على مدى عقدين من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، مرّت مسيرة حزب "العدالة والتنمية" في الحكم بالعديد من المنعطفات الصعودية والهبوطية. في عام 2009، تراجعت أصوات الحزب على المستوى الوطني إلى 38% قبل أن تعود إلى الارتفاع إلى 49.8% في انتخابات 2011. ثم تراجعت في انتخابات يونيو 2015 من 40% إلى 49% في الانتخابات التالية التي جرت بعد خمسة أشهر. كان القاسم المشترك بين هذه المنعطفات هو عنصر أردوغان، الذي نجح حتى الانتخابات المحلية الأخيرة في تعافي "العدالة والتنمية" من المنعطفات الهبوطية والحفاظ على هيمنته كحزب أول على المستوى الوطني.
إن نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، التي أدّت إلى فقدان "العدالة والتنمية" للمرة الأولى منذ صعوده إلى السلطة مكانته كمُهين على الحياة السياسية، خلقت تحدياً كبيراً مقارنة بالتحديات السابقة التي مرّت بها. مع ذلك، فإن الرهان على أردوغان لا يزال واقعياً لعكس مسار تحوّلات 31 مارس آذار في الفترة المتبقية من ولايته.
عقب الهزيمة المدوية للحزب الحاكم في الانتخابات المحلية، قدّم أردوغان تقييماً عميقاً وصريحاً لأسباب الهزيمة ويُمكن تلخيصها في سببين رئيسيين هما تردي الوضع الاقتصادي والجدران التي بناها الحزب الحاكم مع الشارع. رغم ذلك، فإن التكلفة التي دفعها "العدالة والتنمية" هذه المرة كانت باهظة مقارنة بالتكاليف السابقة. ولا أتحدّث عنا عن فقدانه الهيمنة على الحكم المحلي لصالح حزب "الشعب الجمهوري" فحسب، بل أيضاً عن فقدانه قاعدة دعم وازنة مكّنته خلال العقدين الماضيين من الحفاظ على السلطة. من المؤكد أن تردي الوضع الاقتصادي لعب دوراً حاسماً في تغيير موازين القوى السياسية على مستوى الحكم المحلي في انتخابات الحادي والثلاثين من مارس آذار، لكنّه ليس السبب الوحيد. إن حقيقة أن الهوية الأساسية للـ"العدالة والتنمية" كحزب محافظ ليبرالي إصلاحي ضعفت في السنوات الأخيرة، ساهمت في هذه الخسارة الكبيرة. كما أن النهج الاستقطابي الحاد لحكم أردوغان منذ ما يقرب من عقد عمّق من مأزق حزب "العدالة والتنمية". لذلك، لم تعد شريحة وازنة من الناخبين المحافظين والباحثين عن الرفاهية الاقتصادية ممن دعموا أردوغان في السابق، يرون في "العدالة والتنمية" كحزب يُعبر عن تطلعاتها وقادر على مواصلة قيادة تركيا بالطريقة التي فعلها خلال العقدين الماضيين.
إن الخطاب التصالحي الذي قدّمه أردوغان بعد هزيمة حزبه في الانتخابات المحلية يُعد مؤشراً على التحول من سياسة الاستقطاب إلى الخطاب الجامع.
سيكون إنجاح خطة التعافي الاقتصادي في الفترة المتبقية من رئاسة أردوغان ضرورياً في استراتيجية الحزب الحاكم لاستعادة مكانته كالحزب الأول في تركيا، لكنّه لن يكون كافياً وحده بطبيعة الحال. خلال العقدين الماضيين، كانت إحدى نقاط قوة أردوغان في الحكم تتمثل في ضعف معارضيه. لكنّ نقطة قوة المعارضة الآن أضحت تتمثل في ضعف الحزب الحاكم. ولا يرجع ذلك إلى التردي الاقتصادي فحسب. لم يكن بوسع حزب "الشعب الجمهوري" تصدر الانتخابات الأخيرة واستقطاب الناخبين المختلفين إيديولوجياً من حزب "الجيد" القومي المعارض وحزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" الكردي، وشريحة من الناخبين المحافظين، لولا نجاحه في تبني خطاب سياسي جامع يتجاوز العوامل المستقطبة الحادة التي أنهكت السياسة الداخلية والاقتصاد والمجتمع. إن الخطاب التصالحي الذي قدّمه أردوغان بعد هزيمة حزبه في الانتخابات المحلية يُعد مؤشراً على التحول من سياسة الاستقطاب إلى الخطاب الجامع. وإذا أصبح هذا الخطاب المُهيمن على طريقة إدارة أردوغان في السنوات الأربع المتبقية من رئاسته، فإنه سيُساعد "العدالة والتنمية" في تجاوز انتكاسة 31 مارس آذار.
مع ذلك، فإن التكاليف المترتبة على الأخطاء لا يُمكن تداركها بسهولة. فقد استطاع حزب "الشعب الجمهوري" الاستفادة من أخطاء أردوغان في الحكم في السنوات الماضية للهيمنة على الحكم المحلي. ولأن الحكم المحلي يُشكل بوابة رئيسية للأحزاب السياسية التركية لبناء قاعدة دعم قوية، فإن الفرصة التي خلقتها الانتخابات المحلية لحزب "الشعب الجمهوري" لتحقيق هذا الهدف تحولت من كونها نتيجة لأخطاء أردوغان إلى نقطة قوة ذاتية. وإذا استطاع الحزب إثبات كفاءته في الحكم المحلي، فإنه سيُعزز فرصه لتحقيق تحول سياسي في تركيا في الانتخابات العامة المقبلة في عام 2028. سيكون من غير الواقعي تصور أن حزب "الشعب الجمهوري" استطاع تطوير نفسه إلى نسخة جديدة أكثر قبولاً لدى غالبية الأتراك، لكنّ نجاحه في الاستفادة من أخطاء الحزب الحاكم ونهج أردوغان الاستقطابي يُعد مؤشراً قوياً على تحديث جديد في هوية أكبر أحزاب المعارضة.
التماهي بين حزبي "الشعب الجمهوري" و"المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي" في تحدي حكم أردوغان، سيبقى مرهوناً أيضاً بعوامل مُتعددة ومتشابكة في السياسة الداخلية.
رغم ذلك، فإن المتناقضات التي تؤثر في ديناميكيات السياسة الداخلية التركية ستبقى مؤثرة في تحديد الاتجاه المستقبلي العام. وأعني بذلك دور الهويات الإيديولوجية في تشكيل هذا الاتجاه. ستبقى قدرة حزب "الشعب الجمهوري" على تحويل الناخبين القوميين، الذين استقطبهم في الانتخابات المحلية إلى قاعدة صلبة، مرهونة بالحالة القومية المعارضة ومستقبلها. والتغيير المتوقع الذي ينتظر قيادة حزب "الجيد" بعد هزيمته في الانتخابات المحلية سيُحدد مستقبل هذه الحالة ومدى قدرة حزب "الشعب الجمهوري" على مواصلة استقطابها. كما أن التماهي بين حزبي "الشعب الجمهوري" و"المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي" في تحدي حكم أردوغان، سيبقى مرهوناً أيضاً بعوامل مُتعددة ومتشابكة في السياسة الداخلية. ولا يزال أردوغان قادراً على اللعب على تناقضات التماهي بين الحزبين المعارض الرئيسي والكردي من خلال تصعيد وتيرة الصراع التركي مع حزب "العمال الكردستاني" المحظور في سوريا والعراق. لكنه سيتعين عليه الموازنة بين هذا اللعب وبين الحد من انجراف الحالة السياسية الكردية الداخلية نحو التماهي مع حزب "الشعب الجمهوري".
أخيراً، سيكون مستقبل زعامة أردوغان مؤثراً في تحديد قدرة "العدالة والتنمية" على التعافي من هزيمة الانتخابات المحلية. لقد أعلن أردوغان قبل الانتخابات أنها الأخيرة التي سيخوضها، وستكون فترة السنوات المتبقية من رئاسته كافية لإعداد زعيم بديل له قادر على قيادة الحزب الحاكم والحفاظ على الحكم بعد انتخابات 2028. وإذا اختار أردوغان المضي قدماً في هذا المسار بدلاً من محاولة البحث عن مسار لإطالة أمد رئاسته، فإن فرص "العدالة والتنمية" في استعادة مكانته حزب رائد في السياسة الداخلية ستتعزز.