هل نحن حقاً لا نستحقّ الاحترام؟

2024.07.08 | 09:27 دمشق

سبسب
+A
حجم الخط
-A

أخبرني شاب هولندي من أصول أفغانية أن سمعة معظم العرب في أوروبا سيئة، فهم همجيون ويسرقون ويفتعلون المشكلات، في حين أن الشعوب الأوروبية شعوب مسالمة ترنو للهدوء والسكينة، وتقدّر الاحترام واللطف والتعقيد الراقي. طبعاً هو يعرف أنني سورية وعربية، لكنه ومع ذلك أصرّ على سماع تأييد مني ووضع عينه في عيني منتظرًا على الأقل إيماءً بموافقة ضمنية، غير أنني خذلته برفضي لطرحه وأتبعته بسؤال: هل العرب كلهم كذلك؟ ليجيب لاحقًا بأنه لا يقصد التعميم، بل يقصد الغالبية!.

أثار حديث الشاب في داخلي تساؤلات عدة حول استسهال نبذ الضعف، وميل الطبيعة البشرية إلى محاباة القوة وازدراء الضعف وكرهه، بل والاشمئزاز منه في بعض الأحيان، على الرغم من ارتباطهم الوثيق به، ولا سيما بما يخص الوافدين من دول أخرى لاجئين ومهاجرين وحاصلين حديثًا على امتيازات القوة. وذكرني ما حصل مع الشاب الأفغاني الهولندي أيضًا بكثير من اللاجئين السوريين في أوروبا الذين ما يلبثون أن يحصلوا على الجنسية حتى تتعاظمَ بدواخلهم شوفينية الغرب ويعبرّوا عن فخرهم بالانضمام إلى فريق الأقوياء.

قد يشعر هؤلاء بالانتقال إلى بر الأمان المصحوب بالاستحقاق، وهو أمر لا شكّ أنه سليم لا لبس فيه ولا غبار عليه، فهم حققوا إنجازات مهمة وخاضوا تجارب شاقة وعسيرة قبل قبولهم في نادي الأقوياء. أما استساغة إعلان انفصالهم عن ماضٍ مُتعب ورفضهم لكل ما يمسّ له بصلة، فإن ذلك لا يتحمّلون وزره وحدهم.

إحساس هؤلاء نابع من إدراك عميق لكره هذا العالم للضعفاء واحتقارهم، والتمتّع في بعض الأحيان بسحقهم. لذا لا يجد بسيطو التفكير بابًا للنجاة إلا عبر ذلك.

إحساس هؤلاء نابع من إدراك عميق لكره هذا العالم للضعفاء واحتقارهم، والتمتّع في بعض الأحيان بسحقهم. لذا لا يجد بسيطو التفكير بابًا للنجاة إلا عبر ذلك، وهم مستعدون لإهانة أنفسهم وإهانة أي أشخاص مرتبطين معهم بصلات "الهشاشة"، للبقاء في برج القبول والاحترام.

في كتابه "النظرية الثقافية ومشكلة الحداثة" يصف آلان سوينجوود كيف يتم تكريس القوة في الأنظمة الرأسمالية بوصفها ممارسات ملموسة لا يمكن إنكارها رغم كل الادعاءات المناقضة. يقول: "في النظام الأبوي، القوة ليست مجرد موقف أو حالة، بل هي عملية مستمرة تعزز الهيمنة وتستبعد الضعفاء من الحقوق الأساسية والفرص الاجتماعية. الأنظمة تستخدم الثقافة، الدين، وحتى العلوم لتبرير هذه الديناميات."

هل يجوز لوم اللاجئين على موقفهم؟ وهل يحق لعالم يهين الضعيف ويسلبه أدنى مسوّغات العيش أن يطالب بالاصطفاف معه أو احترامه؟ يشبه موقف الشاب الأفغاني ما حصل عشية أمس الأحد عندما فرح السوريون بفوز المنتخب الهولندي على التركي في نهائيات كأس أوروبا، وعبّروا بشكل صريح عن انتمائهم/ رغبتهم بالانتماء للأقوى رغم أن قسمًا كبيرًا منهم يعيش في تركيا.

مؤشرات الفرح بفوز المنتخب "البرتقالي" الهولندي بين السوريين في معظم بلاد اللجوء تدلّل على ذلك، وبعيدًا عن الخوض كثيرًا في السياسة والتوترات الأخيرة الحاصلة بين الأتراك والسوريين، لكن كان الأقرب إلى المنطق أن يشجّع السوريون المنتخب التركي لأسباب عدة أبرزها أنهم ينتمون إلى الجارة تركيا أكثر، بحكم العلاقات القديمة الجديدة. يعيش في تركيا ما يزيد على 4 ملايين سوري، بينما تستقبل هولندا نحو 100 ألف سوري. تتدخل تركيا بشكل مباشر في صياغة الحل السوري وتوجد في مناطق شاسعة من الأراضي السورية، بينما تبقى هولندا بعيدة نسبيًا عن المسألة السورية والجغرافيا أيضًا.

المسألة لا تخصّ السوريين وحدهم؛ هنالك منهجية سياسية عالمية واضحة تقدّس القوة والسلطة وتسلب السواد الأعظم من الناس حقهم في احترام الذات. فمن المُلاحظ أيضًا أن اللاجئين الأتراك في أوروبا يتعالون على اللاجئين من الجنسيات الأخرى بينما يظهرون أشدّ احترامهم وإعجابهم بالأوروبيين.

الفكرة، وعلى الرغم من بساطتها، تحمل في طياتها عمقًا يمسّ جوانب متعددة من حياتنا اليومية. إن النقاش حول تأثير السياسة على الهويات والانتماءات يكشف عن طبقات معقدة من التفاعلات الاجتماعية والثقافية التي تشكل حياة اللاجئين. يمكن للرياضة أن تكون مسرحًا لتجليات الهوية الوطنية والسياسية، خاصة في حالات اللجوء حيث يتم تفسير الانتماء الرياضي أحيانًا كتعبير عن الولاء السياسي أو التضامن الثقافي.

السوريون في الخارج، على سبيل المثال، قد يجدون في دعم فرق من دول أخرى، مثل الفريق "البرتقالي" الهولندي، وسيلة للتعبير عن التطلعات الشخصية أو السياسية أو حتى الشعور بالانتماء لمجتمع يقدم لهم ملاذًا آمنًا. هذا النوع من التعبير يعكس أيضًا تعقيد العلاقات الجيوسياسية والشخصية التي ينسجها اللاجئون مع البلدان المضيفة في طريق صياغة جديدة لإنسانيتهم.

تتلاشى أحيانًا مساحات احترام الذات بين ضغوط البقاء ومتطلبات التكيف، فيجد اللاجئون أنفسهم محاصرين في صراع مستمر للحفاظ على هويتهم وكرامتهم.

من جهة أخرى، تشير الديناميكيات بين اللاجئين الأتراك والجنسيات الأخرى في أوروبا إلى تأثير أعمق للهويات الثقافية والاجتماعية المستوردة في سياق اللجوء. هذا التمايز في السلوك يمكن أن يُظهر كيف تؤثر الأحكام المسبقة والتصورات الثقافية في تفاعلات اللاجئين مع بعضهم البعض ومع مجتمعاتهم المضيفة. يمكن أن تكون هذه التفاعلات مرآة للتحديات التي يواجهها اللاجئون في تحقيق التكامل واحترام الذات في بيئات جديدة. تناول هذه الأسئلة يكشف عن أهمية فهم العوامل المعقدة التي تؤثر في سلوك واختيارات اللاجئين، بعيدًا عن التبسيط المفرط.

يدرك كثير من اللاجئين أنهم جديرون بالاحترام، ويدركون أيضًا أنهم إن أجبروا على التبرؤ والتنصل من ذواتهم فلأنهم لم يجدوا الحماية على الضفة الأخرى، ويعرفون أن عدم وفائهم لمعايير التفوّق قد يؤول إلى خسائر جمة لم يعد بمقدورهم تحمّلها.

في السياقات التي تسود فيها القوة وتهيمن، تتلاشى أحيانًا مساحات احترام الذات بين ضغوط البقاء ومتطلبات التكيف. يجد اللاجئون أنفسهم محاصرين في صراع مستمر للحفاظ على هويتهم وكرامتهم في مواجهة أنظمة تراهم مجرد أدوات لتحقيق أهداف استراتيجية، وليس كأفراد يملكون الحق في تحديد مصائرهم والتعبير عنها، لكنهم حتماً يدركون في أعماق أعماقهم أنهم يستحقون الاحترام، وربما أكثر من ذلك!