ثمة ثقل يشد الغرفة الخالية من النوافذ نحو الأسفل، تلك الغرفة التي يقطنها عبد الهادي المشهور وزوجته، وجارتهم وكثير من الأولاد والأحفاد الذين اختبؤوا فيها، وتجمعوا حول مدفأة هناك. ويخبرنا ذلك اللاجئ السوري فيقول: "إننا نعيش على حافة الموت".
إذ ادعى البعض بأن سورياً أطلق النار على رجل من أهل البلاد قبل يومين في هذه المدينة اللبنانية الواقعة شمالي البلاد، وذلك على خلفية خلاف شخصي، الأمر الذي أثار موجة من الأعمال الانتقامية ضد مجتمع اللاجئين الذي هرب منه حوالي 270 عائلة سورية بعد الحادثة التي وقعت في تشرين الثاني الماضي، بحسب ما أوردته وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. أما عائلة السيد مشهور فقد بقيت في شقتها الصغيرة الواقعة على أطراف مدينة بشري، إلا أنهم ما يزالون يخافون أن يكشفوا عن وجوههم.
لقد عاش هذا الرجل البالغ من العمر 52 عاماً والقادم من محافظة إدلب السورية في لبنان طيلة سبع سنوات كلاجئ بسبب الحرب الدائرة في بلاده، إلا أن الحياة ما فتئت تزيد من صعوباتها عليه.
فقد نشد ملايين السوريين الأمان في لبنان وفي عموم أنحاء هذه المنطقة منذ أن بدأت الانتفاضة السورية قبل عقد من الزمان تقريباً، إلا أنهم باتوا اليوم أمام خيارات لا قبل لهم بها، وهي إما العيش في ظل حالة انعدام الاستقرار والعنف المتواصل في حال عودتهم إلى سوريا بعدما أحكم الرئيس بشار الأسد سيطرته عليها، أو البقاء في ظل ظروف تزداد تدهوراً وانحداراً في لبنان الذي يعاني من ضائقة مالية، حيث يمارس السياسيون ضغوطاتهم على اللاجئين حتى يرحلوا ويعودوا إلى بلدهم.
يحن السيد مشهور إلى وطنه ويشتاق إليه، إلا أنه ليست أمامه أي منطقة آمنة ليعود إليها، فمن وجهة نظره، لا تلوح أي نهاية للأزمة السورية في الوقت الراهن.
أزمات متفاقمة
عانى السوريون وكافحوا منذ وقت طويل في لبنان، حيث يشكل حوالي مليون من اللاجئين نسبة تقارب 20% من السكان، إلا أن عام 2020 حمل معه فيضاً جديداً من المشكلات. فقد انهار النظام المالي في البلاد، واستقال رئيس الوزراء تحت ضغط المتظاهرين الذين ضاقوا ذرعاً بالفساد المستشري، ثم بدأت جائحة فيروس كورونا تتفشى، أعقبها الانفجار المدمر في مرفأ بيروت، الذي راح ضحيته كثير من السوريين بين عداد الضحايا الآخرين. وخلال أقل من سنة، هبطت قيمة العملة اللبنانية لأكثر من 80%.
وهكذا تضررت المجتمعات في مختلف أنحاء لبنان، لا سيما مجتمع السوريين، وسط تزايد المنافسة على الموارد، حسبما ترى إيلينا ديكوميتيز، وهي مستشارة الدفاع لدى مجلس اللاجئين النرويجي في لبنان، إذ تقول: "لقد تغيرت طبيعة الاحتياجات في لبنان بشكل كبير خلال السنة الماضية، إذ ثمة الكثير من الضغوطات المتزايدة يمكن للمرء أن يتوقعها بالنسبة للحصول على عمل أو وظيفة، وكذلك بالنسبة للمساعدات والخدمات الأساسية".
فخلال شهر تشرين الأول الماضي، قدرت مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين بأن 90% من السوريين في لبنان تقريباً يعيشون تحت خط الفقر المدقع، أي أن هذه النسبة ارتفعت عن نسبة 55% التي سجلت في العام الذي سبقه. وبما أن السوريين محرومون من مزاولة كثير من الأعمال بصورة قانونية، لذا فإن 90% من السوريين أعلنوا عن خسارتهم لمصدر دخلهم أو تعرضهم لتخفيض في رواتبهم بحسب ما توصلت إليه تلك المنظمة في شهر تموز الماضي.
يذكر أن السياسيين اللبنانيين أججوا المشاعر المعادية للاجئين لدى العامة، وذلك عندما اتهموا السوريين بالتسبب بالمشكلات الاقتصادية، إلى جانب تشديد سياساتهم التي تتصل بإقامة السوريين، وذلك بحسب ما أورده فادي الحلبي المدير العام لبرامج المساعدات المتعددة، وهي منظمة غير حكومية يترأسها سوريون في وادي البقاع ضمن مدينة عرسال الحدودية، إذ يخبرنا السيد فادي فيقول: "إن المناخ العام في لبنان يدور حول: كيف يمكننا -نحن الحكومة- أن نخلق المزيد من المتاعب للاجئين السوريين حتى نجعلهم غير مرتاحين في إقامتهم هنا؟" إذ بحسب رأيه يقوم المسؤولون: "باختلاق المصاعب والمشكلات إذا أراد السوري أن يحصل على إقامة، أو أن يحصل على شهادة إذا كان طالباً في مدرسة حكومية، أو إذا أراد أن يستخرج شهادة ميلاد".
هذا وقد منع لبنان المفوضية العليا للاجئين من تسجيل السوريين كلاجئين منذ عام 2015، ولهذا لم يعد لدى حوالي 90% منهم إقامة قانونية في تلك البلاد. كما أن هذه الدولة لم تقم مخيمات لجوء رسمية للسوريين، كما سبق أن فعلت بالنسبة للفلسطينيين. بل بات هؤلاء يقيمون في المدن مثل بيروت، أو يستأجرون شققاً في أي مكان يقدرون على تحمل نفقات العيش فيه. إلا أن كثيرا منهم يعيش في مخيمات عشوائية مؤلفة من خيام وأكواخ أقاموها ضمن أراض استأجروها من مالكيها اللبنانيين.
ومؤخراً، أخذت الحكومة تضيق على السوريين الذين يعملون بلا إذن عمل، إلى جانب حملاتها الساعية لهدم الملاجئ والبيوت المخالفة حتى تمنع تشييد بيوت دائمة هناك.
ويحدثنا السيد فادي الذي كان جراح أعصاب في سوريا قبل نزوحه، بأنه تمكن مرة واحدة من تجديد إقامته بسهولة، لكنه أمضى السنة الماضية وهو في وضع مخالف بالنسبة للإقامة.
وفي دفاع عن بعض تلك السياسات، يقول السياسي ويليام طوق من بشري: "لا يمكن للبنان معالجة وضعه"، إذ قبل الحرب، كان السوريون يعملون كعمال موسميين في مزارع التفاح في تلك المنطقة، ويعلق السيد ويليام على ذلك بالقول: "جلهم، أو يجدر بي أن أقول بعضهم يعيش في لبنان لأنهم يفضلون العيش في لبنان، وليس بسبب الظروف الأمنية في سوريا".
بيد أن اللاجئين السوريين ينكرون تلك المزاعم.
ومع تدهور الظروف بالنسبة للسوريين واللبنانيين على حد سواء، ثمة خوف متزايد من ظهور عنف بين الطوائف يمكن أن يأتي عقب كل ما جرى، فحالة بشري ليست الوحيدة في البلاد. إذ في شهر كانون الأول الفائت، وعقب شجار بين عائلة لبنانية وسوريين في مخيم عشوائي في بهنين بشمال لبنان، أضرمت نيران في ذلك المخيم التهمته عن بكرة أبيه، فنزح منه حوالي 400 سوري بحسب ما أوردته المفوضية العليا للاجئين.
لا خيارات آمنة
لم يغادر لبنان سوى عدد قليل من السوريين الذين عادوا إلى سوريا وذلك منذ عام 2011. ففي الدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع، ذكر غالبية السوريين بأنهم يريدون العودة، إلا أنهم لا يعتقدون بأن الظروف ستكون آمنة بما فيه الكفاية خلال السنوات القادمة.
ومع ذلك، أعلن لبنان أن الوقت قد حان للعودة، ثم بدأ الأسد، الذي أصبح بحاجة ماسة للمال وللموارد اللازمة لإعادة الإعمار، يحث السوريين على العودة إلى بلدهم.
إذ بعدما أعلنت الحكومة اللبنانية عن خطة عمل لإعادة اللاجئين، ظهر الرئيس اللبناني ميشال عون ليقول: "إن لبنان يصر على عودة اللاجئين إلى المناطق الآمنة في سوريا التي لا تشهد أي اقتتال، خاصة منذ أن رحبت الدولة السورية بعودتهم وتعهدت بتأمين الدعم اللازم لهم والاعتناء بهم".
ففي شهر تشرين الثاني الماضي، حضر لبنان المؤتمر الذي ترأسته روسيا حول إعادة اللاجئين في دمشق، لتكون الدولة الوحيدة المشاركة من بين ثلاث دول شرق أوسطية استضافت أعداداً كبيرة من السوريين. بيد أن الاتحاد الأوروبي قاطع ذلك المؤتمر كما فعلت كثير من الدول الأخرى.
ورداً على ذلك، حذر المسؤول عن السياسة الخارجية لدى الاتحاد الأوروبي، السيد جوزيف بوريل من أن ذلك سيدعو إلى استمرار: "التجنيد الاجباري، والاعتقال العشوائي، والاختفاء القسري، والتعذيب، والعنف الجسدي والجنسي، والتمييز في الوصول إلى السكن والأراضي والممتلكات، إلى جانب ضعف أو عدم توفر الخدمات الأساسية" وكل هذه الأمور تجعل من سوريا بلداً غير آمن.
إذ منذ عام 2011، لقي مئات الآلاف من الناس مصرعهم في سوريا، وأغلبهم مات بسبب العنف الذي مارسه الأسد وحلفاؤه، بحسب ما أوردته منظمات حقوقية. ناهيك عن اختفاء مئات الآلاف قسرياً في سجون الحكومة السورية (نظام الأسد)، حيث يتعرض الآلاف للتعذيب والقتل. ووسط موجة النزوح الداخلية والخارجية الهائلة، شهد ملايين السوريين تدمير بيوتهم وممتلكاتهم أو مصادرتها.
وقد تحدث لاجئون سوريون في لبنان لصحيفة ذا بوست عن خوفهم من الاعتقالات العشوائية والاحتجاز التعسفي، ومن التشرد، ومن الوضع العام الذي يتمثل بحالة الفوضى وعدم الالتزام بالقانون، من بين مخاطر أخرى في حال اضطرارهم للعودة، بعد تشجيع الحكومة اللبنانية على ذلك.
إذ وصف السوري إسماعيل محمد، 33 عاماً، فكرة العودة بـ"الخط الأحمر"، كونه يخشى أن يكون اسمه ضمن القوائم الموجودة لدى العديد من فروع الأمن في سوريا. وحتى لو تمكن من عبور الحدود، فلا شيء يضمن له أنه لن يعتقل أو يتعرض للاختفاء القسري، فقط لأنه من عفرين، تلك المنطقة ذات الغالبية الكردية الواقعة في الشمال السوري.
وحالياً، يكدح هذا الشاب في العمل في الحقول المحيطة ببرج رحال في شمال لبنان، هذا طبعاً عندما يكون هناك عمل.
إن بعض من عادوا أو يفكرون في ذلك برأي السيد فادي تمثلهم أمهات يسعين لضمان استكمال أولادهن لدراستهم، وذلك لأن لبنان يفرض كثيرا من القيود على تعليم السوريين.
ولهذا لم يكن الأمر بخيار بالنسبة لنجوى وهي امرأة مطلقة في الرابعة والثلاثين من عمرها، من مدينة حلب السورية، والتي تعيش في كوخ في المنية خارج مدينة طرابلس، إذ تقول هذه السيدة: "لا أستطيع العيش في سوريا إذا لم يكن لدي رجل"، فقد طلقت نجوى قبل الحرب، لكنها كانت تخشى أن تعيش كامرأة عزباء هناك بعد انهيار المجتمع السوري وتفسخه حسبما ذكرته.
وتعمل نجوى التي لم تخبرنا سوى باسمها الأول حفاظاً على خصوصيتها بصورة موسمية، وذلك عبر الاعتناء بأرض يملكها لبناني. غير أنها لم تحصّل الكثير، ولكن في هذه السنة، مع ارتفاع الأسعار بشكل كبير، بالكاد يكفي أجر يومين من العمل لسد نفقات الغذاء ليوم واحد حسبما ذكرت، كما أنها تستعد لليوم الذي سيتم فيه رفع إيجار بيتها أيضاً.
ثم إن نجوى بحاجة لأدوية لا يمكنها أن تجدها أو أن تتحمل نفقاتها لتعالج أمها العجوز العليلة. كما أنها بحاجة لموارد لا تتوفر لديها لتحمي ابنتها إيمان البالغة من العمر 18 عاماً، والتي طلبت الطلاق من رجل أربعيني لبناني تزوجته منذ مدة قريبة بناء على طلب من والدها، وهكذا تركت المدرسة، بالرغم من عشقها لدراسة اللغة العربية، وعادت مع بداية شهر كانون الأول الماضي، لتعيش مع أمها.
وهنا تعلق هذه الفتاة بالقول: "أحب أن أتعلم، ولدي آمال وأحلام وطموحات، إلا أن هذه السنة كانت الأقسى في حياتنا على كل الأصعدة".
المصدر: واشنطن بوست