مع سقوط نظام الأسد، أعيد تسليط الضوء على القضاء السوري، الذي نخر فيه الفساد خلال العقود الماضية. فجهاز القضاء الذي كان يفترض أن يكون حامي العدالة، تحوّل إلى أداة لخدمة النظام الأمني السابق.
واليوم، ومع تشكيل الحكومة الانتقالية، بدأ الحديث عن محاولات جادة لاستعادة نزاهة القضاء وبناء مؤسسة قضائية تخدم الشعب السوري.
وقال مصدر في نقابة المحامين بدمشق لموقع تلفزيون سوريا، إن المحاكم في فترة حكم النظام كانت غارقة في الفساد والرشاوى، إضافة إلى التدخلات الأمنية التي شوهت سير العدالة.
وأوضح المصدر الإجراءات الجديدة التي بدأت الحكومة الانتقالية بتطبيقها في المؤسسات القضائية، لضمان نزاهة القضاء وإعادة تنظيمه.
كما تحدث المصدر عن الشائعات التي انتشرت حول القضاء في سوريا بعد سقوط النظام، والتي تحدث بعضها عن تعيين قضاة أجانب في السلك القضائي أو فرض الحجاب على السيدات العاملات كقاضيات أو محاميات.
وأوضح المصدر لموقع تلفزيون سوريا تفاصيل عن الهيمنة الأمنية والحزبية على المؤسسات القضائية والمهنية حجم الفساد الذي كان يعصف بالقضاء السوري ونقابة المحامين في فترة حكم نظام الأسد الأب والابن.
وكشف المصدر أن وزارة العدل والمحاكم التابعة لها كانت تغرق في بحر من الفساد والرشاوى، مشيرا إلى أن وزير العدل في النظام البائد ركّز جهوده على إرضاء الأجهزة الأمنية وتوجهات مسؤولي النظام بدلاً من السعي لضمان سير العمل القضائي أو تحقيق العدالة للمواطنين.
وأضاف أن القضاء في تلك الفترة شهد انتهاكات جسيمة، من هدر حقوق المواطنين إلى نقل القضاة الذين رفضوا تنفيذ أوامر الوزير غير القانونية بشكل عشوائي إلى أماكن هامشية، ما أدى إلى شلل شبه كامل في المرفق القضائي وإطالة أمد التقاضي.
وفيما يتعلق بنقابة المحامين، أوضح المصدر أن النقابة كانت تدار بشكل كامل من قبل قيادة حزب البعث والفروع الأمنية، فالانتخابات النقابية كانت تجرى تحت سيطرة الحزب عبر ما يسمى "الاستئناس الحزبي"، حيث يتم اختيار المرشحين بناءً على المحسوبيات والولاءات الحزبية.
وأشار إلى أن هذه الانتخابات في النقابة كانت شكلية بحتة، إذ يتم توزيع قوائم انتخابية مطبوعة لضمان فوز مرشحي الحزب، بينما يعيّن رؤساء الفروع بقرارات صادرة عن قيادات الحزب، في مخالفة واضحة لقانون تنظيم مهنة المحاماة.
وهذا الواقع انعكس بشكل كبير على العدالة في سوريا، حيث كانت الانتخابات المهنية والقضائية خاضعة تماما للولاءات السياسية والأمنية، مما جعل سلك القضاء والنقابة يعوم على بحر من الفساد والمحسوبية، وفقا للمصدر.
هروب القضاة الفاسدين بعد سقوط النظام
ويعتقد المصدر أن نسبة كبيرة من القضاة في سوريا يتلقون الرشاوى، موضحا أن هؤلاء القضاة كانوا ينقسمون إلى فئتين: الأولى تضم من كانوا يقلبون الحق ويهدرون العدالة لصالح من يدفع مبالغ أكبر، والفئة الثانية من القضاة كانت تطلب مبالغ صغيرة نسبيا لتسريع البت في القضايا.
وأضاف المصدر أن العديد من القضاة الفاسدين الذين استفادوا من النظام السابق، وارتكبوا تجاوزات تحت مظلة القانون، اختاروا الهروب أو الاختفاء بعد سقوط النظام خوفا من المحاسبة.
في المقابل، يسعى بعض هؤلاء القضاة الفاسدين والذين مازالوا في البلاد إلى تبييض صفحاتهم والتقرب من الحكومة الانتقالية، في محاولة لتجنب المحاسبة أو اعتقادا منهم بأن المتضررين قد نسوا جرائمهم السابقة.
أنواع فساد القضاة: من الدعاوى التموينية إلى تثبيت العقارات
أوضح المصدر أن فساد القضاة في عهد النظام السابق لم يقتصر على نوع محدد من القضايا، بل شمل مختلف المحاكم والدعاوى المنظورة، بدءا من دعاوى الصرافة والتموين إلى دعاوى الحيازة، مؤكدا أن هذه الدعاوى لم تكن تخلو من دفع مبالغ مالية طائلة لضمان تسريع أو توجيه الأحكام لصالح من يدفع أكثر.
وأشار المصدر إلى مثال شائع يعكس حجم الفساد، وهو دعاوى تثبيت بيع العقارات الإقرارية، حيث يلجأ البائع والمشتري إلى المحكمة لإنجاز عملية البيع والشراء قضائيا ثم تنفيذ الحكم لدى مديرية المصالح العقارية لتسجيل المبيع، موضحاً أن الأطراف كانت تلجأ لهذه الطريقة لتجنب الحوالة البنكية المطلوبة، التي تفرض سداد ما يعادل 50% من قيمة العقار عبر المصارف، وهي عملية مرهقة ومكلفة بسبب تدهور قيمة الليرة السورية.
وكان بعض القضاة يتلقون مبالغ مالية لتسهيل وتسريع فصل مثل هذه القضايا مستغلين قدرتهم على المماطلة في بتها مما يعرقل إتمام صفقات البيع، وهذا يظهر حجم الانتهاكات التي طالت حقوق المواطنين.
إصلاحات وتعيينات جديدة في القضاء
وأكد المصدر الخاص في نقابة المحامين بدمشق لموقع تلفزيون سوريا أن الحكومة الانتقالية عملت على إجراء تعيينات مهمة لإعادة تنظيم العمل القضائي والنقابي في سوريا.
ولفت إلى أنّ أبرز هذه التعيينات كان تعيين وزير العدل الجديد، شادي الويسي، الذي تسلم المنصب من وزير العدل السابق أحمد السيد.
وأوضح المصدر أن الوزير الجديد لم يقم بإقالة القضاة أو الموظفين، بل أصدر توجيهات باستمرارهم في دوامهم لضمان الحفاظ على الأضابير القضائية وعدم تسجيل دعاوى جديدة خلال الفترة الانتقالية.
كما أكد الوزير في اجتماع مع القضاة أن حقوقهم المالية، بما في ذلك الرواتب وعوائد طابع اللصاقة القضائية، محفوظة بالكامل.
على صعيد آخر، سحب الوزير جميع الأختام من المحامين العامين في دمشق وريفها لضمان السيطرة على العمل القضائي وتنظيمه.
أما نقابة المحامين، فقد انتقلت إدارتها إلى نقابة المحامين السوريين الأحرار، التي فوضت المحامي أحمد دخان وعددا من الأعضاء المرافقين له لإدارة النقابة المركزية بشكل مؤقت.
وألغت النقابة القرارات الصادرة عن النقابة السابقة بعد تاريخ 8 كانون الأول 2024، مع السعي لإجراء انتخابات نزيهة وقانونية لإعادة تشكيل مجالس الفروع، بحسب المصدر,
هل العمل القضائي متوقف؟
أكد المصدر أن القضاء توقف عن العمل لفترة زمنية محدودة، وفق توجيهات وزير العدل في الحكومة الانتقالية، شادي الويسي. إلا أنّ بعض الأنشطة ستستمر، فكتاب العدل ما زالوا ينظمون الوكالات الإدارية التي لا تشمل عمليات البيع، إضافة إلى منح الوصايات الشرعية للقاصرين من قبل القاضي الشرعي، وتنظيم عقود الزواج أيضا مستمر، وذلك على اعتبار أنّ هذه الأنشطة تعتبر حيوية لضمان عدم تعطيل مصالح المواطنين الأساسية خلال فترة توقف العمل القضائي. على أن تستغل المحاكم فترة التوقف الحالية لتدوير الأضابير وتنظيمها.
ووفقا للمصدر، أعلن الوزير أن المحاكم ستستأنف عملها تدريجيا، حيث من المقرر أن تبدأ المحاكم في دمشق عملها بتاريخ 6 كانون الثاني 2025، بينما ستبدأ محاكم ريف دمشق قبل ذلك بيوم واحد، في 5 كانون الثاني 2025.
أما فيما يتعلق بمحاكم الحسكة، فقد أشار المصدر إلى أنها لا تزال تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مما يعيق استئناف العمل القضائي هناك فيها في الوقت الراهن.
هل جرى منع النساء من العمل في القضاء وفرض الحجاب؟
تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي شائعات بأن السلطات الجديدة فرضت على النساء ارتداء الحجاب في المحاكم ووصلت بعض الشائعات للادعاء بمنع النساء من ممارسة أعمالهن في السلك القضائي.
وفي هذا الصدد، نفى وزير العدل في الحكومة الانتقالية، شادي الويسي، بشكل قاطع الشائعات التي تحدثت عن منع النساء من ممارسة أعمالهن كمحاميات أو فرض الحجاب عليهن، وفقاً للمصدر.
وقال الوزير خلال اجتماع عقده مع القضاة في دمشق وريفها، إن مسألة اللباس هي حرية شخصية لكل فرد، مشددا على احترام الحكومة الانتقالية لدور المرأة في المجتمع، سواء كقاضيات أو محاميات، وعدم إجراء أي تغييرات من شأنها أن تنتقص من حقوقهن، لافتا إلى أن "الإسلام ذاته يعزز من مكانة المرأة ودورها، ولم يمنعها من العمل في أي مجال".
وأشار المصدر إلى أن الوزير أكد احترام الحكومة لمعتقدات جميع الأديان والطوائف، وأنه لن يتم فرض الحجاب أو أي لباس معين على أي شخص، مشددا على أن تعزيز دور المرأة في المجال القانوني والقضائي هو جزء من رؤية الحكومة الانتقالية لمجتمع قائم على العدالة والمساواة.
هل عيّن قضاة غير سوريين في سلك القضاء؟
ومن بين الشائعات أيضا، جرى تداول أنباء تفيد بتعيين قضاة أجانب في المحاكم السورية، وهذا ما نفاه المصدر مشددا على أنه لا صحة للأنباء المتداولة حول تعيين قضاة غير سوريين في سلك القضاء السوري، بما في ذلك ما أشيع عن تعيين شخص يدعى "أبو صهيب" أو "أبو حذيفة" المعروف بـ"الأقرع" في القصر العدلي بحمص.
وأوضح المصدر أن أحد الشروط الأساسية لتعيين أي قاضٍ في سوريا هو حمل الجنسية السورية، وهو شرط لم يتم تجاوزه حتى الآن من قبل الحكومة الانتقالية أو وزير العدل الحالي، مضيفا أن الحكومة المؤقتة ملتزمة بالقوانين المنظمة لعمل القضاء ولم تتخذ أي قرارات تخالف هذه الشروط، مردفاً أن التعيينات القضائية تتم وفق "ضوابط قانونية صارمة لضمان نزاهة واستقلال القضاء".
خطوات مرتقبة لإصلاح القضاء والتعامل مع الفاسدين
وبخصوص الإصلاحات المرتقبة في السلك القضائي خلال الفترة المقبلة، كشف المصدر لموقع تلفزيون سوريا أن الحكومة الانتقالية بصدد اتخاذ خطوات ملموسة لإصلاح سلك القضاء في الأيام القادمة.
وأوضح أن من بين هذه الخطوات إجراء دراسة شاملة لتقييم أداء القضاة السابقين، حيث بات الوسط القضائي مكشوفا للجميع، والقضاة النزيهون والفاسدون معروفون بشكل واضح.
وأشار المصدر إلى أنه في حال تم تقديم أدلة تثبت تورط أي قاضٍ في الفساد أو الرشوة، فيعرض للعزل وفق الإجراءات القانونية المتبعة. كما ستتم محاسبة القضاة الذين تلطخت أيديهم بالدماء أو اضطهدوا المظلومين في المحاكم العسكرية أو الاستثنائية.
على صعيد آخر، أوضح المصدر أن هيئة المعهد القضائي العالي، برئاسة المستشار خالد شبيب، قدمت توصيات إلى حكومة الإنقاذ لمراجعة وإلغاء القوانين الجائرة التي صدرت خلال حكم حافظ وبشار الأسد. ومن أبرز هذه القوانين:
- قانون محاكم أمن الدولة والمحاكم العسكرية.
- قانون الإصلاح الزراعي الذي تسبب بنزع الأراضي من المزارعين.
- قرارات تملك المستأجرين القدماء.
- قانون الاستملاك للمصلحة العامة.
وأكد المصدر أن هذه التوصيات تتضمن تشكيل لجنة قانونية لمراجعة هذه القوانين وإلغائها بما يتماشى مع بناء نظام قضائي عادل.
واختتم المصدر بالقول إن سقوط النظام السابق جاء نتيجة حراك شعبي كبير، أدى إلى انهيار منظومة الفساد والقمع، وأن إعادة بناء القضاء النزيه سيسهم في إرساء العدالة وإعادة الحقوق إلى أصحابها في سوريا الجديدة.