أثارت مذكرة التفاهم التي وقعتها المؤسسة العامة للطيران المدني التابعة للنظام في سوريا وشركة النقل واللوجستيات الروسية "افياديلو" أواخر شهر تموز/يوليو الكثير من التساؤلات حول بنود المذكرة ونواحي العمل المشترك في قطاع النقل الجوي، ولماذا تم اختيار مطار حلب الدولي مكانا لتوقيع المذكرة برغم وقوعه في دائرة الهيمنة الإيرانية عبر الميليشيات التابعة لها والتي تتمركز بكثافة في منطقة المطارين العسكري والمدني شرقي المدينة.
يبدو أن الحديث عن التنافس والصراع الروسي الإيراني في سوريا بات مكرراً، ولا يصف بدقة الواقع المستجد للوجود والهيمنة لحليفي نظام الأسد، فكلاهما يواصل توسعه وتمدده في المفاصل والقطاعات الحيوية، ولا يعرقل توسع نفوذ أحدهما توسع نفوذ الآخر، وقلما يحدث تصادم بين الطرفين، وهذا لا يعني بالضرورة أن هناك تفاهما مسبقا بين الطرفين يوصي بتحاشي الصدام وتقاسم النفوذ، بل يمكن توصيف ما يحدث بالسباق والسعي المتواصل لكلا الطرفين عبر المزيد من الأدوات والوسائل الهادفة إلى التغلغل في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتي ربما تؤسس لبقاء طويل في البلاد.
مذكرة التفاهم
قالت مواقع إعلامية موالية للنظام إن توقيع مذكرة بين المؤسسة العامة للطيران المدني في سوريا وشركة النقل واللوجستيات الروسية “افياديلو” جرت ضمن فعاليات الاجتماع المشترك السوري الروسي لمتابعة أعمال المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين والمهجرين السوريين، ونقلت "وكالة سانا" التابعة للنظام عن مدير المؤسسة العامة للطيران المدني باسم منصور قوله إن "الهدف من مذكرة التفاهم هو تفعيل رحلات الطيران بين سوريا وروسيا، وعبر هذه المذكرة سيتم العمل على تفعيل خط حلب كراسنودار في روسيا ما يسهم بتدفق حركة النقل الجوي والبضائع والركاب وينعكس إيجاباً على الفعاليات الاقتصادية والصناعية". وقال منصور لإذاعة "شام إف إم" المقربة من النظام، إن الرحلات ستكون مخصصة في البداية للشحن فقط ولاحقاً لنقل الركاب، وذكر منصور أنه تم توقيع اتفاق نقل جوي مع أرمينيا قبل شهرين ونصف ما سيسهل حركة النقل بين البلدين بشكل كبير، وهناك اتفاقان سيوقعان قريباً مع كل من سلطنة عمان والعراق.
الباحث الاقتصادي رضوان الدبس قال لموقع "تلفزيون سوريا" إن "مذكرة التفاهم غير واضحة حتى الآن، وما ورد في تصريحات مسؤولي النظام والشركة الروسية مجرد حديث عمومي للاستهلاك الإعلامي والدعائي ويندرج في إطار الترويج لمؤتمر عودة اللاجئين السوريين والجهود الروسية المفترضة لإنعاش القطاعات الحيوية السورية".
وأوضح الدبس أن "مذكرة التفاهم ليست اتفاقاً ملزماً للطرفين الموقعين، وهي ليست وثيقة قانونية لنقول إن الطرفين قد عقدا صفقة لإعادة تشغيل مطار حلب، أو عقدا اتفاقاً يضعف الوجود الإيراني المهيمن في منطقة المطار".
وتوقع الدبس أن "تسمح الميليشيات الإيرانية بإعادة تشغيل المطار المدني بالشراكة مع روسيا، ولن تتخلى عن نفوذها الأمني على الأقل، فالمطار بحاجة إلى عمليات تأهيل جدية، والصناعيون والتجار الحلبيون بحاجة إلى شراكة من هذا النوع تفتح لهم ممرات جوية جديدة باتجاه موسكو ومنها الى أوروبا وتركيا، وإعادة تشغيل المطار وفق محددات ومصالح الميليشيات الإيرانية الموجودة في منطقة المطار تخدم حتماً المصالح الإيرانية في حلب والتي تشهد تطوراً متسارعاً بعد افتتاح القنصلية الإيرانية فيها قبل شهرين من الآن".
تنافس مفترض
يرى الباحث الاقتصادي السوري يحيى السيد عمر أن المذكرة تمهد لصراع وتنافس بين روسيا وإيران على مطار حلب، بشكل يشبه التنافس المفترض بينهما للسيطرة على المنافذ والممرات البرية التجارية الرئيسية في سوريا، ويرى أن" لحلب ومن خلفها مطارها أهمية كبرى لكل الأطراف الفاعلة في القضية السورية، فحلب حاضرة الشمال السوري، والعاصمة الاقتصادية للبلاد، وعلى الرغم من تراجع أهميتها الاقتصادية بفعل الحرب فإنها مرشحة وبقوة لاستعادة دورها، لهذا فإن الميليشيات الإيرانية سعت سابقاً لترسيخ وجودها في هذه المنطقة، والآن تسعى روسيا لضمان وجودها فيها، وبالتأكيد فلا طاقة للميليشيات الإيرانية على مواجهة التمدد الروسي"
وأضاف السيد عمر خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" أنه "فيما يتعلق بالأهداف الروسية من هذا الاتفاق أو مذكرة التفاهم إن صح القول، فلا أعتقد أن لروسيا مصلحة في إقامة قاعدة عسكرية متكاملة في حلب، فالمصلحة الروسية تتمثل في موانئ على البحر تكون بمنزلة محطة لوجستية للأسطول الروسي وقاعدة عسكرية متقدمة في المياه الدافئة، أما بالنسبة لحلب ومطارها، فعلى الأغلب تسعى روسيا لاستخدامها من البوابة الاقتصادية من خلال محاولة الهيمنة على أي حركة اقتصادية مستقبلية يمكن أن تشهدها حلب".
من جهته، يعتقد الخبير في اقتصاديات الشرق الأوسط خالد التركاوي، أن "توقيع المذكرة في مطار حلب تؤكد تصاعد التنافس الإيراني الروسي في مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية في سوريا، فروسيا تسعى دائماً إلى أن توجد في المفاصل الرئيسية للمؤسسات والقطاعات الحيوية الكبيرة، وتحاول أن تمنع إيران من التفرد في الهيمنة في أي قطاع، ولذا فالمذكرة تمهد لتنافس مفترض لكنها لن تلغي الوجود والمصالح الإيرانية". وأضاف التركاوي لموقع "تلفزيون سوريا" أن "إيران اليوم حاضرة بقوة في سوريا، وهي أكثر قدرة من روسيا على إدارة ملفات النفوذ والهيمنة بحكم دخولها المبكر إلى جانب النظام، وهي اليوم تسيطر على معظم المنافذ الحدودية البرية والبحرية في سوريا، ويبدو أنها غير مستعدة للتنازل عن الجسر الجوي الذي لطالما قاتلت لأجل إبقائه تحت سيطرت المليشيات التابعة لها منذ العام 2012، أي مطار حلب".
يمكن ملاحظة الهيمنة الإيرانية على المنافذ والممرات في سوريا بسهولة، فالحدود العراقية السورية تحكمها الميليشيات الإيرانية والتي تدير عمليات التجارة والنقل البري الرسمي، وعمليات التهريب وتدفق المقاتلين والأسلحة، وعلى الحدود اللبنانية السورية إيران حاضرة بقوة أيضاً عبر ميليشيا حزب الله اللبناني والفرق والتشكيلات العسكرية الموالية لها في جيش النظام، كالفرقة الرابعة، كما أن إيران كادت أن تصل إلى الهيمنة الكاملة على المنفذ البري الواصل بين الأردن وسوريا والميليشيات التابعة لها اليوم تقاتل وتضغط في درعا لأجل تحقيق هذا الهدف، وعلى الساحل السوري لإيران وجود جدي وقوي، وكذلك في مطار دمشق، وعدد من المطارات العسكرية وسط سوريا، فمن باب أولى أن تحكم قبضتها على مطار حلب وتمنع خسارته لصالح روسيا، ولا سيما بعد أن افتتحت قنصلية تضم ممثلية تجارية كبيرة، وبدا أنها تتجه فعلياً إلى بناء قاعدة من الموالين عبر الأذرع الاقتصادية والدينية والعشائرية.
يرى الباحث يونس الكريم أن "خلق بيئة اقتصادية موالية وتخدم مصالح جهة ما يتطلب تأمين منافذ وممرات لنقل المواد الخام والتسويق والانفتاح على الخارج، وفي حالة روسيا ومن خلال سعيها نحو التغلغل في البنى الاقتصادية السورية وبخاصة حلب التي زارها وفد اقتصادي روسي يبدو أنها بدأت العمل جدياً على إعادة تفعيل المطار وإيجاد جسر جوي يسهل تدفق البضائع والمواد الخام لخدمة مصالح في حلب والشمال السوري".
وأضاف الكريم لموقع "تلفزيون سوريا" أن "زيارة الوفد الاقتصادي الروسي على لحلب في 26 حزيران، واتفق الوفد مع ممثلي غرفتي التجارة والصناعة على توطين خطوط الإنتاج الروسية، وتصدير المواد الأولية من الشركات الروسية إلى سوريا، والعمل على إيجاد أسواق خارجية لزيادة الصادرات، وتبادل الخبرات، ولذا يمكن القول إن إبعاد إيران والميليشيات التابعة لها عن منطقة مطار حلب أولى الخطوات باتجاه إعادة تشغيله، وفتح الباب لتدفق الأموال والبضائع بالشكل الذي يخدم المصالح الروسية والتجار والصناعيين المحسوبين عليها في حلب والشمال السوري".
المطار في دائرة النفوذ الإيراني
فشل نظام الأسد في الترويج لعودة مطار حلب الدولي إلى العمل، فبالرغم من الإعلان المتكرر للمؤسسة العامة للطيران عن تأهيل المطار وتجهيزه لاستقبال الرحلات الجوية منذ بداية العام 2019 ومرة ثانية وثالثة في العامين 2020 و2021 فإنه بقي خارج الخدمة ولا يقدم الخدمات المطلوبة في نقل الركاب والبضائع، ويبدو أن وقوع المطار في دائرة الهيمنة الإيرانية كان السبب البارز في منع إعادة تشغليه.
شيعت الميليشيات الإيرانية في بلدة نبل شمالي حلب عنصرين تابعين لها قتلا بقصف إسرائيلي استهدف موقعهم في منطقة مطار حلب الدولي شرقي المدينة في 20 تموز الماضي، وجال الموكب شوارع البلدة وهتف المشيعون "من نبل إلى كربلاء هيهات منا الذلة" و "لن ننثني ولن ننحني حاضرون في كل ساح قسماً بالله لن نترك السلاح، الموت لأمريكا". هذا كان الاستهداف الجوي الأخير لمواقع الميليشيات الإيرانية في منطقة المطارين العسكري والمدني وهما متلاصقان شرقي حلب، وهو من ضمن الأهداف التي قصفتها الطائرات الإسرائيلية في منطقة السفيرة (معامل الدفاع ومنطقة جبل عزان)، وسبق أن قصفت إسرائيل مواقع الميليشيات الإيرانية في محيط مطار حلب خلال الأعوام 2018 و2019 و2020، ولذا بقي المطار في قائمة الاستهداف وفي هذا الحالة تستحيل عودته الى العمل بشكل طبيعي في ظل الوجود الميليشياوي واستخدام معظم مستودعاته لتخزين الأسلحة، واستمراره بالعمل كجسر جوي لنقل مقاتلي الميليشيات ونقل إمداداتها من الأسلحة.
قال الباحث في مركز جسور للدراسات محمد السكري إن "النظام السوري يعاني بشكل واضح من إدارة التناقضات بين الجانبين الإيراني والروسي فالعلاقة بينهما هي علاقة تكاملية من حيث الأهداف العسكرية ولكنها علاقة معقدة وتضاد في الأهداف الاستراتيجية في سوريّا وهذا ما يربك النظام".
وأشار السكري خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" إلى أن "افتتاح إيران قنصلية لها في مدينة حلب نبه الجانب الروسي لضرورة عدم إفراغ ساحة هذه المحافظة الاستراتيجية لإيران، وذلك عبر محاولة مقارعة إيران حول المرافق الحيوية ولا سيما المطارات العسكرية والمدنية كمطار حلب، ويبدو أن النظام السوري يميل من حيث تقليل حدة الخسائر والمواجهة مع إسرائيل وعدم ترك قواته عرضة للاستهداف لتوقيع هذه المذكرة، فمن المرجح أن هذه الخطوة ستدفع تل أبيب لإلغاء المطار من لائحة بنك الأهداف العسكرية إذا كان للجانب الروسي سيطرة ولو كانت جزئية، ولذا سيعني ذلك توافقا روسيا إيرانيا بالتراضي طالما أن ذلك سيحقق مصالح مشتركة".