طرحت ثورات الربيع العربي أسئلة كثيرة على المثقفين والسياسيين والمفكرين، وأعادت إلى الواجهة قضايا بالغة الأهمية كانت قد نحيّت جانبا، لابل تم تكفير بعضها وتخوين من يتكلم بها.
من الديمقراطية إلى العلمانية، والمواطنة، وقوانين الأحزاب، والدساتير، وإدارة الاقتصاد، والثقافة و..و... إلخ، بتكثيف شديد لقد أحدثت الثورات العربية ما يشبه "التسونامي" في مستنقع المجتمعات والدول العربية الراكد منذ زمن طويل.
في مجريات هذه الثورات كلها برزت المؤسسة العسكرية كعامل حاسم في مصير هذه الثورات، وفي رسم مستقبل هذه الشعوب، ورغم محاولة من فجروا هذه الثورات منذ بدايتها تحييد هذه المؤسسة، ومخاطبتها كمؤسسة محايدة في حقل السياسة، إلا أن الوقائع أثبتت أن قيادات هذه المؤسسة لاتزال تعتبر السياسية حقلها الأهم، وهذا مادفع معظمها لأن تغادر وظيفتها الأساس، ودورها الحقيقي في الدولة الحديثة، وتتجهه إلى السياسة والاستيلاء على السلطة بالقهر والغلبة.
طوال عمر الدول العربية القصير نسبيا، والذي بدأ في معظمها بعد استقلالها، كان للمؤسسة العسكرية دورها المحوري في تاريخ هذه الدول، ولعل العامل الأهم في تكريس دورها هذا إنما نشأ أساسا بسبب الأهمية الجيوإستراتيجية لهذه المنطقة، واستهدافها من قوى الخارج، وليس قيام دولة "إسرائيل" سوى التجلي الصارخ لهذا الاستهداف، إلا أن هناك أيضا تجليات كثيرة بالغة الأهمية تتجلى بدعم هذه المؤسسة لاستلام السلطة في معظم بلدان هذه المنطقة، مع ما يعنيه هذا من قيام دول مسخ، تتبع للخارج، وتعتمد القمع كوسيلة أساسية للحكم، وتبقى هشة وقابلة للانهيار فيما لو تطلبت مصلحة الخارج ذلك.
إذا كانت الديمقراطية في جوهرها تعني إزاحة صيغ الحكم المطلق، وتبني الحكم المنتخب، فهل يمكن لمؤسسة يرتكز جوهرها على الخضوع والتراتبية الصارمة، أن تسهم في إرساء نظام ديموقراطي؟
يضاف إلى الاستهداف الخارجي بوصفه معززا لتكريس سيطرة المؤسسة العسكرية على السياسة والسلطة، عوامل أخرى معززة أيضا، ولا تقل أهمية، منها هشاشة النخب السياسية وتمثيلاتها، والدور التاريخي التابع المتملق والمحابي الذي لعبته المؤسسة الدينية الرسمية للسلطات الحاكمة، وغياب دور المثقفين والمفكرين، وأيضا الطبيعة الإثنية أوالقبلية أو الطائفية لمجتمعاتنا.
إذا كانت الديمقراطية في جوهرها تعني إزاحة صيغ الحكم المطلق، وتبني الحكم المنتخب، فهل يمكن لمؤسسة يرتكز جوهرها على الخضوع والتراتبية الصارمة، أن تسهم في إرساء نظام ديموقراطي؟
يذهب معظم السياسيين والمثقفين العرب المؤيدين لفكرة لعب المؤسسة العسكرية دورا في إقامة نظام ديمقراطي للاستشهاد بالدول الديمقراطية المعاصرة، حيث يحجب عن هذه المؤسسة حق اختراق حقل السياسة، وتلزم بالخضوع للسلطة المدنية المنتخبة، وتكون وظيفتها حماية الفضاء العام، والسلطة المنتخبة، وحماية الدستور والقانون المعمول بهما لأنهما المنظمان لعلاقات المجتمع، متجاهلين السياق التاريخي الذي أوصل هذه الدول إلى صيغة هذه العلاقة، ومتجاهلين أيضا قوة ودور الأحزاب السياسية، وحضور المجتمع المدني وقوته، والعلاقات الاقتصادية التي تحكم هذه الدول.
هنا لابد من مواجهة السؤال المعضلة، وهو كيف يمكن الوصول إلى مرحلة القوة اللازمة سياسيا وثقافيا ومدنيا في مجتمعاتنا كي تتمكن من تأطير عمل المؤسسة العسكرية، وحصرها في وظيفتها التي يحددها لها الدستور والقانون، وضمان عدم تعدّيها على الحقل السياسي في مجتمعاتنا المهددة بالاحتراب الأهلي، والمهددة بالتقسيم، والمهددة من الخارج، وهل يمكن هذا أساسا إلا في المجتمعات التي عرفت تحولا ديمقراطيا حقيقيا؟
إن عملية التحول الديمقراطي لمجتمع ما ليست وليدة لحظة الثورة، وليست وليدة انقلاب ما على السلطة، إنها مسار طويل يبدأ أولاً وأساساً من انهيار النظام القديم ليس بأشخاصه فقط، بل بأدواته أيضا، واختيار القوى السياسية الفاعلة للديمقراطية كنظام عام يحكمها في تنافسها على تولي إدارة البلاد، والأهم هو ضمان عدم التنكر للديمقراطية بعد وصول جهة ما للسلطة، فمعظم التجارب الديمقراطية في بلادنا أجهضت بعد تمكن جهة سياسية من الوصول للسلطة، وانقلاب هذه الجهة بعد وصولها على الصيغة الديمقراطية، وغالبا ما يشكل هذا الانقلاب ذريعة لعودة الجيش للاستيلاء على السلطة.
الأصعب في مسيرة التحول الديمقراطي في مجتمعاتنا هي الفترة التي تعقب انهيار النظام القديم، والتي تترافق عادة مع فوضى، وبروز عصبيات ترى استعمال العنف حقاً لها يمكنها ممارسته مستندة في ذلك إلى حائط آيديولوجي، أو مقدس ديني يلبس عنفها ثوب القداسة أو الحقيقة المطلقة.
في تجارب دول عديدة كان لوجود تكتل ديمقراطي حقيقي مؤطر بتحالف وطني واسع من قوى سياسية رئيسية دور محوري في عملية التحول الديمقراطي، وبالمقابل فإن حالات أخرى فشل فيها التحول الديمقراطي وكان السبب الأهم في فشلها هو انقسام القوى السياسية، وتواطؤ بعضها مع المؤسسة العسكرية.
ما يجري ترتيبه الآن في معظم دول هذه المنطقة هو وأد عملية التحول الديمقراطي، وتكريس هيمنة معلنة أو مقنعة للعسكر على السلطة، وبالتالي استنقاع هذه المجتمعات في تبعيتها وخضوعها، والأخطر من هذا هو ذهاب بعض القوى السياسية لتبني وجهة النظر الداعية إلى تمكين الجيش من السلطة في المرحلة الانتقالية، لابل قبول بعض القوى للانخراط في لعبة سيطرة الجيش وأن تصبح جزءا من البنية العسكرية الحاكمة للدولة والمجتمع، وبالتالي فإن السؤال المهم هنا أيضاً هو كيف يمكن ترسيخ النظام الديمقراطي الوليد، وكيف يمكن الحد من المخاطر التي تهدد الديمقراطية؟
لعل الضمانة الأساسية هنا إنما تكمن في قوة المجتمع المدني والقوى السياسية، وعدم خضوعهما لنفوذ المؤسسة العسكرية، وتحديد ضوابط صارمة لتدخل الجيش في الشأن الداخلي، وخضوع المؤسسة العسكرية لرقابة مدنية تحدد ميزانيتها وتعين قادتها، وتمتلك قرارها.
لاشيء يوقف إعادة إنتاج ديكتاتورية عسكرية تحكم سوريا إلا قيام تحالفات سياسية حقيقية بين قوى سياسية ديمقراطية، تمثل مصالح مجتمعاتها
في الحالة السورية البالغة التعقيد سيكون من الضروري تدخل الجيش في المرحلة الانتقالية، فهو من سيتولى جمع السلاح، وهو من سيمكّن القيادة السياسية المدنية من حكم البلاد، وهو من سيحمي وحدة الدولة، لكن هل يمكن القيام بكل هذه المهام اعتمادا على التركيبة الحالية للجيش أو بتعديلات شكلية، أم إننا بحاجة ماسة لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية كمقدمة لأزمة لضمان قيام ديمقراطية حقيقية؟
لاشيء يوقف إعادة إنتاج ديكتاتورية عسكرية تحكم سوريا إلا قيام تحالفات سياسية حقيقية بين قوى سياسية ديمقراطية، تمثل مصالح مجتمعاتها، وترى في الديمقراطية شرطا أساسيا لنهوض المجتمع، وليس وسيلة للوصول إلى السلطة، تحالفات تكون قادرة على تأطير عمل المؤسسة العسكرية، ومنع تغولها على السياسي والمدني والثقافي والإعلامي والاقتصادي والديني و..و..
إنها المهمة التي تقارب المستحيل، لكنها المهمة التي لا بديل لها.