خلال دراستي الجامعية في جامعة دمشق، كان هناك زميل على مقعد الدراسة شديد التأدب واللباقة، ويتحدث بلطف زائد، وكلام منمق مع الجميع لدرجة التكلف، متأسفاً من هذا تارة، ومطرياً على ذاك تارة أخرى، وهو ما كان يثير سخرية البعض، ويستفزنا أو يحرجنا نحن القادمون من الحارات الشعبية والقرى النائية، حيث تعودنا على اللغة الخشنة، ولا نجيد كثيراً فنون اللباقة والإتكيت الاجتماعي.
ومثل هذه المفارقات لا بد أن كثيراً من السوريين والعرب ممن وصلوا إلى أوروبا خلال السنوات الماضية قد وقعوا فيها، حيث يستخدم الأوروبيون على غرار زميلي آنف الذكر في الجامعة (شاءت الأقدار أنه يتقلد الآن منصب وزير الإعلام في حكومة النظام) يبالغون أحياناً في التأدب والإتكيت الاجتماعي، واستخدام عبارات التفخيم والاحترام في كل المواقف، دون أن يعني ذلك بالضرورة، ليونة حقيقية في كلامهم أو مواقفهم، بل مجرد شكل من أشكال التهذيب، وحسن التخاطب.
في الحالة السورية، بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن حالات النزق، وسوء النية، وسرعة الغضب، والتعصب للرأي، وعدم التسامح مع الآخرين، والمسارعة إلى التشكيك بهم وكيل الشتائم والاتهامات، لدرجة التجني والتخوين، كل ذلك قد يعكس نوعاً من المرض الاجتماعي والنفسي الجماعي
نحن قوم عاطفيون
عموماً نحن في الشرق نتميز بحدة الطبع وتغلب الجوانب العاطفية على العقلية، فيسهل استفزازنا، ونسارع إلى التصعيد العدائي اللفظي تجاه الآخر، دون مسوغ حقيقي، برغم أننا في الواقع لا نقصد ذلك غالباً، أي لا توجد نية حقيقية لمن يكيل الشتائم والتهديد والوعيد أن يترجم ذلك إلى أفعال، خلافاً للعقلية الأوروبية، حيث قد يظهر لك شخص الود، ويتعامل معك بلطف، بينما ينوي إلحاق الأذى بك فعلياً. وطبعاً، هذا ليس حكراً على الأوروبي، وكثير منا قد يفعل ذلك، ويتمكن من السيطرة على عواطفه العدائية تجاه الآخرين، بينما يضمر إيقاع الأذى بهم، وفي هذا مكر وخبث، موجود لدى كل الملل، لكننا نتحدث عن السمات العامة للمجتمعات.
وفي الحالة السورية، بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن حالات النزق، وسوء النية، وسرعة الغضب، والتعصب للرأي، وعدم التسامح مع الآخرين، والمسارعة إلى التشكيك بهم وكيل الشتائم والاتهامات، لدرجة التجني والتخوين، كل ذلك قد يعكس نوعاً من المرض الاجتماعي والنفسي الجماعي، بحيث لا تجد إلا قلة نسبياً، ممن يحتكمون للعقل والضمير والمنطق في حالات الخلاف والتصادم حيال قضية ما، سواء كانت شخصية أم عامة.
وفضلاً عن الجوانب التربوية الأسرية التي تعكس البيئة المجتمعية لكل شخص، فإن ثمة عوامل عامة مشتركة تسهم في تشكيل العقلية الجمعية لمجتمع ما، وهي متشابهة في عموم المنطقة العربية، من ناحية القمع السياسي والاجتماعي الذي يتعرض له الفرد العربي منذ نعومة أظفاره حتى وفاته، من الأسرة إلى المدرسة والحي والجامعة والمسجد وخلال الخدمة العسكرية، وصولاً إلى احتكاكه بالمجتمع ومؤسسات الدولة، حيث يعيش سلاسل متلاحقة من القمع أو محاولات السيطرة عليه من جانب الآخرين، بوسائل فظة غالباً، فتعشعش في ذهنه، وتنمو باستمرار الدفاعات السلبية المتمثلة في سوء الظن وافتراض الأسوأ في الآخر، وهو ما ينعكس في فظاظة السلوك، وفجاجة الكلام، حينما يكون ذلك متاحاً، أو العكس، أي الاستسلام والخنوع وتقديس الطرف الأقوى، بالنسبة للبعض ممن يملك الاستعداد النفسي لذلك.
وسائل التواصل فضحت المستور
وبطبيعة الحال، فإن هذا الحال كان قائماً في مجتمعاتنا منذ سنوات وعقود، لكن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، أتاح الفرصة للجماهير الغفيرة للتعبير عن نفسها إزاء القضايا المختلفة، وخاصة "الفيس بوك" بالنسبة للسوريين الذين حولوه إلى ساحة للمعارك والمشاحنات، ليس على الصعيد السياسي بين موالاة ومعارضة (وهذا سياق مفهوم، ولو أنه حتى هنا يجب أن نحافظ على أدبيات الاختلاف)، بل بين من هم على الضفة نفسها، سواء موالاة أم معارضة. وحتى بالنسبة للقلة الذين يحاولون استخدام هذه الوسائل، كمنبر عمومي لطرح فكرة أو مناقشة قضية ما، فإنهم لا يسلمون من هجوم "الرعاع" عليهم، ممن قد لا يكونون مطلعين كفاية على الموضوع المثار أساساً، لكن يكفي أن ينتقده أحد الأشخاص ممن يثقون به، حتى ينساقوا خلفه موجهين أقذع الشتائم لصاحب المنشور.
لقد أشرت إلى هذه الظاهرة في كثير من منشوراتي على "الفيس بوك" خلال السنوات الماضية، كما لفتتني مقالة الزميل محمد برو الأخيرة على موقع "تلفزيون سوريا" التي تتحدث عن السوريين وخطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي. ومنذ سنوات طويلة، كتب الصديق شعبان عبود مقالة جميلة باسم "السوريون العبوسون"، وكل ذلك يأتي في سياق واحد، أننا شعب عبوس وغاضب، ولا أقول عدائي، لأسباب عديدة مفهومة، تعكس في المجمل حالة الإحباط والانكسار وغياب الظروف الموضوعية لنمو وترعرع التفكير السليم والمتسامح، والأفكار الإيجابية التي تتلمس الأعذار للآخرين، وتفترض فيهم بالعموم حسن النية. وحتى في حال وجود اختلافات حقيقية مع شخص أو جهة ما، ينبغي أن نتعلم كيفية التعبير عن اعتراضنا، بكل رقي واحترام، دون تجن وفجور أو التعرض الشخصي للطرف الآخر، فذلك خلق مذموم نهى عنه الرسول الكريم محمد (ص) منذ مئات السنين، بقوله في ذم المنافق: "إذا خاصم فجر"، وبعده ردد العرب المعاصرون كثيراً المقولة الشهيرة "لا يفسد خلاف للود قضية"، التي أطلقها العلامة أحمد لطفي السيد، زعيم حزب الأمة المصري، الذي ولد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لكن جاء بعد ذلك عرب آخرون، كثير منهم، تضيق صدورهم بالنقد، وتعجز ألسنتهم عن النطق بكلمة الحق، دون تحامل أو تملق.