تحدث إلى أي صديق لدى الكاتب هشام مطر، وأصدقاؤه كثر، عندئذ سيستحضر هذا الصديق تاريخه الأسود ويقول: هل تعرف كيف ينظر إلى الفن؟
ظهرت لدى مطر عادة تولدت مع سنينه الأولى في لندن، تلك السنين التي عاش خلالها حالة حزن كبيرة، وأخذ خلالها ينتقي لوحات فنية ويمضي ساعات مع كل منها كل أسبوع. إذ كان يمضي فترة استراحة الغداء في المتحف الوطني مع لوحات فيلاسكيز أو دوتشيو أو الأخوين لورينزيتي، حيث كان يتسمر أمام العمل الفني نفسه طوال أشهر إلى أن ينتابه إحساس بضرورة الابتعاد عنه. وبالرغم من كل هذا، يعترف معظم أصدقائه بأنهم لا يمكنهم مضاهاة مطر في اهتمامه المتواصل بالمتحف، إذ أقر أحدهم بأن صبره ينفد بعد 15 دقيقة، غير أنهم اتفقوا على أن هذه القدرة عنصر أساسي من شخصيته وطريقته في الحياة والتي تبدأ بالطريقة التي يمشي بها في المدينة وصولاً إلى الكتب التي يؤلفها.
ثم إن مشاهدة عمل فني برفقته ومقارنة الانطباعات التي تشكلت فيما بعد تبين للمرء بأن الشخص الوحيد الذي رآها بالألوان الكاملة هو مطر بحسب ما ذكره أحد أصدقائه، إذ تقول عنه صديقته جيني الهادف وهي كاتبة ومترجمة: "يتمتع بقدرة على تغيير الأجواء من حولك، وكأن الزمن قد توقف فأصبحت ترى كل شيء".
أصبح مطر مشهوراً بعدما كتب سيرته الذاتية التي نال عليها جائزة بولتزر، تحت عنوان: (العودة: الآباء والأبناء والأرض فيما بينهم)، وفي هذا الكتاب يتحسر مطر على بلده ليبيا وعلى أبيه الذي وقف ضد معمر القذافي وبقي مصيره مجهولاً، ولكنه بدأ مسيرته بأعمال أدبية من وحي الخيال، وكان ذلك مع روايتين رثائيتين صارمتين عن الأولاد في ظل غياب الآباء، فكانت بدايته مع رواية: (في بلاد الرجال) التي وصلت لقائمة البوكر القصيرة، أما روايته الجديدة: "أصدقائي" التي كتبها بعد 13 عاماً من الانقطاع فتمثل عودته إلى عالم الروايات.
ترصد هذه الرواية التي نشرتها دار راندوم هاوس يوم الثلاثاء الماضي، حياة ثلاثة ليبيين في المنفى، وهم يعيشون في لندن، وصداقتهم التي امتدت لعقود طويلة، وأولهم خالد وهو عاشق للكتب من بنغازي، ويعتبر محور القصة، ومصطفى الذي التقى به خالد في الجامعة في اسكوتلاندا، وحسام، وهو كاتب يكتنفه الغموض. تتعقب قصة الرواية حياتهم خلال فترة الربيع العربي، ومرحلة إسقاط القذافي والحلم بمستقبل سياسي جديد في ليبيا.
تقوم الرواية على موضوعات اختبرها مطر طوال سنين، وهي العزلة والاجتثاث من الجذور والأحزان التي تأتي بالجملة، ولكنها تدور أيضاً حول اكتشافه للصداقة بموضوعية أكبر، لأن هذا الموضوع أسره ورسم معالم حياته بدقة، بما أنه عاش بعيداً عن أهله منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره.
في مقابلة أجريت معه في داره بلندن، قال مطر، 53 عاماً: "إن العلاقات تبقينا أحياء"، ولكن في الوقت الذي تضحي فيه الروابط الأسرية والعلاقات الرومانسية محملة بالتوقعات، تصبح الصداقة العلاقة الأكثر إثارة بسبب حالة الاختلاط التي تعتريها، وهذا ما دفعه للقول: "تكون لدينا أكثر من علاقة صداقة عادة، وتتزامن كل تلك الصداقات مع بعضها بحكم العادة، وإن كان الحظ حليفاً لنا، فإن هذه الصداقات ستتحول إلى أطول الأنواع وأدومها".
النشأة والمصير
ولد مطر بمدينة نيويورك عام 1970 لأبوين ليبيين، إذ كان والده وقتئذ يعمل لدى الأمم المتحدة ممثلاً لليبيا بمهمة دائمة. وبعد مرور ثلاث سنوات، عادت أسرة مطر إلى ليبيا، ثم غادرت إلى القاهرة في عام 1979، بعدما تبين لها بأن أمورها باتت في خطر في ظل الحكم الاستبدادي للقذافي الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري في عام 1969. ثم مضت أكثر من ثلاثة عقود قبل أن يتمكن مطر من العودة إلى بلده.
في القاهرة، عاشت الأسرة حياة صاخبة ولكن يشوبها الحذر، حيث كانت تقيم حفلات عشاء كبيرة تفتح فيها مناقشات سياسية وأدبية ملؤها الحماس. ومن مصر، واصل الأب مقاومته للحكم العسكري بليبيا، وهذا ما جعله يترأس خلية للمعارضة كان مقرها في تشاد. وهكذا أخذ يسافر باسم مستعار وهو يعرف بأن عيون النظام الليبي تراقبه، ولهذا عندما سافر الابن ليقيم في مدرسة إنكليزية داخلية خلال أواسط فترة مراهقته، سجل باسم روبرت.
في عام 1990 تحول الكابوس الذي يتربص بأسرة مطر إلى حقيقة، بعدما اعتقلت الشرطة المصرية الأب واقتادته إلى ليبيا، حيث حكم عليه بالسجن في سجن أبو سليم بطرابلس، ذلك السجن الذي شهد مجزرة في عام 1996 راح ضحيتها نحو 1200 إنساناً وحدثت فيه أهوال أكثر من أن تعد أو تحصى. لم يصل لأسرة مطر أي جواب واضح حول ما حدث للأب أو حتى رفاته، على الرغم من الحملة الدولية الساعية لمعرفة مصيره وعدة رسائل تبادلتها الأسرة من نجل القذافي سيف الإسلام.
وهذا ما دفع مطر لأن يكتب في رواية (العودة): "أحسد الجنائز على نهائيتها، لأنني أشتهي هذا اليقين، يقين الطريقة التي تلف بها اليدان حول العظام، ويجري اختيار الموضع الملائم لهما، حتى يصبح بمقدورهما أن تربتا على أديم الأرض وأن تترنما بدعاء ما".
خلال الحوار، يتسم مطر بالوقار وسرعته في الضحك وتقديم مجموعة كبيرة من التلميحات والاقتباسات التي يستعيرها من المخرج السينمائي السويدي إنغمار برغمان، والروائي الفرنسي مارسيل بروست، والشاعر السوري نزار قباني.
عنه يقول الروائي بيتر كيري: "بوسع المرء أن يبقى مع هشام طويلاً، من دون أن يفكر كثيراً بالجرح الذي يحمله، والمتمثل بخسارته لبلده، ولأبيه، فضلاً عن مجمل المعاناة التي عاشها".
أصبحت لندن وطناً لمطر طوال مدة تجاوزت الثلاثين عاماً، على الرغم من أنه يدرّس عادة بكلية برنارد في فصل واحد بالسنة. أما زوجته ديانا فتعمل مصورة، وهكذا ينتج الثنائي عادة عملهما سوية، والذي يصفه مطر بأنه مشاركة حياة العقل مع حياة القلب برفقتها، وهذا ما يثري وجوده وكيانه إلى أبعد الحدود.
يخبرنا مطر بأن الأهل بارعون في تعليمنا كيف نحب، بيد أن الصداقة أهم برأيه لأنها تورطك بحياة شخص آخر بطريقة بعيدة كل البعد عن القدرية ولا تتصل بأي شيء له علاقة بقرابة الدم.
بدأ مطر تأليف كتابه الذي نشر حديثاً قبل عقد من الزمان، وكان في البداية عبارة عن قصة قصيرة تدور حول لقاء جمع ثلاثة رجال في مقهى لندني، بيد أنه بقي يعيش مع تلك الشخصيات، لدرجة أنه صار عندما يلاحظ شيئاً يشبه إحدى شخصياته أثناء ركوبه الحافلة أو يسمع حوارات بأصواتهم فإنه يعود ليدونه على الفور.
تسرد قصة رواية (أصدقائي) خلال جولة تجريها إحدى الشخصيات سيراً على الأقدام في أنحاء لندن عام 2016، وهذه الشخصية شخصية خالد. وأثناء عبوره للمدينة، تتكشف أحداث الرواية بأسلوب مستفيض ومريح، إذ يتذكر خالد سنواته الأولى في بنغازي حيث قرأ ما كتبه حسام للمرة الأولى، كما يفكر بحياته التي أسسها في المملكة المتحدة، ومشاعره المتضاربة، خاصة حيال وطنه، فقد تبدد التفاؤل الكبير الذي انتشر في أنحاء ليبيا عقب الثورة، ولهذا اختار كل صديق من الأصدقاء الثلاثة الذين أصبحوا في منتصف العمر الآن حياة مختلفة تمام الاختلاف عن حياته من قبل.
تقوم قصة الرواية على عدة أحداث حقيقية وقعت بعد الربيع العربي، أما اللحظة المحورية فيها فهي المظاهرة المناهضة للقذافي التي خرجت في لندن في عام 1984، والتي أصيب أثناءها كل من خالد ومصطفى، بعدما اتخذت الأمور منحى عنيفاً، أما مشاركتهم فيها فحرمتهم من العودة إلى بلدهم.
زراعة المسافة
وبما أن مطر عمل بشكل متقطع على رواية (أصدقائي) طوال سنين، لذا يشرح لنا إحساسه تجاه عمله كمؤلف يكره إحساس الشخص الذي وصل إلى الحفل مبكراً لأنه أخطأ في قراءة بطاقة الدعوة، وعن ذلك يقول: "أحتاج لوقت يمر بيني وبين نفسي أو بين الفترة التي ألفت فيها الكتاب، وبعض الأحداث التي شغلت الكتاب، أحتاج لأن أزرع مسافة محددة أو حالة تردد أو شكاً يقظاً".
إن المنعطفات الواقعية التي عاشها مطر في أعقاب الربيع العربي ساعدته على أن يتحضر لكتابة رواية، إذ تعتمد روايته (العودة) على ساعات من الشهادات التي أدلى بها سجناء سياسيون سابقون، بينهم عدد من أبناء عائلته، وقد جمع مطر تلك الشهادات عقب ثورة ليبيا. أما كتابه التالي: (شهر في سيينا)، فيركز على الفترة التي أمضاها المؤلف في إيطاليا وهو يدرس كثيراً من الفنانين الذين رفعت أعمالهم معنوياته خلال سنواته الأولى في لندن.
يعلق مطر على ذلك بقوله: "من الأمور التي تهمني الطريقة التي يتحور بها الوعي البشري وينتقل ويعبر ويحاول أن يقيس المسافة بين الحقيقة القابلة للتوثيق وأديم دواخلنا، وهذه المسافة بالنسبة لي تمثل الموضع الذي يحتله الأدب فعلاً، أي تلك المنطقة التي تضم كل ما لا يمكن ترجمته أو قوله".
في رواية (أصدقائي)، يسجل خالد في الجامعة بإدنبرا، ويقابل أستاذاً هناك يغير حياته، إذ خلال محاضرة عن قصيدة الشاعر لورد تينيسون: (في ذكرى A.H.H) وهي عبارة عن رثاء لأحد أصدقائه، يتحدث الأستاذ عن تجربتين لا يمكن ترجمتهما في هذا العمل، أولهما الصداقة التي لا يمكن للمرء أن يصفها لأي شخص آخر مثلها مثل كل حالات الصداقة، أما الثانية فهي تجربة الحزن التي مثلها مثل أي تجربة حزن أخرى تتسم بفظاعة شديدة لدرجة لا يمكن لأحد أن يعبر عنها تماماً.
وهذه المحاضرة يمكن أن تتحول إلى افتتاحية لرواية مطر، وعنها يقول: "إن قيض لي أن أتحدث عن السبب الأساسي، عن السبب الأهم والممتع على المستوى الفكري والذي جعلني أعشق الكتابة أو السبب الذي جعل من اللغة صنعة وحرفة بالنسبة لي، فسأتحدث عن القائلة بأن الأدب والكتابة محكومان بالفشل دوماً، لكن هذا الفشل فشل عبقري".
المصدر: The New York Times