زحفهم الثقافي الناعم الهادف لتغيير هوية البلد وأهله، مع استباحة شبيحة النظام حقوق المؤلفات ونسخها سرقةً وتزويراً من جهة، وسرقة مكتبات بكاملها وبيعها بـ "الشوال" -الكيس الكبير- في الطرقات من صغار الناهبين بعد عدة جولات من التعفيش من جهة أخرى! لتكون الثمرة المرّة مشاركة الدور السورية القادمة بإرثها السابق ومطبوعاتها القديمة، وبكتب مستعملة تتردد بشرائها تخشى أنها تكون مسروقة من المناطق التي هُجِّر منها أهلها؛ ليتعاظم إجرام الأسد بحق سوريا العظيمة التي كانت حاضرة العلم والثقافة منذ عهد أسياد الشام الأمويين.