تجاوز أدب الرواية، في عصرنا، جميع الفنون وسبقها، وبات أكثرها تنوّعاً وانتشاراً، وأشدّها إثارةً للجدل وتعرّضاً للنقد في الوقت ذاته. هذا التوصيف قد يشمل الرواية العربية في العموم، ولكنه في حالة الرواية السورية يتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً كتعقيد المشهد السوري المتفجّر منذ عشر سنين وحتى الآن. وتتفرد الرواية السورية اليوم بمناخ خاص، ولا يُفهم ذلك "التفرّد" على أنه تميّز أو تفوّق، بقدر ما هو اختلاف وخصوصية، فيما إذا ما قورنت الرواية السورية بالمغاربية على سبيل المثال أو المصرية أو اللبنانية أو العراقية.
الكتابة بقلم الرقيب
لعبت هيئات "رقابة المطبوعات" الموزّعة داخل مؤسسات الثقافة والإعلام وفروع اتحاد الكتاب العرب، في ظل نظام الأسدين الأب والابن، الدور الأبرز في خلق المستوى الذي وصلت إليه الرواية السورية، بفعل تدخلها في كل كلمة وكل حرف يكتب ويطبع وينشر في البلاد. فساهمت بالتالي في تأطير مساحات الإبداع وسقف حريّة الكتابة والتعبير الأدبي الذي لا يحتمل العبث به. عبث قد يتسبّب في معظم الأحيان بنسف العمل الروائي جذرياً أو إفراغه من مضامينه.
وليست ببعيدة عنا تلك الحالة الغريبة التي لا تحدث إلا في سوريا، حين قامت الرقابة السورية في العام 2004 بإعادة كتابة فصول وإضافة فصول ومقاطع وتغيير محاور وشخصيات في رواية الكاتبة السورية روزا ياسين الحسن التي عنونتها بـ ”أبنوس“، قبل أن تمنحها جائزة حنا مينة على الرواية ذاتها، وقامت لجنة الجائزة بطباعة الرواية بالفعل، ولكن بنسخة الرقابة لا نسخة الكاتبة التي صمتت بلا حول أو قوة.
فرض ذلك الواقع على معظم الروائيين في سوريا نمطاً أدبياً يمشي قرب الحائط، محدودَ الصياغة ومكمم الفم. وبرغم التباين بين أولئك الروائيين، يبقى نتاجهم ضمن نطاق الأدب "المحلي" بحسب تعبير الكاتب قصي شويخ الذي ينتقد الجيل القديم من الروائيين السوريين، مقارناً إياهم بما أنجزه الروائيون في العالم العربي والعالم. ويضيف شويخ "حتى هؤلاء راحت إبداعاتهم تتبدّل وتضمر عاماً بعد عام عقب تسلّم البعث للسلطة، ووقع قسم منهم في متاهات التكرار والاجترار لإنتاجاته الأدبية".
القليل ممّن نشأ وعاصر حقبة الرقابة، مكّنته خبرته وسعة اطلاعه وثقافته من الالتفاف على قيود الرقابة المفروضة على الكلمة، فأنتج أدباً روائياً متميّزاً، لكنه بقي محدوداً ومهدَّداً بالتشويه والتخوين بل بالتكفير في بعض الأحيان من قبل السلطة. وكان من بين أولئك الروائيين الذين خرجوا عن النسق الراحل هاني الراهب صاحب "رسمت خطاً في الرمال" ونبيل سليمان صاحب "مدائن الأرجوان" وإبراهيم الجبين صاحب الرواية الإشكالية "يوميات يهودي من دمشق" وفواز حداد وروايته "جنود الله"، وسمر يزبك وروايتها "صلصال"، والقلة القليلة من الأسماء التي بقيت تعمل بعيداً عن التشويش.
ثورة في الرواية
في العام 2011 كُسر حاجز الخوف، مع تفجّر الثورة وارتفاع الأصوات المطالبة بالحرية. وكما انعكس تأثير تلك الأصوات على السياسة والفكر، كان له الأثر البالغ في مختلف صنوف الأدب وخصوصاً الرواية. فما هي إلا أشهر قليلة حتى بدأت روايات السوريين تصدر تباعاً من كل دولة هُجّروا إليها، وكأنها كانت مخبأة في ثيابهم، أو مخزّنة داخل شريحة ذاكرة إلكترونية، وبمجرد انعتاقهم من سيطرة نظام الأسد أخذوا ينشرون خباياها على الناس.
يقول الروائي والناقد نبيل سليمان لموقع "تلفزيون سوريا" إنه وخلال تسع سنوات "تدفق الفيضان الروائي السوري بالمئات، وعاد الحديث عما بين السياسي والأدبي إلى الالتزام الجدانوفي والسارتري. وجوهر العودة هو العلاقة الحتمية والمعقدة والحساسة والشفيفة بين السياسي والأدبي".
ويرى الروائي إبراهيم الجبين المقيم في ألمانيا أن الرواية السورية "مثلها مثل كل أنماط الإبداع السوري خضعت لتحولات عديدة، لا سيما في السنوات الأخيرة، وهي بميزان الجودة تتقدم بمراحل على كثير من الأعمال التي كانت تنتجها مطابع اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة في سوريا، وحتى تلك الأعمال التي كانت تصدر عن دور نشر خاصة، لكتاب يفترض أنهم يمثلون تياراً جديداً في الرواية السورية، إلا أن معظم أعمالهم كانت نوعاً من التلفيق والفبركة"، ويضيف "كان لابد لما جرى وما زال يجري في سوريا أن ينعكس على الكتابة الروائية شكلاً ومضموناً، فحالة التشظي في الحياة العامة باتت تشظياً في السرد وفي الصورة والبناء الحكائي. وتلك أطوار تحوّلٍ إلى الأمام إذا ما قسناها إلى ما كان يكتب في زمن ما قبل الثورة".
مشهديات التحدي
أما الروائي هيثم حسين المقيم في لندن فينفي عن الرواية السورية تهمة الاستقالة من القيام بدور ما في المشهد، ويقول إن "دور الرواية في التعرية والكشف والفضح، دور لا يتوقف، فهي تواصل إزاحة النقاب عن الممارسات الخفيّة التي اقترفتها وما تزال تقترفها أجهزة النظام الإجراميّ، ولا تنفكّ تدوّن مشهديّات التحدّي والانتصار للأحلام التي بشّرت بها الثورة التي تكالبت محاولات وأدها إقليمياً وعالمياً".
ولكن حين تسأل الروائيين كيف يتجلى ذلك الأثر، تجد أن البعض منهم يصورها كمرآة عاكسة للواقع. كما يؤكد نبيل سليمان الذي يرى أن "ما تجلى في الطوفان الروائي، هو صدور أقله في الداخل، وأقل هذا القليل جاء معارضًا في مستوى فني رفيع، بينما غلبت الرداءة والموالاة. أما في الخارج فندر أن لم تكن رواية على صلة بزلزلة السنوات التسع. وفي حدود متابعتي (الدؤوبة) أرى أن الغلبة كانت لما جاء مبهورًا ومصفقًا وتسجيليًا ومبتلى بالشعاراتية والثأرية وغياب الأسئلة الكاوية عن الثورة المغدورة أو الهزيمة التراجيدية مثلًا.
ما هو المطلوب من الرواية السورية وما هو دورها المتوقع؟ يتساءل إبراهيم الجبين وهو الذي أثارت روايته "عين الشرق" التي صدرت في العام 2016 كثيرا من الجدل وكتبت عنها عشرات المقالات وترجمت إلى الألمانية مطلع العام الحالي، يتابع الجبين "ليس على الرواية أن تكون كتيبة مقاتلة، وليس عليها أن تحلّ محل الحزب السياسي، هي عمل فني في الأول والآخر. والرسائل المتضمنة في ثناياها هي جزء من بنية الكاتب السيكولوجية والمعرفية وتجربته وخياله، وجانب أصيل من هويته. فإذا لم يكن هذا واضحاً في عمله، فإنه يقدم طبعات جديدة عن أعمال الآخرين ولكن بتوقيعه هو. وفي الوقت ذاته، ليس من فضائل الروائي السوري في هذا الزمن السوري بامتياز، أن يقدّم مادة للتسلية وحسب. كما يفعل بعض الروائيين السوريين المنفصلين عن الواقع".
أصدر هيثم حسين روايته "عشبة ضارة في الفردوس" وكانت منعطفاً من بين أعماله، وقبلها أسس موقع "الرواية نت" المعروف، وهو يتابع راصداً الإصدارات الروائية في الساحة السورية والعربية عموماً، مؤكداً أن "الرواية الراهنة هي شهادة الروائيّ على عصره، لذا فالروائيّ السوريّ المناهض للنظام يكشف العفن القارّ في بنية النظام نفسه، ويغوص عميقاً ليلتقط ممهّدات الثورة، ومن ثمّ يومياتها، أو جزء من حكاياتها التي لا تنتهي، والتي يمكن أن تشكّل نبعاً سرديّاً لا ينضب، سواء من جهة المأساة أو من جانب الحلم المبدّد الذي يستقي انبعاثه وتجدّده من قوّة الحقّ التي تضخّ الحياة فيه".
دور الرواية، كما يراه هيثم حسين، لا يتوقّف عند مرحلة بعينها، ولا يكون محصوراً بصيغة الماضي، أو الحاضر، بل يتّسم بامتدادية واستمرارية وديمومة متجدّدة ترتحل إلى المستقبل، وتعيد الدوران في رحلة القراءة عبر الزمن، وفي مختلف الأمكنة. وإن كانت هناك "هزيمة" في الميادين والمواجهة المباشرة في الثورة السورية لأنّ النظام بلغ حدّاً غير معقول من العنف والوحشيّة، ولأسباب كثيرة يطول شرحها، فإنّ الروائيّين حقّقوا ما يمكن توصيفه بالاختراق عبر التعتيم على سردية النظام بتقديم سرديات الضحايا والثوّار والحالمين والمكسورين.. ولا أشكّ أبداً بأنّ البقاء للأدب والرواية. كما أنّ التاريخ لا يكتبه النظام في حالتنا السورية لأنّه ليس منتصراً قطّ، بل هو نزيل الهزيمة الدائمة التي يرزح في عتمتها، بل يكتبه الروائيّون والأدباء الذين ينتصرون للقيم الإنسانية التي لا تنهزم ولا تموت بالتقادم.
تهافت روايات الداخل
ويكاد الروائيون الثلاثة يتشاركون في التقليل من قيمة ما يكتب في الداخل السوري من روايات حالياً. فإبراهيم الجبين يعتبر أن تلك الروايات "عبارة عن وصفات جاهزة لنيل الجوائز حسب مساطر لجان التحكيم في الخارج، وحسب مساطر رجال المخابرات في أجهزة النظام. وهي لا تحمل قيمة قابلة للصمود أمام الزمن وتطور وعي القارئ. سواء كان كتابها من المؤيدين أو المعارضين الذين يعيشون تحت بسطار الأسد. وهي أعمال متهافتة قائمة على الاستخفاف بالسوريين وتضحياتهم، حتى إن بعضها تتحرش بالضحايا وتتهمهم وتحاول الإساءة إليهم، مثلها مثل الدراما التي تنتج في سوريا اليوم تحت سلطة الأسد. أما الأعمال التي صدرت للكتاب الرافضين لقتل الأبرياء وتدمير سوريا والذين قرروا أن القيمة الحقيقية للكاتب هي أن يكون صاحب موقف مبدئي لا عجينة رخوة، فهي أعمال جديرة بالنظر على الأقل، وكتابها قدموا ما يتصورون أنه يخدم قضية سامية نبيلة. وإن كانت مستوياتها الفنية تتفاوت".
ويهاجم هيثم حسين الروائيين المؤيدين للنظام أو الذين يعيشون تحت سيطرته دون أن يبدو عليهم أي تأثر بما يجري. معتبراً أن السنوات الأولى للثورة شهدت "استنكافاً وصمتاً من قبل أتباع النظام أو من الرماديين الذين يحاولون التغطية على رماديتهم وزئبقيّتهم وانتهازيتهم بالحديث عن شعارات لا تقنع أحداً، أو استعانوا بتوصيفات ضبابية مخادعة، لكنّها تمارس تضليلاً وتقنيعاً وهروباً من مواجهة الاستحقاق، وواجب تسمية القاتل الرئيسيّ الذي يعدّ أسّ الإجرام بالاسم والإشارة إليه بشكل صريح لا يقبل المواربة، وليس البحث فقط عن القتلة اللاحقين من تنظيم الدولة ومن لفّ لفّهم ممّن تهافت على الأرض السوريّة من أصقاع الأرض، لكن فيما بعد بدأت أصوات بعضهم ترتفع، ويتمّ الترويج لهم على أساس أنّهم لم يغادروا سوريا، وكأنّهم ضحّوا بعدم المغادرة، أو ببقائهم فيها، مع العلم أنّهم من أزلام النظام أو من الطابور البائس الذي يختبئ في الجحور، وينتظر انجلاء الأمور ليقفز إلى معسكر الانتهازية المتلوّن".
أما نبيل سليمان صاحب "جداريات الشام" والذي كتب العديد من المقالات خلال السنوات الماضية موثقاً للنهج الذي تسير عليه الرواية السورية في زمننا الحالي، فلم يتردد في القول "ظهرت في الخارج روايات عديدة لأسماء جديدة أو لمخضرمين تألقت بجمالياتها في أداء الدور المفقود المأمول".
ويختم هيثم حسين بالقول إن الروائيين المعارضين قدّموا عن النظام شهادات روائيّة تعبّر عن هذه المرحلة المفصلية من تاريخ البلد، وأدلوا بدلوهم في فضح مزاعم النظام وممارساته المقرفة، بالموازاة مع كشف ممارسات وجرائم عصابات زعمت أنّها تعارضه، في حين أنّها كانت تنافسه في الإجرام، وتكاد تتفوّق عليه بالوحشيّة.
ويبقى ملف الرواية السورية وهذه اللحظة، مفتوحاً أمام الأسئلة، تجيب عنها الأعمال الروائية ذاتها، التي تمكنت من غزو العالم بحكايات، مهما تعددت مآسيها وجوارحها، إلا أن شذاها يفوح كما اعتاد أن يفعل، ياسمين دمشق.