لم تعرف فاطمة الهلالي ما سيكون بانتظارها عند هربها من الغارات الإسرائيلية التي لا ترحم في لبنان وعبورها إلى الجارة سوريا وهي تمسك بكل ما أوتيت من قوة بطفلتها النائمة البالغة من العمر ثلاث سنوات.
ولم تكن الهلالي وزوجها متيقنين من شيء خلا أمرين، أولهما أنه ينبغي عليهما إخراج طفلتهما من ذلك البلد على الفور، والثاني أن عليهما ألا يمضيا وقتاً طويلاً في السيارة وهي تعبر الحدود إلى سوريا بما أن آخر زيارة لهما إلى هناك كانت في عام 2010 أي قبل سنوات الحرب الثلاث عشرة.
نزوح متجدد
لطالما كانت سوريا التي تشترك بحدود طويلة مع لبنان معبراً للبنانيين الفارين من الحروب، ولكن الأمور اختلفت اليوم، إذ هنالك أكثر من سبعة ملايين سوري نازحين في الداخل، وهنالك أزمة اقتصادية شديدة تعصف بالبلد، وماتزال مساحات شاسعة منه خارج سيطرة حكومة النظام السوري. الذي يعد من أشد الأنظمة قمعاً على مستوى العالم، وذلك لكونه يقوم على الفساد والتعذيب والتضييق على الناس والتجنيد الإجباري.
لكن الوضع في لبنان تدهور بسرعة خلال الأسبوعين الماضيين، إذ ما بين 23 أيلول الماضي واليوم الإثنين، غادر أكثر من 374 ألفاً لبنان ودخلوا سوريا بحسب أحدث الأرقام التي نشرتها الحكومة اللبنانية، والتي لم تسارع لتحديث الأرقام بسبب العدد الهائل لعمليات العبور، وذكرت السلطات بأن أكثر من 90 ألفاً ممن عبروا إلى سوريا يحملون الجنسية اللبنانية.
يعلق على ذلك خالد الهلالي، زوج فاطمة، وهما ينتظران في الطابور حتى يختم جوازهما يوم الأربعاء الماضي، فيقول: "لست أدري ما الذي أخاف عليه أكثر، لأن عقلي لم يصل تفكيره إلى هنا إلى أن صرنا على الحدود"، أي أن رحلتهم بالكاد بدأت، لكن طفلتهما بدت منهكة حتى وهي لا تعلم بأنها بدأت رحلة هروب جديدة من المخاطر، لتكون تلك هي الرحلة الثانية لها في أقل من أسبوعين.
في أثناء هروبهم يوم الأربعاء الماضي، وصف لبنانيون وسوريون على حد سواء المعبر الحدودي بأنه شريان الحياة الذي لم يتخيل أي منهم أنه سيستعين به في الظروف الحالية، لكن الأمر يستحق المخاطرة والهرب من الحملة التي صعدتها إسرائيل بسرعة بهدف تفكيك حزب الله.
وصبيحة يوم الجمعة، قصفت الطائرات الإسرائيلية المعبر زعماً منها بأن حزب الله يستعين به لتهريب الأسلحة، بما أن هذا الحزب حليف لبشار الأسد وتدخل لصالحه في الحرب السورية.
تمنت فاطمة وزوجها خالد أن يعبرا الحدود بسرعة، فدعوا الله أن يتحقق ذلك حتى يقودا سيارتهما إلى الحدود السورية مع الأردن قبل أن تغلق أبوابها عند الساعة السادسة مساء. ومن هناك سيسافر خالد بصحبة ابنته إلى السويد التي يحمل جنسيتها ويعمل فيها، بيد أن زوجته ليس بحوزتها سوى جواز سفر لبناني، ولهذا ستبقى مع أهلها في العاصمة الأردنية عمّان إلى أن يلتم شمل الأسرة من جديد.
تقع قريتهما على أطراف الناقورة القريبة من الحدود الإسرائيلية، وقد تعرضت تلك القرية لقصف شبه متواصل طوال عام، بما أن إسرائيل وحزب الله دخلا معركة الغارات المتبادلة خلال تلك الفترة. ولذلك انتظرت فاطمة وابنتها حتى الأسبوع الماضي، ثم انتقلتا نحو مدينة صور في الشمال، لكن القصف وصل إلى هناك أيضاً. ومع تقلص مساحة الأماكن التي تعتبر آمنة في البلد، قررت فاطمة وزوجها بأنه لم يعد أمامهم جميعاً أي خيار سوى الرحيل.
لم تكن فاطمة وزوجها وحيدين في هذه المحنة، فقد اصطفت في طابور على الطريق إلى المعبر سيارات صغيرة تحمل كل منها قرابة عشر أشخاص، مع أكبر قدر ممكن من المتعلقات على سطحها، فيما حمل بعض الأطفال أكياساً بلاستيكية وضعوا فيها بعض الأشياء التي أخذوها من بيوتهم إثر تعرضها للقصف.
عودة بلا أمان
توجه نازحون آخرون إلى بلد سبق أن نزحوا منه من دون أن يدروا إن كانوا سيجدون الأمان عند عودتهم إليه، فأحمد، 24 عاماً، حصل هو وأصدقاؤه الثلاثة على ختم خروج فأخذوا يهرولون بحثاً عن حافلة أو سيارة بوسعهم استئجارها بأرخص سعر ممكن حتى يصلوا إلى الطرف الآخر، ويمثل هؤلاء ثلة من السوريين الذين هربوا من بلدهم قبل زمن طويل عندما تدهورت الأمور فيه لتصل إلى مرحلة الحرب، لكنهم يعودون إليه الآن على الرغم من خطورة ذلك، بسبب العنف الذي يدور في لبنان.
يحدثنا أحمد الذي اشترط أن يشار إليه باسمه الأول فحسب لأسباب أمنية بأنه غادر دير الزور في عام 2015 عندما فرض تنظيم الدولة حصاراً على تلك المدينة الواقعة في المنطقة الشرقية من سوريا، ومنذ ذلك الحين، وهو يقيم في الضاحية الجنوبية لبيروت والتي تستهدفها إسرائيل بالغارات الجوية، والآن، يخشى وهو في طريق العودة أن يُجبر على الانضمام لجيش النظام، إذ كان ذلك أحد الأسباب التي دفعته للهرب من بلده في المقام الأول.
أصبح الخطر محدقاً بأحمد بمجرد أن قطع الحدود، لكنه وصل إلى العاصمة دمشق من دون هويته التي أضاعها فأمضى وقتاً طويلاً على الطريق وهو يحاول تجنب حواجز التفتيش، ثم إنه يريد السفر إلى دير الزور ليقطع الحدود من هناك إلى العراق، وإلا سيتحتم عليه مراجعة أحد مراكز التجنيد الإجباري في غضون 15 يوماً، وفي رسالة نصية وصلتنا منه يوم الخميس كتب: "إني خائف".
احتجز خالد وفاطمة على الحدود لساعات في أثناء معالجة أوراقهما، فتركهما السائق الذي رتبا معه أمر السفر في نهاية الأمر، وهكذا تقطعت بهما السبل إلى أن قبِل سائق آخر بنقلهما، ولكن إلى درعا فحسب، حيث تسببت الاشتباكات بين الجماعات المسلحة بحدوث فراغ أمني.
لا توتر طائفيا حتى الآن
تعلق على الأوضاع رولا أمين، الناطقة الرسمية باسم مفوضية اللاجئين في سوريا فتقول:"أغلب الناس أتوا بلا موارد نهائياً، بل ليس لديهم ما يكفي لدفع أجور سيارة حتى تنقلهم إلى وجهتهم النهائية.. وذلك في بلد أصبحت فيه البنية التحتية في حالة يرثى لها وصار أمر الحصول على الخدمات الأساسية محدوداً".
في الوقت الذي أقام فيه معظم اللبنانيين الفارين من الحرب عند أصدقائهم، يقيم نحو 2600 لبناني في مراكز النزوح التي أقيمت في سوريا بحسب ما ذكرته رولا أمين، بيد أن هذه المقار لا يوجد فيها سوى الأشياء الأساسية، ولهذا تعمل مفوضية اللاجئين على إصلاح المراحيض وتقديم المراتب والإضاءة التي تعمل على الطاقة الشمسية، وذلك خير دليل على الحالة اليائسة التي وصل إليها من هربوا من لبنان، إلى جانب عمق الأزمتين الاقتصاديتين اللتين تعصفان بالبلدين.
يخبرنا العاملون في المجال الإنساني بسوريا بأنهم لم يشهدوا حتى الآن أي توتر طائفي بين القادمين، ولكن في حال تصعيد النزاع وقدوم مزيد من اللبنانيين، وما يتسبب ذلك بمزيد من الضغط على الموارد الشحيحة أصلاً في سوريا، فإن ذلك لا بد أن يؤدي إلى ظهور عنف أكبر.
خطر الترحيل إلى سوريا
وفي الوقت نفسه، أعرب بعض الدبلوماسيين الغربيين عن قلقهم من أن يشجع هرب السوريين من لبنان الحكومة اللبنانية على الضغط من جديد من أجل ترحيل اللاجئين بشكل جماعي ومخالف للقانون بمجرد أن تضع الحرب أوزارها.
ولذلك أعلنت كل من الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية وخبراء في المنطقة بأن أغلب اللاجئين السوريين الذين يعيشون في لبنان معرضون لخطر الاعتقال أو الإخفاء القسري في حال عودتهم إلى سوريا.
ويستعين أغلب السوريين بطرق غير قانونية للخروج من لبنان إلى سوريا حتى يتجنبوا الحواجز الأمنية، وذلك بحسب ما ذكره محمد المصري مدير مركز الوصول إلى حقوق الإنسان، والذي يعمل على متابعة عمليات ترحيل اللاجئين السوريين وتعقبها. وتحدث هذا الرجل عن ظهور حالة واحدة على الأقل لشاب منشق عن الجيش السوري تعرض للاعتقال ولم يعرف عنه أي شيء حتى الآن بمجرد عودته إلى بلده.
الجبال مفراً
عند نقطة المصنع الحدودية، يخبرنا سائقو السيارات بأنهم حملوا معهم أعداداً كبيرة من السوريين الذين يخشون من بطش النظام فنقلوهم بطريقة غير شرعية عبر الجبال القريبة وذلك مقابل مبلغ زهيد لا يتعدى 25 دولاراً.
فيما استبعد أحد المسؤولين على الحدود رفض الكشف عن اسمه بما أنه غير مخول بالحديث إلى الصحافة تلك المخاوف التي ترى بأن قوات النظام لابد أن تعتقل السوريين الذين يعبرون إلى بلدهم بطريقة غير شرعية، وقال وهو يقهقه ضاحكاً: "لا تقلقوا على هؤلاء الناس فالجبال واسعة".
المصدر: The Washington Post