شهدت الساحة السوريّة تحولاتٍ جذرية مع بداية هذا العام، ولم تكن منقطعةً عن السياقين الإقليمي والدولي، بل هي في حقيقة الأمر نتاجٌ متوقّعٌ أو منطقيٌ لهما. لعلّ مسار تطبيع غالبيّة الأنظمة العربية وتركيا مع نظام الأسد كانا أبرز عناوين هذه التحولات. يبدو للوهلة الأولى أنّ القراءة الروسية للمشهد الشرق أوسطي هي التي أتت أُكُلها، فموجة الربيع العربي لم تتوقف فحسب، لا بل واندحرت مخلّفة جراحًا عميقة جدًا في بنية المجتمعات العربية قاطبةً وصدوعًا في إرادة الشعوب يصعبُ ترميمها بسهولة. هذا هو بالضبط ما كانت تسعى إليه الأنظمة الخائفة من التحوّل الديمقراطي في المنطقة على اختلاف مواقفها واصطفافاتها، فليس صحيحًا أنّ جميع من انضوى تحت تسمية "أصدقاء الشعب السوري" كان فعلًا مع حقّ هذا الشعب بالانتقال من عصر الاستبداد والعبودية إلى فضاء الديمقراطية والحرية. لكن ما يميّز الموقف الروسي هو مباشرته وصراحته وثباته، لقد كان الجزء الكبيرُ، بل الجزء الأكبر من المتحاربين على الساحة السورية من الفريق الخائف من انتصار إرادة التغيير.
فشلنا إذن، نحن السوريين الثائرين على نظام الأسد، في تحقيق ما طرحناه شعارًا وهدفًا لنا، أي إسقاط النظام. كذلك فشلنا في بناء كيانٍ سياسي يحظى بشرعية شعبية ودولية بحيثُ يكونُ بديلًا عن النظام، أو قل ندًّا له بالحدّ الأدنى. تمّ تكريس منظومة العنف المتوحّش وسياسات تدمير الحواضر والمجتمعات لمنع حصول الانتقال السياسي، وتمّ الاحتفاء بهذا النهج من خلال مكافئة بطل الإنتاج الأعنف عبر التاريخ البشري، فلم يسبق حتى لرموز الديكتاتورية والوحشية مثل هتلر وستالين أن مارسوا أفعال الأسد في حواضر بلدانهم، وصحيح أنّ نتائج أفعالهم أدّت بشكل أو بآخر لنفس النتائج، لكن لم يكن بحسبانهم ولا بنيّتهم في أي يومٍ استهداف المدن والقرى بهذا الشكل المروّع من الهدم والتدمير. لقد أريد لهذا المثال أن يكون صارخًا لدرجة لا تُحتمل، بحيث تُصبح المقارنة جِدُّ مشروعةً ومجديةً مع المثال الآخر الذي قدّمته بعضُ أنظمة المنطقة، أي مثال الأسد أو نحرق البلد مقابل مثال خذوا بعض الفُتات في الاجتماع والاقتصاد ولا تقربوا السياسة أبدًا.
إنّ ارتباط نظام الأسد بالدورة الاقتصادية لحلفيه الإيراني والروسي لم يسمح له بالتعافي ولن يسمح، وبالتالي فهو، أي النظام، سيحاول تجربة الطريق الجديد الممدود له عربيًا برعاية صينية
يبدو الأمرُ حتى اللحظة سائرًا في قناة ما تشتهيه الأنظمة، وهذه المفارقة لم ترُقْ لحلفائهم من الأميركيين والأوروبيين على ما يبدو، واتّضح هذا الأمر جليًا مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة أولى، وبعد الخرق السياسي الكبير الذي حققته الصين برعاية مصالحة إيرانية سعودية من جهة ثانية. فليس من مصلحة هؤلاء التسليم بالرؤية الروسية لشكل النظام الشرق أوسطي الجديد، ولا بالدور الصيني الراغب بتعزيز الاستقرار الأمني تمهيدًا لغزو اقتصادي يعود على أصحابه بالتمدد والحلول مكان الغرب ولو على حساب إرادة شعوب المنطقة بالتحرر السياسي. هذا يجعل منطقة الشرق الأوسط ساحة للحرب المستمرة بأشكالٍ مختلفة، فلا يمكن أن تنسحب الولايات المتحدة وتترك للصين موطئ قدمٍ هنا، خاصّة أنّ هذه الأخيرة قد أرسلت بوارجها الحربية قبل أيام إلى غرب أفريقيا في سابقة لا مثيل لها وذات دلالات كبيرة أيضًا، كما لا يمكن للأوروبيين ترك الروس منتصرين هناك بينما يحاربونهم في أوكرانيا. لكن ما هي أدوات الحرب الجديدة التي يمكن لهؤلاء ابتداعها بعد أن فشلت أدواتهم التقليدية؟ وهل يمكن لنظام الأسد أن يلعب دورًا مساعدًا للأنظمة الإقليمية في تكريس مثالها مقارنة بمثاله؟ أم سيكون عقبةً كأداءَ في وجه نظام مستقرّ هو ذاته الذي تسعى له الصين بالشراكة مع دول الإقليم؟
إنّ ارتباط نظام الأسد بالدورة الاقتصادية لحلفيه الإيراني والروسي لم يسمح له بالتعافي ولن يسمح، وبالتالي فهو، أي النظام، سيحاول تجربة الطريق الجديد الممدود له عربيًا برعاية صينية. الملاحظ حتى الآن عجز النظام عن الإيفاء بالواجبات المطلوبة منه للانخراط الكامل والنهائي بهذه الدورة، فطبيعة الأدوات التي استعملها في مواجهة ثورة الشعب هي ذاتها التي تمنع اندماجه في هذا المسار بعد أن صارت (الأدوات) شريكًا له في السلطة، حتى ولو كان من باب الأمر الواقع لا من الباب الشرعي الذي يعمّدها كذلك دستوريًا وقانونيًا. من هذا الباب أتت زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي يوم الإثنين في 3/7/2023 إلى دمشق وحديثه من هناك عن تطبيق القرار 2254، وهو ما سبّب امتعاضًا من القائمين على البث التلفزيوني ودفعهم لقطعه. هكذا يفشل النظام إذن في لعب دور المثال المرعب القابل للاندماج في منظومة ثنائية الأبعاد، تحملُ جزرة الرفاهية باليد اليمنى والعصى أو البرميل باليد اليسرى. سيكون على المنظومة الإقليمية الانتظار بعض الوقت قبل اكتشاف استحالة إعادة تدوير هذا النوع من النفايات السامّة.
ما أثر مثل هذه الأدوات على نظامٍ أدمن اللاشرعية الشعبية والدولية، وما هو أثرها على نظامٍ لا همّ له سوى البقاء من دون النظر لأي اعتبار آخر، ولا التزام لديه حتى تجاه حاضنته بل وحتى تجاه أهمّ الأركان المؤسسة له والداعمة لبقائه؟
وهنا نعود للسؤال الأول، هل يمكن للغرب استخدام أدوات جديدة لإيقاف هذا المسار الذي تجلّى بإعادة تعويم الأسد إقليميًا؟ يبدو أنّ لدى الأميركيين والأوروبيين الكثير من الأدوات، ولعلّ أهمها العقوبات الأميركية التي لا تقتصر على النظام والشركات الأميركية، بل تتعداهما إلى أي طرف ثالث يدخل في علاقات اقتصادية مع النظام وفي أيٍّ من مجالات الأنشطة الخاضعة للعقوبات. لكنّ هذا الأداة يمكن تعطيلها كليًا أو جزئيًا كما حصل بعد كارثة الزلزال، إذ تمّ رفع بعض العقوبات مؤقتًا بحجّة إغاثة المتضررين والمناطق المنكوبة. هناك أيضًا أداة الملاحقات القضائية، وهذا ما فعلته هولندا بإقامتها دعوى ضدّ الدولة السورية أمام محكمة العدل الدولية بداعي خرقها التزاماتها بموجب معاهدة مناهضة التعذيب الموقّعة عليها، وهذا ما فعلته الإدارة الأميركية أيضًا من خلال قانوني قيصر ومكافحة الكبتاغون، وما تسعى لفعله من خلال السعي لاستصدار تشريعٍ يجرّم التطبيع مع نظام الأسد وإعادة تدويره. يصبّ أيضًا في هذا السياق السعي الأممي لملاحقة الانتهاكات الحاصلة في سوريا من خلال تقارير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ومن خلال جمع الأدلّة عبر الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، وأخيرًا من خلال المؤسسة المستقلة لجلاء مصير المفقودين في سوريا.
لكن يبقى السؤال على حاله، ما هو أثر مثل هذه الأدوات على نظامٍ أدمن اللاشرعية الشعبية والدولية، وما هو أثرها على نظامٍ لا همّ له سوى البقاء من دون النظر لأي اعتبار آخر، ولا التزام لديه حتى تجاه حاضنته بل وحتى تجاه أهمّ الأركان المؤسسة له والداعمة لبقائه؟ الحقيقة أنّ لا شيء من هذه الأدوات ناجعٌ أو يمكن أن يغيّر من طبيعة هذا النظام. لن تفلح المبادرة العربية في جرّ النظام إلى تطبيق القرار 2254، ولن تفلح جهود الصين في تهدئة المنطقة لإدماجها في مشروع الحزام والطريق، بل سيكون هناك استعصاء لا أفق لحلّه إلا بوجود وقائع كبيرة مثل سقوط النظام الإيراني أو حصول انقلاب في روسيا بحيث يطيح بداعميه القويين أو بأحدهما ويفتح ثغرة في هذا الجدار المصمت، فلن ينجزَ القانون ما استعصى على السياسة بكل أدواتها.