لأن فكرة أن إسرائيل قادرة على القضاء على حركة حماس وتحقيق نصر حاسم وواضح في حربها على قطاع غزة غير واقعية تماماً إن لم تكن غير مُمكنة على الإطلاق، فأن أحد الأسئلة الأساسية التي تتبادر إلى الأذهان تدور حول ما يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتحقيقه في غزة. من المعلوم أن نتنياهو وضع ثلاثة أهداف رئيسية للحرب وهي القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية ومنع أن تُشكل غزة مرّة أخرى تهديداً لإسرائيل. لا يعني وضع هذه الأهداف أنها قابلة للتحقيق، لكن نتنياهو لا يملك خياراً سوى وضع سقف عال للأهداف والمضي قدماً في الحرب حتى النهاية على أمل أن يُحقق نصراً ما يُساعده في إظهار القدرة العسكرية لإسرائيل على معاقبة أعدائها والتهرب من المصير السياسي القاتم الذي ينتظره في الداخل. وللوصول إلى هذه النتيجة، يعمل نتنياهو على ثلاث مسارات أساسية: مواصلة الحرب لأطول فترة مُمكنة، وضمان أن تبقى الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل في الحرب لأطول فترة مُمكنة، والرهان على أن تؤدي الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
الارتدادات الأمنية والاقتصادية للحرب، تعمل مع مرور الوقت على تشكيل رأي عام داخلي مُشكك على نحو متزايد بقدرة نتنياهو على إدارة فعالية للحرب لفترة طويلة
نظرياً، بمقدور نتنياهو مواصلة الحرب لأطول فترة مُمكنة لأنّه قبل أي شيء، لا يستطيع أن يُنهي هذه الحرب من دون أن يُحقق بعض الأهداف الواضحة على الأقل. لكنّ التوقعات شيء والواقع شيء آخر. إن كل يوم يمضي على الحرب من دون أن تتمكن إسرائيل من إنهاء إدارة حركة حماس لقطاع غزة واستعادة الأسرى، يعني أن نتنياهو يعمل على تعميق مأزقه في غزة بشكل أكبر. فمن جانب، تتعاظم الخسائر الإسرائيلية العسكرية والاقتصادية في الحرب بشكل لا يُمكن لحكومة نتنياهو أن تحتويه لفترة طويلة. ومن جانب آخر، تبدو قدرة إسرائيل على احتواء الغضب الدولي المتنامي من الحرب لفترة طويلة محل شكوك كبيرة وإن بدت الولايات المتحدة مُصممة على منح الغطاء السياسي والعسكري الكامل لها لمواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها. في غضون ذلك، فإن التداعيات الإقليمية لهذه الحرب، وإن كانت إسرائيل قادرة حتى الآن على احتوائها، مثل الهجمات التي يشنها حزب الله بشكل شبه يومي في الجبهة الشمالية أو الهجمات التي يشنها الحوثيون على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، قد تتحول إلى مُعضلة لا تقل خطورة على إسرائيل من معضلة غزة كلما استمرت هذه الحرب لفترة أطول. وفي الجبهة الداخلية، فإن الارتدادات الأمنية والاقتصادية للحرب، تعمل مع مرور الوقت على تشكيل رأي عام داخلي مُشكك على نحو متزايد بقدرة نتنياهو على إدارة فعالية للحرب لفترة طويلة.
حتى في الوقت الذي يُريد فيه نتنياهو إبقاء التركيز الإسرائيلي الداخلي منصباً بشكل أساسي على تحقيق أهداف الحرب، ويسعى للحفاظ على الدعم الأميركي له لتحقيق هذه الأهداف قبل أي شيء، فإن الأسئلة المتزايدة حول اليوم التالي لانتهاء الحرب ومستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تصنع مُشكلة أخرى لنتنياهو. فمن جانب، يُقاوم نتنياهو بشدة المساعي الأميركية والإقليمية لأن يكون للسلطة الفلسطينية دور رئيسي في إدارة غزة بعد الحرب. ومن جانب آخر، فإن تصاعد الزخم الدولي نحو إطلاق عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد الحرب تؤدي إلى تحقيق حل الدولتين، يزيد من رغبة نتنياهو في إطالة أمد الحرب لفترة أطول، ليس فقط من أجل محاولة تحقيق نصر في غزة، بل أيضاً من أجل إفشال أي جُهد دولي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. مع أن إدارة الرئيس جو بايدن، أظهرت دعماً غير محدود لإسرائيل في هذه الحرب، إلا أنها تتصدر الخطاب الدولي الجديد بشأن حل الدولتين. لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الإدارة الأميركية ترهن في محادثاتها مع المسؤولين الإسرائيليين مواصلة دعم الحرب بقبول تل أبيب بالدخول في عملية سلام تؤدي إلى حل الدولتين، لكنّ الدفع الأميركي بهذا الاتجاه، يُقلق نتنياهو وشركاءه المتطرفين الذين يرفضون قيام أي دولة للفلسطينيين.
إسرائيل تعتقد أن الدعم الأميركي لها سيكون أكبر بكثير مما هو عليه الآن في حال عودة ترامب للبيت الأبيض لأن الأخير تعهد بوقف الدعم العسكري لأوكرانيا
في ضوء ذلك، فإن رهان نتنياهو على تحول أميركي بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، قد يُساعده في مواجهة الضغط العالمي الجديد لتحقيق حل الدولتين خصوصاً إذا ما أدت الانتخابات إلى إعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. في ولاية ترامب الرئاسية، روجت واشنطن لمشروع "صفقة القرن" الذي يقوم على تحقيق دولة للفلسطينيين بدون أن تكون القدس الشرقية عاصمة لها. كما اعترف ترامب بالسيادة الإسرائيلية على القدس المُحتلة، ما جعل فكرة قيام دولتين مع تقاسم القدس كعاصمة لكليهما غير مُمكنة. إن عودة محتملة لترامب إلى البيت الأبيض، قد تؤدي إلى إعادة الزخم الأميركي لتحقيق مشروع "صفقة القرن" وليس لحل عادل وشامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس تقسيم القدس كعاصمتين لإسرائيل وفلسطين. علاوة على ذلك، فإن إسرائيل تعتقد أن الدعم الأميركي لها سيكون أكبر بكثير مما هو عليه الآن في حال عودة ترامب للبيت الأبيض لأن الأخير تعهد بوقف الدعم العسكري لأوكرانيا.
لا يزال على الانتخابات الرئاسية الأميركية ما يقرب من عام، وهي فترة انتظار طويلة بالنسبة لنتنياهو الذي سيتعين عليه لإنجاح رهانه على عودة ترامب إلى السلطة مواصلة الحرب على غزة لعام على الأقل ومحاولة فرض واقع جديد في قطاع غزة خلال هذه الفترة دون الحاجة إلى الاستجابة للضغوط الدولية بإطلاق مسار سياسي جديد مع الفلسطينيين لتحقيق حل الدولتين. ويبدو رهان نتنياهو على عودة ترامب مشابها إلى حد كبير لرهان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تحول في السياسة الأميركية يُنهي الدعم الغربي المفتوح لأوكرانيا. عملياً، استطاع بوتين إطالة أمد الحرب على أوكرانيا لنحو عامين من دون أن يتعرّض للهزيمة، والستاتيكو العسكري القائم في الصراع الروسي الأوكراني حالياً يبدو ملائماً لموسكو للحفاظ عليه حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكنّ الوضع أكثر تعقيداً على نتنياهو في هذا الرهان مقارنة ببوتين لاعتبارات عديدة على رأسها أنه بحاجة لتجنب تكريس الجمود في الستاتيكو العسكري القائم حالياً في غزة لفترة طويلة لأنّه يخدم حركة حماس بقدر أكبر من إسرائيل.