قبل كلّ كلام لا بدّ من التركيز على أنّه لا خصوصيّة للسويداء أكثر من سوريّتها وبين قوسين عروبتها، وأنّه لا يمكن تحميل أهلها أكثر من طاقتهم، وبالتالي لا بدّ من ضبط سقف التوقعات ضمن إيقاعٍ لا نريد جميعًا له الخفوت، كما لا نريد له بنفس الوقت الخروج عن محوره الوطني الجامع. أمّا الموقف الذي كان للسويداء وأهلها الأحرار الأكارم منذ بداية الثورة، فقد بدأت تتبدّى الآن ملامحه بشكل أكثر وضوحًا، بما يضيء على عمقه وتجذّره في النسيج الوطني السوري.
لم تخلُ السويداء بطبيعة الأحوال من أصوات معزولة هنا وهناك تغرّد خارج سرب التوافق السوري العام، لكنّها كانت على الدوام شواذّ واستثناءات تؤكد القاعدة، وهذا هو الخطاب المُعلن حتى اللحظة، ويمكن التقاط كثير من محاوره في كلمة الشيخ الهجري قبل أيام. ومن هذه الزوايا يتوجّب، برأينا المتواضع، مقاربة النظر وتسديده على تفاعلات الأحداث المتسارعة هناك من جهة، ومن جهة ثانية ربطه بمجمل التطورات في الملف السوري إقليميًا ودوليًا، وبالتحركات الشعبية في حوران وريف دمشق والساحل وبعض أحياء حلب، إضافة للشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام.
ثمّة أخطارٌ جمّة مُحدقة بهذا الحراك الشعبي، لعلّ أقلّها القمع المباشر بالسلاح، وهو مستبعد حتى اللحظة، وقد يكون من بينها فتح معارك الخطف المتبادل بين مدن السهل والجبل التي كان يقوم بها عن طريق أتباعه من قادة العصابات الممولة من جهاز المخابرات العسكرية
لن يكون بمقدور نظام الأسد وصف أهل السويداء بالتكفيريين ولا الإرهابيين ولا المتطرفين، ولن يكون له من سبيل لدمغ حراكهم السلمي الوطني الراقي بنفس ما دمغ به حراك السوريات والسوريين ربيع 2011، وسيكون لأيّ تحرّك ضدهم تأثير مدمًّر على سرديته القائمة على كذبة "حماية الأقليات"، والتي بالمناسبة لاقت رواجًا عند كثير من السوريين والعرب وتلقفتها بعضُ الدول بكل ترحاب لأسباب تخصها قبل أن تخصّ النظام. لكن كيف سيشيطن هذا النظام حراك أهل السويداء، وهو دينه وديدنه منذ أوّل صرخة حرية قبل 12 سنة؟ الطريقة الأقرب لمنطقه المذكور أعلاه، هي الاتهام بالعمالة للخارج. إنّ التصريح أو التلميح حسب المآل بالتبعية لإسرائيل والانجرار وراء مخططها لتدمير صخرة الصمود والتصدّي هو النموذج المعتمد حتى اللحظة! ولهذا خلفية تستخدم مبدأ المغالطات المنطقية بربط أهل السويداء بالمكوّن الدرزي في الجولان والجليل، والذي له بحكم الواقع وجود على الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل، وبالتالي اعتبارهم لأنهم كذلك عملاء، رغم أنّه يستخدم ورقتهم هذه ذاتها للمطالبة باستحقاقات أخرى ذات صفة وطنية عندما يستفيد منها قي مجالات تخصّ بقاءه في الحكم.
ثمّة أخطارٌ جمّة مُحدقة بهذا الحراك الشعبي، لعلّ أقلّها القمع المباشر بالسلاح، وهو مستبعد حتى اللحظة، وقد يكون من بينها فتح معارك الخطف المتبادل بين مدن السهل والجبل التي كان يقوم بها عن طريق أتباعه من قادة العصابات الممولة من جهاز المخابرات العسكرية. كما يمكن أن يعمد لاستخدام ورقة داعش كما فعل قبل أعوامٍ خلت حين سهّل دخول عناصرها من جهة البادية الشرقية لذبح السكان العزّل بعد أن سحب قواته المسلحة هناك.
كذلك ثمّة مؤشرات تدلّ على أنّه كان قد سهّل عودة مجموعات من مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب إلى الجنوب، تُعدّ هذه بالمئات لا بالعشرات من عناصر جبهة النصرة الإرهابية ومجموعات حرّاس الدين وغيرهم، وهؤلاء لا حاجة للشرح والاستفاضة في أدوارهم القذرة التي طالما لعبوها لمصلحة النظام في مفاصل كثيرة من تاريخ الثورة. هذا كلّه ولم ندخل بعد في ساحة التحديات الإقليمية، والتي لها تأثيرها الكبير على مجريات الأحداث، خاصّة أنّها انساقت وراء وهم إعادة تأهيل نظام الأسد أو على الأقل فتح باب الفرصة الأخيرة أمامه للعودة إلى صفوف هذه المنظومة. ثمّ هناك ساحات الحرب أو على الأقل المواجهة المفتوحة عالميًا بين الغرب من جهة والروس والصينيين من جهة ثانية.
السؤال هنا: هل يمكن تحويل نقاط التهديد والضعف هذه إلى فرُصٍ ونقاط قوّة، وكيف يمكن تحقيق ذلك؟ كيف يمكن استثمار المواقف والتصريحات الدولية المتجاوبة مع الحراك السلمي أو "الهبّة الجديدة" أو "الانتفاضة الراهنة" وكلها مسميات بين قوسين أيضًا؟ وكيف لنا أن نتجاوز حركات الالتفاف التي قامت بها بعض المجموعات الإيديولوجية بداية الثورة عند تشكيل المجلس الوطني ومن بعده الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ما دامت العقليات القديمة هي ذاتها المنظّرة للمشهد السياسي؟ وكيف يمكن تجاوز آليات العمل القديمة التي أثبتت فشلها سابقًا وما زالت تثبته كل يوم، إذا كان لدينا نفس المقدمات الخاطئة وذات مناهج المعالجة؟ فهل سنأتي بنتائج غير تلك القديمة الفاشلة؟ وهل يكفي مثلًا التعويل على تصريح الخارجية الأميركية هنا أو موقف الاتحاد الأوروبي اللفظي هناك؟ وهل نملك رفاهية انتظار التحولات الدولية والإقليمية؟
الحقيقة أنّ الإجابة على هذه الأسئلة صعبة للغاية رغم سهولة إلقاء الكلام على عواهنه. الشيء الذي يعرفه الجميع أنّه لا بدّ من خطاب سياسي واعٍ وتمثيل سياسي مقنع وتنظيم مؤسساتي قادر على استعادة الصفة الاعتبارية للثورة السورية، لكن لا أحد يعرف الطريق إلى تحقيق ذلك حتى اللحظة، فهل ينتج الحراك السياسي السوري الخارجي المتمثل بالمؤتمرات واللقاءات والمنصات السياسية والمدنية هذه الرافعة؟ أم علينا انتظار رافعة داخلية من الحراك الشعبي في السويداء وحوران والساحل وبقيّة المناطق في الشمال؟ وهل ظروف هذا الحراك الداخلي الواقعية تسمح لها ببناء هذه الرافعة؟
ثمّة مشتركٌ مصلحي براغماتي يسعى الجميع له الآن، ويتمثّل في إخراج سوريا من بين براثن النظام الإيراني، وما دام الأسد عجز عن التقدّم نصف خطوة بهذا الاتجاه كما طُلب منه عربيًا، فالأحرار من السوريين قادرون على ذلك
قد يبدو لوهلة أولى استحالة تحقيق هذا كلّه، لكن مع قليلٍ من التبصّر يمكننا أن نرى بصيص أمل. يتمثّل هذا بالجذر الوطني السوري الذي أشرنا إليه في خصوصية السويداء بداية هذا المقال وفي تعمّق حالة الرفض الشعبيّة لكلّ أهل المدن والقرى التي ثارت على هذا النظام فنالت ما نالته من هدم وتدمير. كما يتمثّل بصيصُ الأمل أيضًا بالعمق العروبي بمفهومه الثقافي الحضاري، لا العرقي القائم على رابطة الدم، ولا الإيديولوجي الشوفيني العنصري، وهذا يمكنه أن يخاطب الحاجة للأمن القومي العربي التي يمكن ملامستها لدى الأنظمة الإقليمية رغم كرهها لمفردات الحرية والديمقراطية وتداول السلطة. ثمّة مشتركٌ مصلحي براغماتي يسعى الجميع له الآن، ويتمثّل في إخراج سوريا من بين براثن النظام الإيراني، وما دام الأسد عجز عن التقدّم نصف خطوة بهذا الاتجاه كما طُلب منه عربيًا، فالأحرار من السوريين قادرون على ذلك، أو يفترض بهم أن يكونوا قادرين، إن تلقوا الدعم العربي.
يمكن بطبيعة الحال استنفار كلّ القوى الثورية السورية التوّاقة للخلاص من هذا الاستبداد الجاثم على الصدور، وقد بدأت هذه تتداعى فعلًا على الأرض وفي مختلف وسائل التواصل للقيام بما يلزم لدعم هذا الحراك. ولا يغيبنّ عن البال أهميّة الواقع الافتراضي في الحشد والتجييش والدعم والمناصرة، خاصّة إذا ما تمّت قيادته بأدوات جديدة غير تلك المستهلكة سابقًا. ويبقى علينا انتظار ما تأتي به الأيام، والعمل ما باستطاعتنا ولو بأضعف الإيمان وهو هنا الكلام.