هل نحن أعداء مصالحنا؟!

2024.07.03 | 07:10 دمشق

42222222222222
+A
حجم الخط
-A

لم تكن سوريا يوماً بمثل هذا الضعف والهشاشة. فهي، عدا عن كونها محتلة ومقسمة ومنهكة اقتصاديًا وبنيتها التحتية مدمرة، تعاني من تدمير جزء كبير من منازلها. لكن الوجه الأكثر إيلامًا في مأساتها يعود إلى انقسام شعبها وتفتته، وغياب نخبه وقواه السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يفترض بها أن تدافع عن مصالحه.

ربما يسهل التعافي من ضعف أي مجتمع إذا كانت نقاط ضعفه وهشاشته متركزة في جوانب اقتصادية أو عسكرية. التاريخ يقدم لنا أمثلة كثيرة عن مجتمعات فقيرة وضعيفة استطاعت أن تنهض من ضعفها وتحقق ما عجزت عنه مجتمعات صُنفت على أنها قوية. لكن الضعف الذي يصعب الخروج منه هو الضعف الذي ينشأ في مجتمع تتراجع فيه مستويات التضامن بين الأفراد والجماعات إلى مستويات متدنية جدًا، وتتعدد فيه الثقافات المتناحرة أو العنصرية، وتنتشر التصنيفات الاجتماعية المتصادمة، وتنعدم المساواة بين أفراده، وتهمش فئات واسعة منهم، فتنعدم الثقة بين السلطة والمجتمع.

عندما تنقسم المجتمعات، لا يكفي الحديث عن التاريخ المشترك والتعايش والخطاب العاطفي والشعر وغير ذلك لإعادة لحمتها. فثمة ما هو أهم وأساسي لاستعادة هذه المجتمعات لعافيتها، وهذا الأساسي يكمن أولاً في وجود مصلحة حقيقية لجميع أطياف هذه المجتمعات في استعادة وحدتها. بغياب هذه المصلحة يصبح من الصعب جدًا الخروج من حالة الانقسام.

وعي المصلحة الجمعية، ووعي الراهن بمشكلاته وتناقضاته والانطلاق منها لصياغة مستقبل أفضل، هو المهمة الأساسية لنخب أي مجتمع.

لكن هناك ما يتجاوز المصلحة المشتركة لاستعادة المجتمع وحدته، وهو الذي يشكل حجر الأساس في هذه الاستعادة. إنه وعي هذه المصلحة، ووعي ضرورتها. ومن المهم القول إن وعي المصلحة قد لا يكون بدلالة اللحظة الراهنة، خصوصًا إذا كان الراهن مثقلًا بحمولات الدم والثأر، وبحمولات العصبيات المتناحرة. بل يكون بدلالة التعافي أولًا، ثم بدلالة المستقبل وتحسين شروطه ثانيًا.

إن وعي المصلحة الجمعية، ووعي الراهن بمشكلاته وتناقضاته والانطلاق منها لصياغة مستقبل أفضل، هو المهمة الأساسية لنخب أي مجتمع: الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والدينية. وعليه، فإنه من الصعب على مجتمع مفكك منهك غابت نخبه، أو غُيبت، أن يخرج من واقعه.

يمكن القول بسهولة شديدة، وبعد قراءة سريعة لنتائج خمس وخمسين سنة من حكم عائلة الأسد، أنه ما من مصلحة لسوري في بقاء هذه العائلة في السلطة. وحدها – عائلة الأسد – والمافيا التي تحيط بها هم أصحاب المصلحة في استمرارها. لكن هناك ما هو فاعل أساسي في هذه المعادلة، وهو الذي يدافع بشراسة عن حكم هذه العائلة، وأقصد الأطراف الخارجية التي تكمن مصلحتها الأهم في خراب سوريا واقتسامها.

بالعودة قليلاً إلى ما قبل وصول البعث إلى السلطة في 1963، يمكن القول إن المجتمع السوري كان مأزوماً بصيغة ما، إذ تعايشت الشروط الثقافية والقانونية والسياسية وغيرها، والتي لابد منها لدولة ناشئة في القرن العشرين، مع علاقات اقتصادية وثقافية وسياسية لا تتناسب والدولة الحديثة.

بعبارة أخرى، ما كان من الضروري إزاحته أو إضعافه على أقل تقدير، ظل حاضرًا في مفاصل الدولة السورية. وأقصد العلاقات التي عاشها المجتمع في مراحل تاريخية قديمة، وتوارثها ضمن منظومة قيمية وثقافية متعددة المصادر، لا سيما وأن سوريا عرفت في تاريخها احتلالات وغزوات وهجرات كثيرة، وكلها تركت مفاعيلها في ثقافة المجتمع، أو في تركيبته السكانية، أو في تعدد تصنيفاته الدينية والقومية والطائفية... إلخ.

العنف المفرط الذي مارسته أجهزة القمع التي تتبع "الدولة" الفاشلة وتديرها "المافيا الأسدية" أدى إلى انقسام المجتمع.

لم تستطع الدولة التي نشأت بعد الاستقلال، رغم اصطدام وظيفتها ودورها والحاجة إلى تطويرها مع العقبات التي خلقها هذا الموروث في جوانب كثيرة، أن تقلل من حضوره التصادمي. بتعبير آخر، لم تعرف سوريا حتى الآن الدولة القادرة على إقامة علاقتها مع المواطن/ الفرد، بحيث تصبح هذه العلاقة (المواطنة) هي الأولى، والأساسية، والأقوى من علاقات ولاء الفرد للطائفية أو القبيلة أو لأي تصنيف قبلي.

جاء حكم البعث (وخصوصًا بعد انقلاب حافظ الأسد) ليقيم سلطته على هذا الموروث غير المنسجم مع متطلبات دولة حديثة. ومن أجل تحكمه بالسلطة وبالمجتمع، أزاح كل ما يساعد على قيام الدولة الحديثة، وأعاد بعث الدولة الرعوية التي يحكمها سلطان مطلق يحكم رعايا لا مواطنين.

اليوم، في ظروف المعادلة الظالمة التي ندفع فيها نحن السوريين ثمنًا باهظًا، والتي يتم من خلالها التلاعب بنا من قبل كل الأطراف، هناك حلقة أساسية غائبة. وبغيابها سنبقى ندفع الثمن بلا جدوى. هذه الحلقة تتكثف في عبارة واحدة هي باختصار: "نحن لا نعي مصالحنا". وليست المشكلة في أننا لا نعي مصالحنا فقط، بل نحن فعلاً نعمل ضد مصالحنا.

قد تبدو الفكرة استعلائية أو فظة، لكن ما هي مصلحة الموالين لحكم المافيا الأسدية في بقاء هذه المافيا حاكمة لهم ولسوريا؟ ألا تكفي معطيات الواقع وفجائعه ومآسيه لمعرفة دور هذه المافيا فيما وصلت إليه سوريا؟

ما هي مصلحة السوريين في التبعية لهذا الطرف الخارجي أو ذاك، سواء أكان عربيًا أم تركيًا أم إيرانيًا أم أوروبيًا أم روسيًا أم أميركيًا؟

من هو المستفيد من تعزيز خطاب الكراهية بين السوريين، وما هي مصلحة السوريين في تعزيزه؟

ما هي مصلحة السوريين في تعميق الانقسامات المجتمعية على اختلافها، الطائفية والقومية والعشائرية والسياسية... إلخ؟

ما هي مصلحة السوريين في تغييب الثقة فيما بينهم؟

أسئلة كثيرة يواجهها السوريون كل يوم ويديرون ظهرهم لها، يمتنعون عن الإجابة بانتظار أن يجيب الآخرون عليها. وعندما لا تكون إجابة الآخرين مناسبة لهم، يصدمون!!

ما حدث في سوريا وفي مجتمعها الهش هو أن العنف المفرط الذي مارسته أجهزة القمع التي تتبع "الدولة" الفاشلة وتديرها "المافيا الأسدية" أدى إلى انقسام المجتمع. ففي الوقت الذي رأى فيه قسم من المجتمع السوري أن إزاحة هذه "المافيا" هو الطريق الوحيد لخلاص سوريا، اختار قسم آخر الوقوف ضدهم مستعملًا آليات حماية كرستّها عقود من القمع والفساد. هذه الآليات فردية أو جماعية، تتلخص بالموالاة العمياء لعصابة حاكمة، دون أي تبصر بمصيرهم مستقبلًا، وبمصير السوريين الآخرين، وبمصير سوريا.

قد تكون الحروب مقدمة لقيام الدول في بعض الحالات. فالحروب الدينية في أوروبا كانت العامل الأهم في نشوء الدولة بمفهومها الحديث، ولم يكن أمام الأوروبيين إلا الدولة الديمقراطية التي تعتمد المواطنة المتساوية للخلاص من حروب لا طائل منها، ولترسيخ السلم الأهلي. فهل يسري هذا على سوريا؟ أم نذهب باتجاه انفراط الدولة؟ لا سيما أن المعادلة لدينا كانت معكوسة. ففشل الدولة وتحكم الاستبداد بها هو الذي أعاد الخوف من اشتعال الحروب الدينية أو الطائفية.