وضعت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تركيا عبئاً غير مسبوق على اللاجئين عموماً، وبشكل خاص السوريين الذين وجدوا أنفسهم في عين العاصفة، بعد أن أسس أكبر أحزاب المعارضة التركية حزب الشعب الجمهوري حملته الانتخابية على وعود رئيسية أبرزها التعهد بترحيل السوريين خلال عامين من تسلّم حكم البلاد.
وازدادت اللهجة التصعيدية لمرشح الطاولة السداسية للرئاسة كمال كيلتشدار أوغلو، بعد جولة الانتخابات الأولى، التي أظهرت تقدم مرشح تحالف الجمهور رجب طيب أردوغان عليه بفارق يقارب 5 نقاط، مما دفع مرشح المعارضة لإبرام تحالف مع زعيم حزب الظفر أوميت أوزداغ المعروف بخطابه المتطرف تجاه الأجانب واللاجئين السوريين تحديداً، وامتلأت بعدها المدن التركية باللافتات التي يتوعد فيها كيلتشدار بترحيل اللاجئين السوريين في حال فوزه، وهذه المرة دون الإشارة إلى مدة سنتين!
في نظرة سريعة على نتائج الولايات التركية، يظهر بشكل واضح تقدم أردوغان وتحالف الجمهور عموماً في غالبية الولايات التي تستضيف اللاجئين السوريين
مع حلول مساء 28 أيار/ مايو الجاري، ورفع الحظر عن نتائج جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية، حصد أردوغان أكثر من 52% من أصوات الناخبين وحسم السباق الانتخابي، وخسر مرشح تحالف المعارضة، وسبق هذا فوز تحالف الجمهور بغالبية مقاعد البرلمان، على الرغم من إصرار أردوغان حتى اليوم الأخير في السباق الانتخابي على رفض طرد اللاجئين بشكل مهين، وأبدى التمسك بتهيئة الأرضية المناسبة لإعادتهم بشكل إنساني.
في نظرة سريعة على نتائج الولايات التركية، يظهر بشكل واضح تقدم أردوغان وتحالف الجمهور عموماً في غالبية الولايات التي تستضيف اللاجئين السوريين، إذ حازوا على أغلبية مريحة في كل من هاتاي وغازي عنتاب وكهرمان مرعش وكيليس وقونيا وبورصة، وهي الولايات التي تحتضن أكبر نسبة من اللاجئين السوريين، كما أن تقدم كيليتشدار أوغلو على أردوغان في ولاية إسطنبول كان بفارق طفيف يبلغ 2.5 نقطة تقريباً، ولا يمكن الجزم أن التفوق بإسطنبول مرتبط باقتناع الناخب بدعاية المعارضة حول اللاجئين، حيث هناك عوامل أكثر تأثيراً منها دعم شريحة كبيرة من الأكراد لمرشح المعارضة بحكم التوافقات السياسية، بالإضافة إلى الاصطفاف الإيديولوجي خاصة في القسم الأوروبي من إسطنبول، والأثر الكبير للتضخم في المدن الكبرى مقارنة مع باقي المناطق.
أيضاً؛ تفوق مرشح المعارضة في ولاية مرسين التي تستضيف قسما من اللاجئين السوريين، لا يتعلق بملف اللاجئين بشكل أساسي، إذ إن هذه الولاية إلى جانب إزمير وأنطاليا من المعاقل التقليدية لحزب الشعب الجمهوري الذي يرأسه كيليتشدار.
ومن الخلاصات اللافتة التي يمكن استخلاصها من نتائج الانتخابات الأخيرة، عدم نجاح حزب الظفر بقيادة أوزداغ بحصد أي مقعد في البرلمان، واقتصار نتيجته على قرابة 2% من غالبية أصوات الناخبين، على الرغم من كل الدعاية التحريضية وتخويف المجتمع التركي من خطر اللاجئين.
أيضاً، لا يمكن ربط صعود التيار القومي في الحياة السياسية بقضية كراهية الأجانب واللاجئين، إذ ثمة عوامل أخرى أشد تأثيراً وتفسر صعود التيار القومي التركي، وهي متعلقة بالمخاوف من تنامي دور حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الحياة السياسية التركية (متهم بالتنسيق مع حزب العمال الكردستاني)، خاصة بعد التوافقات التي حصلت بين هذا الحزب والطاولة السداسية، التي أدت لإثارة القلق في الأوساط التركية وزادت المخاوف من تكرار سيناريو سوريا والعراق من حيث إقامة حكم ذاتي، لكن هذه المرة بتوافقات سياسية، وبالعموم هذه المخاوف ليست وليدة اللحظة، بل زادت وتطورت منذ إعلان وحدات الحماية الكردية في سوريا بالاشتراك مع قوى أخرى مشروع الإدارة الذاتية قرب الحدود التركية، والدليل على التحليل السابق تراجع شعبية الحزب الجيد إلى ما دون 10% مقارنة مع انتخابات عام 2018، بسبب تأييد حزب الشعوب الديمقراطي لتحالف المعارضة الذي ينضوي ضمنه الحزب الجيد ذو الخلفية القومية، في حين حافظت الحركة القومية على شعبيتها عند 11% رغم كل استطلاعات الرأي التي كانت ترجح تراجع شعبية الحركة إلى 7%.
لقد أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة في تركيا غياب الجدوى الكبيرة لعملية التحريض على اللاجئين، وأن الناخب التركي لديه اهتمامات أخرى تحتل قائمة أولوياته
المرجح أن تكون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة نقطة تحول في سياسة استثمار اللاجئين لتحقيق مكاسب سياسية، خاصة مع توجه التحالف الحاكم في تركيا لاستكمال جهوده الرامية لتسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين بعد إنشاء تجمعات سكنية لهم شمال غربي سوريا، وفتح مسار تفاوضي مع النظام السوري من أجل تحصيل ضمانات لتسهيل عودة اللاجئين إلى باقي المناطق السورية، وإبراز هذا الجهد أمام وسائل الإعلام التركية، مما يعني أن ورقة اللاجئين ستفقد كثيرا من بريقها وتأثيرها لدى الشارع التركي، الذي يبدو هو الآخر أصبح أكثر وعياً وأقل تأثراً بالمعلومات التضليلية التي تُنشر حول اللاجئين، ومدرك أنها في سياق التوظيف السياسي ليس أكثر.
لقد أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة في تركيا غياب الجدوى الكبيرة لعملية التحريض على اللاجئين، وأن الناخب التركي لديه اهتمامات أخرى تحتل قائمة أولوياته، بل توجد شريحة من الشعب التركي لا تخطئها العين، ترفض خطاب الكراهية تجاه الآخر وخاصة العرب، ولذا فمن المنتظر أن يتراجع الجموح باتجاه التحريض خلال الحملات الانتخابية المقبلة، وإن كان لن يغيب بالمطلق، بل المتوقع أن تحافظ بعض التيارات على سياساتها التحريضية.