عملية تطبيع العلاقات السياسية الدبلوماسية بين النظام السوري وتركيا معقدة وشائكة وتعتريها مجموعة من العقبات والصعوبات لحساسية الملفات المتفاوض عليها، لا سيما ملف التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ووضع القوات التركية في شمال سوريا، وهما ملفان أمنيان.
كما تشكل الفواعل الدولية في الملف السوري دورًا بالغ الأهمية في عملية التأثير على عملية التطبيع، وهنا نتحدث عن إيران والولايات المتحدة الأميركية اللتين طلب منهما الرئيس أردوغان بتاريخ 6 يوليو/ تموز 2024 في تصريح أدلى به بعد مؤتمر أجراه عقب اجتماع دول حلف الناتو في نيويورك: "الولايات المتحدة وإيران يجب أن تكونا سعيدتين بهذه التطورات الإيجابية وتدعما العملية الرامية إلى إنهاء كل المعاناة في سوريا".
وبحسب هذا التصريح فإن هاتين الدولتين ترفضان التطبيع ولكل دولة مقاربتها المختلفة عن الثانية. إذن نحن أمام تطبيع ليس من السهل الوصول إليه، لكن أمام تحقيق المصالح في عالم السياسة تتنحى كل العقبات في مرحلة ما من عملية التفاوض.
النظام السوري من غير شك يدرك أهمية التطبيع مع تركيا من الناحية السياسية والاقتصادية، سياسياً ستكون خطوة متقدمة جدًا لتعويمه دوليًا بعد التعويم الذي حظي به على المستوى العربي.
أما المستوى الاقتصادي فنناقشه بشكل مفصل في سطور هذه المقالة التي تتناول الانعكاسات الاقتصادية على النظام السوري في حال تطبيع علاقاته مع تركيا، وكيف سيستغل النظام ذلك بتعزيز قبضته وسلطته على اقتصاد الدولة.
ومن المهم قبل ذلك أن نناقش الموقف الإيراني من عملية التطبيع لأنها قد تكون الخاسر الأكبر اقتصاديًا وسياسيًا من عملية التطبيع.
إيران ترفض تطبيع النظام السوري مع تركيا من منظور اقتصادي
قد لا تعارض إيران تعويم النظام السوري على المستويين العربي والإقليمي وعودة علاقاته السياسية الدبلوماسية مع كل دول العالم. لكن ما ترفضه طهران هو وقوع أي شكل من أشكال التطبيع الذي يضر بمصالحها ونفوذها في سوريا.
والدليل على ذلك عندما نقارن سلاسة تطبيع كل من السعودية والإمارات مع النظام السوري، والذي شجعته وباركته إيران ورأت فيه مصلحة للنظام السوري ولها، ولا ترى في الدولتين - الرياض وأبوظبي - تهديدًا مباشرًا لنفوذها ومصالحها في دمشق، إلا أن ذلك لا ينطبق على عملية التطبيع بين تركيا والنظام بحسب المقاربة الإيرانية، لأن شروط التوصل للاتفاق التي تضعها تركيا والتي وافقت عليها روسيا تضر بمصالح وبنفوذ إيران في سوريا، وتجعلها أكبر الخاسرين من هذه العملية على المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية. ونتناول في هذه المقالة مقاربة رفض إيران للتطبيع بين دمشق وأنقرة فقط من المنظور الاقتصادي.
إيران تعتبر سوريا منطقة نفوذ لها، وهي أحق في أن تحتكر أسواقها.
ترى إيران في تركيا منافسًا ليس فقط من الناحية السياسية والعسكرية بل من الناحية الاقتصادية أيضًا، فقد غزت المنتجات التركية العديد من أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا، وهذا بحد ذاته أضعف من الدور الإيراني الاقتصادي في المنطقة الجغرافية الإقليمية، وسوريا هي جزء من ساحة المنافسة الاقتصادية الشرسة بين الدولتين. فمن جهة تركيا، قد منحها موقعها الجغرافي ميزة عن إيران، حيث ستكون الصادرات التركية ومنتجاتها المتنوعة أساسًا للوصول إلى الأسواق السورية، وستكون كل زيادة في الصادرات التركية إلى مناطق النظام على حساب حصة المنتجات الإيرانية، وهذا يعني خسارتها للأسواق السورية لصالح تركيا، وهو ما تسعى طهران لمنعه.
وإيران تعتبر سوريا منطقة نفوذ لها، وهي أحق في أن تحتكر أسواقها، وقد ترى أن المنتجات التركية أكثر تقبلًا من منتجاتها في الأسواق السورية، لذلك تحرص بشدة على عدم عودة التبادل التجاري مع مناطق سيطرة النظام.
من الناحية السياسية لا شك أن النظام يسعى للتطبيع ليس فقط مع تركيا بل مع كل المنظومة الدولية، إلا أن تركيا تشكل ميزة للنظام السوري إذا ما استطاع التطبيع معها لما قد تمنحه أنقرة للنظام من فرص على المستوى الاقتصادي، أولًا لقرب تركيا الجغرافي واشتراكها مع النظام بحدود برية وبحرية. ثانيًا، بسبب الحاجة الملحة في أسواق النظام للسلع الغذائية والصناعية.
إيران ستبذل قصارى جهدها لمنع تطبيع النظام السوري للعلاقات السياسية مع تركيا في سبيل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية.
وبعدما هيكل النظام السوري اقتصاد البلاد بما يتناسب مع مصلحته في تمكين نظامه على مؤسسات الدولة، يتابع الاستحواذ على كامل الموارد المالية من الأنشطة الاقتصادية في البلاد. وقد يجد النظام في تطبيع العلاقات السياسية مع تركيا فرصة كبيرة لتحقيق موارد مالية تعود عليه وليس على الاقتصاد والمجتمع السوري، بمعنى سيعمل النظام على احتكار التجارة مع تركيا عبر شركات تكون واجهة له. والأهم من ذلك، سوف يستخدم التبادل التجاري مع تركيا كجسر للالتفاف على العقوبات الدولية من خلال التعامل مع شركات تركية أو فتح شركات في تركيا تستورد ما يحتاجه النظام من الأسواق الدولية ليتم تصديره إلى مناطق سيطرته.
نستنتج من سطور هذه المقالة أن إيران ستبذل قصارى جهدها لمنع تطبيع النظام السوري للعلاقات السياسية مع تركيا في سبيل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية.
أما النظام فهو يرغب بشدة في تطبيع العلاقات مع تركيا لما يحققه التطبيع من مزايا اقتصادية للحلقة الضيقة للنظام والمحسوبين عليه، وبأن كل نشاط اقتصادي يمكن أن يغدق عليه الموارد المالية هو تمكين لسلطته على سوريا ومؤسساتها.
4o