في تمّوز 1973، وصل "جوفينال هابياريمانا"، رئيس الأركان ووزير الدفاع في "رواندا"، إلى سدّة الحكم بانقلاب عسكري أطاح بسلفه "غريغوار كاييباندا"، أوّل رئيس بعد الاستقلال عن "بلجيكا" عام 1962، والذي مات سجيناً في ظروف غامضة.
بعد تولّيه الرئاسة، أعلن "هابياريمانا" أن انقلابه "حركة تصحيحية" لمنع انهيار البلاد في ظلّ التوتّرات العرقية المتزايدة بين المكوّنين الرئيسيين فيها، قبيلتي "الهوتو"، التي تشكّل الأغلبية، و"التوتسي"، الأقلية التي منحها البلجيكيون خلال استعمارهم 1924-1962 مواقع الحكم والسلطة. وقد أدّى ذلك إلى تعزيز الفوارق بين الروانديين وخلق الكراهية.
لكن "هابياريمانا"، الذي ينتمي إلى "الهوتو"، فعل عكس ما أعلن عنه؛ فقد عزّز سيطرة قبيلته وشجّع على تعميق التوتّرات العرقية، وأسّس نظاماً استبدادياً حكم به "رواندا" من خلال "حزب واحد"، ليستمرّ في السلطة حتى اغتياله في نيسان 1994 بعد إسقاط طائرته عند عودته من "تنزانيا"، حيث كانت تجري مباحثات السلام بين نظامه وبين الجبهة الوطنية الرواندية التي أسّسها في 1987 مجموعة من اللاجئين "التوتسي" الفارّين من الصراع منذ الاستقلال، وكان منهم الرئيس الحالي "بول كاغامي".
بعد الحرب والتشرّد والإبادة الجماعية الرهيبة، كان على الروانديين تجاوز مرحلة حاسمة وصعبة جداً، مرحلة الوصول إلى حلّ نهائي وشامل لمشكلاتهم العرقية والسياسية.
"رواندا" مثال صارخ عن النزاعات الدموية تاريخ دموي طويل من الصراع في دولة متخلّفة فقيرة، صراع عمّقه الانقسام العرقي، ودفع به الاستبداد إلى إشعال حرب طاحنة شهدت أفظع وأسرع مجزرة إبادة جماعية عرفها التاريخ. فبين نيسان وتمّوز 1994، وخلال أقل من مئة يوم فقط، قُتِل أكثر من ثمانمئة ألف رواندي، معظمهم من "التوتسي" إضافةً إلى المعتدلين من "الهوتو"، بأفظع الطرق وحشيةً.
تمّ قطع الرقاب بالمناجل، وجرت عمليات تعذيب واغتصاب رهيبة في إبادة جماعية قادتها قوات أمن "هابياريمانا" ومدنيون موالون، وتقاعس "المجتمع الدولي" عن التدخّل. ومع مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمشرّدين ومجتمع محطّم تماماً، تُرِكَت "رواندا" لمصيرها المحتوم.
في تشرين الثاني 1970، استولى وزير الدفاع "حافظ الأسد" على السلطة في "سوريا"، سجن رئيس الدولة والأمين القطري لحزب البعث حتى الموت، جعل الحزب قائداً للدولة والمجتمع، مكّن فئةً من مفاصل السلطة في الجيش والأمن والمرافق المهمّة، نكّل بالسوريين قتلاً واعتقالاً وتعذيباً، ورّث ابنه الحكم فمضى في طريق أبيه، وحين ثار السوريون قتلهم وسجنهم وشرّدهم، ودفع بثورتهم إلى المجهول، مستعيناً بكل قوى الشر الممكنة.
دفع السوريون أبهظ الأثمان في سبيل هدف الخلاص من الاستبداد والتفرقة، حتى وجدوا أنفسهم بين المقابر والخيام والسجون وبين مشرّد ومكلوم ومحزون، حتى انقطعت الآمال وانسدّت الآفاق، ولم يبقَ سوى انتظار حلّ يبدو أنه لن يأتي أبداً سوى عند التفكير فعلاً بالإجابة عن هذا السؤال: وماذا بعد؟
كيف أجاب "الروانديون" عن هذا السؤال؟ بالنسبة للسوريين الآن، قد يبدو السؤال "وماذا بعد" وكأنه من مرحلتين: الأولى، وماذا بعد هذا الصراع؟ متى وكيف ينتهي؟ والثانية، هي ماذا بعد انتهائه؟ كيف نعود؟! فكيف يمكن التفكير بحلول وطنية قادمة للتعايش قبل أن نمتلك قبلاً حلولاً عملية واقعية لإنهاء الاقتتال والعداء والانقسام والتقسيم؟
لن يتمكّن السوريون من التفكير في إنجاز ما عليهم إنجازه بعد انتهاء الصراع سوى بالقفز إلى الأمام وبكل جرأة وشجاعة للوصول إلى ما وصل إليه "الروانديون" بعد أعوام طويلة من الإرهاب والإجرام والوحشية. فمن ناحية "كيفية انتهاء الصراع"، كان الفارق بين الحالتين الرواندية والسورية أنّ الروانديين تمكّنوا، ومن خلال "الجبهة الوطنية لتحرير رواندا"، من السيطرة على البلاد وإنهاء مجازر الإبادة، ما لم يُسمح لأي فصيل عسكري في "سوريا" التمكّن من فعله أبداً، والأسباب مفهومة معروفة. لكنّ الحالة الرواندية لم تكن الحالة السائدة لتقديم حلّ للصراع، فقد انتهت صراعات كثيرة في العالم بأشكال أخرى مثل التدخّل الأممي (حلف الناتو في ليبيا أو البوسنة والهرسك)، أو التدخّل الإقليمي (الاتّحاد الإفريقي في الصومال)، أو بمعاهدات دولية (كاتّفاق السلام في السلفادور الذي فرضته الأمم المتّحدة)، أو اتّفاقيات محلّية (كولومبيا والسودان).
كما لا يمكن القول إنّ "الجبهة الوطنية لتحرير رواندا" ما كانت لتنهي بالعمل العسكري وحده الأزمة الرواندية التاريخية الصادمة والمتفاقمة، إلّا من خلال عزم الروانديين أنفسهم على إنهائها، وليقدّموا إجابةً مختصرةً وحاسمة عن هذا السؤال "ماذا بعد؟"، وهي أنه لا حلّ بعد كل تلك المعاناة الرهيبة سوى بالعمل بكل تحفيز وتركيز من أجل إنهائها. هذه هي الإجابة.
ماذا فعل الروانديون وهل بإمكاننا؟ قد يعتقد البعض أن المقارنة بين "رواندا" و"سوريا" مسألة في غاية السذاجة، لكنها ليست مقارنة بين دولتين بقدر ما هي مقارنة لأوجه التشابه بين الصراعين وأسبابهما. ففي كلا البلدين وغيرهما، كرّس النظام الحاكم الانقسام السياسي والاجتماعي من خلال فئوية السلطة وتهميش الأقلية أو الأكثرية، لا فرق، ما أسهم في التحريض على الكراهية. وكما أدت الانقسامات العميقة في "رواندا" بين "الهوتو والتوتسي" إلى الحرب، أودت الانقسامات السياسية والطائفية والقومية بالسوريين في ظلّ الاستبداد وتبعاته إلى العنف. ومع أن التدخّل الخارجي في "سوريا" كان مبكراً ومباشراً ولم يكن كذلك في "رواندا"، إلّا أنه في الحالتين لم ينجح أي تدخّل في إنهاء المجازر ووقف الاقتتال. وبالنتيجة، اشترك البلدان في الآثار التي تخلّفها الصراعات الداخلية؛ فلقد دُمّرت الحواضر والبُنى التحتية وهُجّر الملايين، كما تفكّك النسيج الاجتماعي وانهار الاقتصاد بالكامل.
بعد الحرب والتشرّد والإبادة الجماعية الرهيبة، كان على الروانديين تجاوز مرحلة حاسمة وصعبة جداً، مرحلة الوصول إلى حلّ نهائي وشامل لمشكلاتهم العرقية والسياسية. فرغم تمكّن "الجبهة الوطنية الرواندية" من السيطرة على البلاد وإنهاء المجازر، لم يكن ذلك كافياً وحده لاستتباب الأمن وإحلال السلام بعد عقود طويلة من حروب ارتُكبت فيها أشدّ الجرائم فظاعة.
شكّل الروانديون حكومة وحدة وطنية انتقالية مُثّلت فيها جميع الأطراف السياسية، وأعلنت سعيها لتقديم ملفّي العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية بين الروانديين على أيّة اعتبارات. ومن أجل ذلك، تمّ إنشاء نظام محاسبة عن جرائم الإبادة من خلال محاكم محليّة مجتمعية لإشراك المجتمع في هذه المحاسبة، وتمّ التركيز على برامج المصالحة وتعزيز الهوية الوطنية.
سيكون على السوريين أخيراً الوصول إلى تسوية شاملة تُعنى بالجميع، فلا بدّ بعد انتهاء الحروب من السعي إلى تحقيق السلم وإعادة بناء المجتمع من خلال تعزيز العدالة والمساءلة وتحقيق المصالحة.
تزامناً مع قضايا العدالة والمصالحة، جرى العمل على إعادة بناء الاقتصاد المنهار بالاستثمار والتنمية والإعمار وتوفير الخدمات الأساسية وتعزيز التعليم والرعاية الصحية، حتى أصبحت "رواندا" بعد بضع سنوات من حروبها الدامية من أقوى الاقتصادات النامية في "إفريقيا".
وكان العامل الرئيس في تحقيق كل ذلك هو الاستقرار الأمني، ما أدّى إلى جذب الاستثمارات وتحفيز النموّ الاقتصادي من خلال نظام سياسي مستقرّ ضمن مشاركة الجميع في الحكم والإدارة والعمل السياسي.
دروس تقدّمها "رواندا" للسوريين سيكون على السوريين أخيراً الوصول إلى تسوية شاملة تُعنى بالجميع، فلا بدّ بعد انتهاء الحروب من السعي إلى تحقيق السلم وإعادة بناء المجتمع من خلال تعزيز العدالة والمساءلة وتحقيق المصالحة. ولقد أنشأ الروانديون لأجل ذلك لجاناً وطنيةً امتلكت القدرة على هذا العمل بسبب تنوّعها وتمتّعها بالصلاحيات اللازمة. وكانت أهمّ مراحل ذلك محاربة خطاب الرفض والكراهية والعنصرية بسنّ تشريعات نافذة واتّباع إجراءات قانونية صارمة، مع التركيز على دور الإعلام الحرّ الواعي والمسؤول.
الدرس الثاني الذي ينبغي أن يلتفت السوريون إليه بعناية هو ملفّ العدالة الانتقالية، من خلال ملاحقة مرتكبي الجرائم وتقديمهم إلى المحاكم الدولية أو الوطنية. وينبغي أن لا يقتصر ذلك على طرف محدّد، بل يشمل جميع الأطراف المشاركة في النزاع. وبعد ذلك، وكما حدث في رواندا، ستبدأ مرحلة الإعمار الاقتصادي. ولقد استطاع الروانديون النهوض المبكر بالتركيز على الاستثمار في التعليم والبنى التحتية وريادة الأعمال، ولا ينقص السوريين للاستفادة من هذا الدرس إلا العزم على فهمه وتنفيذه عملياً. وما زال لديهم من الموارد الطبيعية والبشرية ما يمكّنهم من ذلك وبسرعة. وإن قارنّا بين البلدين من حيث حجم الإمكانيات بأشكالها، فإن الفروقات في المساحة والكثافة السكانية وحجم الموارد الطبيعية والموقع والأهمية الجيوسياسية ترجح بالتأكيد لصالح السوريين. ولقد كانت ترجح لصالحهم قبل الصراع مؤشّرات التنمية والناتج المحلي الإجمالي، لكن الروانديين وبإمكاناتهم ومواردهم المحدودة استطاعوا تحقيق إدارة ناجحة، وهذه هي المسألة.
سيحتاج السوريون -لا ريب- إلى إرادة سياسية محليّة ودعم دولي أيضاً للبدء في تحقيق التسوية الشاملة والانتقال إلى حالة البناء. وسيحتاجون إلى الاشتراك جميعاً في صياغة مستقبلهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ويبدو أن هذا هو ما يمكن أن تقدّمه التجربة الرواندية لهم. وستتطلب إعادة بناء "سوريا" عملاً دؤوباً وصادقاً لتجاوز الآلام وتوحيد الرؤى الوطنية وتشجيع الهمم الواثبة نحو مستقبل زاهر كالذي وصلت إليه "رواندا" وغيرها من دول العالم التي نهضت بعد الصراعات والحروب على عاتق أبنائها الذين دفعوا أبشع الأثمان جرّاء الاستبداد والحرب.