وافق مجلس الأمن الدولي بالإجماع في بداية شهر كانون الثاني الماضي، على تقديم المساعدات الإنسانية لقرابة أربعة ملايين سوري في الشمال الغربي من البلاد، لمدة ستة أشهر أخرى عبر الحدود السورية التركية، بعد أن كانت المهلة تنتهي في 10/1/2023.
روسيا التي تمكنت خلال الأعوام السابقة من وضع تعديلات على مقاسها ومقاس النظام السوري في كل مرة يتم فيها تجديد مدة التفويض لإدخال المساعدات إلى المحتاجين في سوريا، بدءاً من تخفيض عدد المعابر من أربعة إلى واحد، واشتراط إدخال المساعدات عبر خطوط التماس بإشراف الحكومة السورية، وتقليص دعم مشاريع إعادة التعافي المبكر إلى أقصى حد ممكن. ثم طرحت موسكو شروطاً جديدة للموافقة على تجديد التفويض، أولها: توفير تمويل دولي لإصلاح شبكة الكهرباء في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، وثانيها: مشاركة روسيا في مراقبة المساعدات القادمة عبر معبر باب الهوى، وثالثها: زيادة كمية المساعدات الداخلة عبر خطوط التماس بإشراف فرق من دمشق.
الوضع الحالي في عفرين واعزاز وإدلب أصبح مشابهاً لوضع أبناء المخيمات إن لم يكن أسوأ، فهم محرومون حتّى من الخيم
حالياً، مضى قرابة شهر على التفويض الجديد، مع كارثة إنسانية نتيجة الزلزال المدمر، حيث رفعت تركيا حالة التأهب والإنذار للدرجة الرابعة ما يعني عجز أنقرة عن تقديم الدعم والمساعدة لشعبها المنكوب في الزلزال، فكيف ستستمر في تقديم المساعدات إلى الشمال الغربي المعتمد على ما يتم إدخاله إليهم عبر تركيا، وإذا كانت المساعدات الدولية مخصصة للفقراء والمحتاجين في المخيمات والعشوائيات وغيرهم، فإن الوضع الحالي في عفرين واعزاز وإدلب أصبح مشابهاً لوضع أبناء المخيمات إن لم يكن أسوأ، فهم محرومون حتّى من الخيم، وأساساً تقديم المساعدات متوقف بسبب الأضرار التي لحقت بالطرق ومشاكل لوجستية أخرى مرتبطة بالزلزال العنيف. فكيف ستتصرف روسيا، وهي الساعية دوماً لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية لصالحها وصالح السلطة في دمشق، سواء عبر زيادة حجم الوصاية على إدخال المساعدات الإنسانية، ورغبتها في توظيف عمليات إعادة التعافي المكبر عبر الاستفادة من استجرار الأموال بالنقد الأجنبي وضخها في المصارف السورية والروسية، وتوفير حركية مثمرة في الأسواق عبر شراء سلع السلل الغذائية التي يتم توزيعها عبر خطوط التماس من تلك الأسواق حصراً. كل ذلك كان يتم والمدن السورية بغير حالتها اليوم، فمحافظات حماة واللاذقية وجبلة أصبحت بحكم المنكوبة والخارجة عن السيطرة، وروسيا غارقة في المستنقع الأوكراني، ولعل هذا الزلزال جاء كطبقٍ من ذهب لها، لتبدأ رحلة جديدة من الابتزاز وفرض المزيد من الشروط، لن تكون المحافظات الساحلية بعيدة عن الاستفادة من تجديد التفويض القادم، وليس بالبعيد أن توظف روسيا المساعدات للضغط على الموقف التركي من حربها ضد كييف.
المشكلة الأخرى المساعدة للتحكم الروسي بملف المساعدات، هو البطء الكبير من جانب الحكومات الغربية، فبعد أن دعمت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا لتأسيس آلية جديدة للمساعدات تدعى "إنصاف"، وبدأت منظمات إنسانية سورية عاملة في الشمال الغربي للبلاد بتقديم طلبات للحصول على منح من صندوق المساعدات الجديد، بعد أن خصصت الدول المانحة مبلغاً أولياً له وقيمته 25 مليون يورو. لكن ذلك غير كافٍ. ففي الحالة العادية التي سبقت الانهيارات في المباني والشقق السكنية والزلزال المدمر للمدن والبلدات التركية والسورية في غرب الفرات، لم يكن ذلك المبلغ يكفي، كيف الحال الآن مع الخسائر التي وصلت لقرابة مليار دولار وفقاً لتقديرات أميركية. الآلية الجديدة يُمكن أن تسهم في تخفيف التأثيرات الناجمة عن توقف المساعدات الأممية، لكنها لن تكون البديلة أبداً، فالدعم والمساعدات المقدمة من الأمم المتحدة كبير جداً ولا يمكن تعويضه، خاصة اللقاحات والمساعدات الطبية والوقائية من الأمراض، ومع النتائج الفظيعة والأرقام المهولة للمرضى والمصابين والجرحى من جراء الزلزال والهزات الأرضية، فإن حجم الضغط على القطاع الطبي في تركيا وشمال غربي سوريا يتضاعف إلى عشرات المرات إن لم يكن أكثر، ولن تجد روسيا في كل ذلك أي استحياء في المزيد من الضغط والابتزاز، خاصة وأن الدول الغربية نفسها تعيش أزمة وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وتحكم الأولى بكميات الغاز الواصلة إلى أوروبا. عدا أن مشروع/صندوق إنصاف فاقد للخبرة والحوكمة وضمان وصول المساعدات للمحتاجين، ولن يكون موازياً لصندوق الأمم المتحدة، الذي بدأ عمله منذ 2014 وأصبح في حالة حوكمية ممتازة نتيجة للتراكم المعرفي والخبرات.
لا يجوز خلط المواقف من الحدث السوري مع العالقين تحت الأنقاض، ومساعدة المحتاجين في اللاذقية وإدلب وعفرين والباب وحماة
المتوقع أن يطول استفاقة السوريين من مصابهم الجلل، والأكثر توقعاً أن يدخلوا في متاهات زلزال جديد، قوامه الانهيار العميق بأقصى درجات فقد الإنسانية ومنظومة القيم الأخلاقية، وأن تسارع روسيا لاستثمار الزلزال لفرض شروطٍ جديدة، لن تكون أوكرانيا والمحافظات السورية المنكوبة الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية بعيدة عنها، وحينها ربما نشهد صعوداً جديداً لمسار أستانا وسوتشي في وجه مسار جنيف للحل السياسي، ما لم تبادر أميركا والدول الغربية لفعل شيء جذري. وإن كان مساعدة المنكوبين والمتضررين في أيّ مكانٍ وبغض النظر عن الانتماءات والولاءات والاصطفافات السياسية والحزبية هو فرضٌ من فروض الأخلاق ومبادئ العمل الإنساني، ولا يجوز خلط المواقف من الحدث السوري مع العالقين تحت الأنقاض، ومساعدة المحتاجين في اللاذقية وإدلب وعفرين والباب وحماة، لا بد أن تنفصل عن أيّ مواضيع أخرى. لكن ماذا لو قدمت روسيا شروطاً جديدة لتقديم المساعدة للمحتاجين؟ ويبدو أن السوريين أصبحوا منسيين في مناطقهم ومخيماتهم، وعليهم دوماً تقديم فواتير توافق الدول ذات الشأن في الملف السوري. الزلازل التي اجتاحت الحواضن السورية كثيرة، الماء والكهرباء والطعام والمأوى والأمان والحل السياسي وملف المعتقلين وعودة المهجرين وإعادة الإعمار والحل السياسي وكتابة الدستور وسلال ديمستورا...إلخ كلها زلازل أمعنت في عذابات السوريين، ليأتي الزلزال الأخير ليقضي على آخر آمالنا في التعافي المبكر، أو الاستفادة من المجتمع الدولي. وإن لجأت روسيا -وهو المتوقع- لفعلة الابتزاز والاستغلال في ملف ضحايا الزلزال عبر تقويضها لتفويض تمديد المساعدات الإنسانية، حينها سيكون السوريون ضحية جديدة، وربما إلى أمد طويل جداً.